مارس 28, 2024

روابط القاعدة المتبدلة

أحمد أبازيد

يمكن اعتبار أن تشكيل تنظيم الدولة (داعش) كان أقوى ضربة توجه إلى تنظيم القاعدة منذ تأسيسه، حيث سيطر مكانه على عرش الجهاد العالمي، كما شكلت حرب الإرهاب بحلّتها الأمنية وتكثيف الاغتيالات النوعية في عهد أوباما ضربة أخرى لكوادره وقياداته، خاصة لدى فرعه العربي الأعرق في اليمن، بينما يعتبر فك ارتباط جبهة النصرة بالتنظيم وتشكيل جبهة فتح الشام، آخر عوامل إضعاف حضور القاعدة، بحكم أن جبهة النصرة كانت أكبر فروع القاعدة وأقواها وأوسعها حضوراً وتأثيراً، دون أن يعني ذلك انسحاب القاعدة أو غيابها عن العالم العربي كأيديولوجيا على الأقل.

ومنذ توسع تنظيم القاعدة إلى فروع إقليمية بعد تشكيله في أفغانستان نهاية الثمانينيات، كان الرابط الأيديولوجي يتفوق على الرابط التنظيمي في الانتساب لتنظيم القاعدة، وتتفاوت قوة الرابط التنظيمي أو قدرة قيادة القاعدة على فرض التوجهات ما بين الفروع المختلفة، إضافة لتأثير التداخل في القيادات الجهادية –بين الفرع والقيادة- على مدى الاستقلالية أو التقارب، ويمكن قراءة هذه الجدلية من خلال عدة محطات أو مداخل لمقاربة هذه العلاقة:

1- الأيديولوجيا والتنظيم بين المركز والفروع

تظهر وثائق أبوت أباد درجة متقدمة من النقد تجاه فرع القاعدة في بلاد الرافدين بقيادة أبو مصعب الزرفاوي، ثم تجاه دولة العراق الإسلامية بقيادة أبو عمر البغدادي، دون أن يخلّ ذلك بالحديث الرسمي عن هذه التنظيمات كفروع للقاعدة والدفاع عنها ضد منتقديها في العلن، بينما نجد درجة أعلى من التنسيق وإرسال التوجيهات لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب مثلاً.

ولكن رغم أن الأيديولوجيا تبدو سبب الانتساب الأول للتنظيم وأطروحة الجهاد العالمي التي يتبناها من جهة الفروع، ورغم أن قيادة القاعدة كانت ترسل توجيهات مبكرة بتفضيل عدم إعلان الانتساب للتنظيم لتأثيراته السلبية على الحاضنة الشعبية أو الخصم المحلي والدولي، كما تظهر وثيقة أزواد وكلمات أيمن الظواهري نفسه حول سوريا، فإن تجربة دولة العراق الإسلامية وحركة الشباب المجاهدين في الصومال، وكلاهما توفر على أيديولوجيا وممارسات أكثر تشدداً من منهج قيادة القاعدة المعلن، تظهر ان قيادة القاعدة بقيت حريصة على إظهار تماسك التنظيم والدفاع عن الفروع حتى لو لم تلتزم بأيديولوجيته وأوامره ما دام ملتزماً بالعمل باسم القاعدة، بينما حين أعلنت دولة العراق الإسلامية تحولها إلى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” ثم إلى “الدولة الإسلامية” وخرجت عن العمل باسم القاعدة، ظهرت إلى العلن حرب التنافس على تمثيل وقيادة الجهاد العالمي.

وتظهر مراسلات أبو أباد مع الفروع المختلفة، إضافة لما نشره تنظيم الدولة بعد الصراع مع القاعدة، هشاشة الروابط التنظيمية إضافة إلى ضعف التواصل والمعلومات لدى قيادة القاعدة عن فروعها، خاصة فيما قبل مرحلة وسائل التواصل الحديثة.

2- العراق: التوحش الأقصى

مثلت تجربة فرع القاعدة في بلاد الرافدين وتحولاته التجربة الأهم والأكثر دلالة وتأثيراً على طبيعة العلاقة ما بين قيادة التنظيم والفروع، حيث قبلت قيادة القاعدة –كما تظهر وثائق أبوت أباد- بيعة الزرقاوي دون أن توافقه استراتيجيته وتكتيكاته وأيديولوجيته في العراق، من حيث استهداف عموم الشيعة أو التوسع في العمليات الانتحارية وخطاب التكفير أو العلاقة الصدامية مع المقاومة العراقية الوطنية، وقد غيّر الزرقاوي العمل باسم القاعدة إلى (مجلس شورى المجاهدين) الذي تشكل كتحالف لفرع القاعدة مع فصائل مقاومة وطنية وجهادية مختلفة ولم يلبث ان تحول بعد مقتل الزرقاوي وبقيادة النواة الصلبة لفرع القاعدة إلى (دولة العراق الإسلامية) بعد أيام من إعلان ما سمّي (حلف المطيبين) كتحالف ما بين القاعدة وعشائر عراقية.

وقد قادت دولة العراق الإسلامية سلسلة من عمليات التفكيك والتصفية ضد الفصائل المعارضة لتشكيل الدولة أو قيادتها، من الفصائل التي كانت ضمن مجلس شورى المجاهدين أو خارجه، وقد أرسل عدد من الشخصيات الجهادية رسائل تحذير وطلب بالتدخل من قيادة القاعدة ضد ممارسات دولة العراق الإسلامية وفرع القاعدة في بلاد الرافدين من قبله، ولكن دون ردّ مقابل من قبل قيادة القاعدة، والمرجح أن ذلك بسبب عدم القدرة على التأثير والتوجيه رغم الحرص على التبني، ولعلّ أشهر هذه الوثائق الرسالة المنسوبة إلى (أبو سليمان العتيبي) بعنوان “رسالة الشيخ أبي سليمان العتيبي للقيادة في خراسان”، الذي شغل منصب قاضٍ في فرع القاعدة في بلاد الرافدين ثم في دولة العراق الإسلامية قبل أن يهرب من التنظيم
وقد قبلت قيادة القاعدة بيعة (أبو عمر البغدادي) كأمير لدولة العراق الإسلامية من خلال تزكية (أبو حمزة المهاجر) دون أن تمتلك معرفة كافية به، واستمرت قيادة القاعدة وآلتها الدعائية بالدفاع عن دولة العراق الإسلامية رغم توسع “الدولة” في الممارسات التي انتقدها منظرو القاعدة سابقاً لدى الزرقاوي، ثم حصل الصدام حين تحول التنظيم إلى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (9/4/2013م) ثم إلى “الدولة الإسلامية”.

وقد أظهرت تجربة العراق التي بلغت المدى الأوسع من التوحش والعنف والتشدد الأيديولوجي والعملياتي، أن عدم الالتزام بتعليمات القاعدة أو تغيير العمل باسمها لا يعني بالضرورة انفتاحاً أو مرونة أكبر، على عكس التجربة الليبية.

3– الفرع الصومالي: براغماتية الانتساب

تشكلت حركة الشباب المجاهدين في 2006م، بعد سيطرة المحاكم الإسلامية على العاصمة الصومالية مقديشو، وقد قادت الحركة بعدها سلسلة من الحملات ضد الخصوم الداخليين وضد القوات الإثيوبية وفرضت سلطتها على مساحة واسعة من الصومال.

وتشير رسائل أبوت أباد إلى أن الزعيم السابق للقاعدة (أسامة بن لادن) لم يكن مطمئناً لسياسة “أبو الزبير”، ولم تصبح الحركة فرعاً رسمياً للقاعدة إلا بعد تولي الظواهري زعامة القاعدة، وتم قبول بيعة الحركة للقاعدة في شباط 2011م، ويشير بعض الخبراء إلى أن البيعة كانت تكتيكاً من (أبو الزبير) ليتقوى على خصومه الداخليين (حتى داخل حركة الشباب) ولجذب المتطوعين بعد التراجع الميداني، كما أن القاعدة كانت محتاجة في الوقت نفسه إلى إثبات صمودها وتوسعها بعد مقتل زعيمها التاريخي.

ورغم أن عمليات الحركة الإشكالية لم تتوقف بعد انضمامها للقاعدة، بل تم قتل شخصيات جهادية معروفة من قبل حركة الشباب، عدا عن العمليات وسط المدنيين، وتراجعها الكبير ميدانياً، فإن قيادة التنظيم لم تنتقد أو تفصل فرعها الصومالي على العلن، كما حصل من قبل مع فرعها العراقي، مع بقاء النقد ومحاولة التصحيح في المراسلات السرية على الأغلب.

ولكن مرجعيات وأنصار القاعدة كانوا قد شنوا حملة هجومية في المنتديات الجهادية ومواقع التواصل ضد الفرع الصومالي (حركة الشباب المجاهدين) حين انتشرت شائعات عن مبايعته لتنظيم الدولة، وظهر التذكير بتجاوزات الفرع وتشدده وأنه لا يمثل “اعتدال” القاعدة، قبل أن يصدر “الشباب” بياناً يؤكد بيعتهم للظواهري، وتم اغتيال قائد الحركة “أحمد عبدي” والمعروف بلقبه “مختار أبو الزبير” (2/9/2014) بعد وقت قصير ونعته قيادة القاعدة وأنصارها.

4- الربيع العربي: أنصار الشريعة

مارست قيادة القاعدة والتيار الجهادي المعولم والتيار السلفي الجهادي سلسلة من التكيفات لضمان بناء شبكات وحواضن قبل الربيع العربي وبعده، لعلّ أبر هذه التكيفات كان كلمات قادة القاعدة التي رحبت بثورات الربيع العربي واعتبرتها فاتحة واقع جديد ضد الأنظمة المعادية ويتيح إمكانات عمل أوسع ضمن المجتمعات العربية، وقد تلا هذه الكلمات – كما يشير الأستاذ حسن أبو هنية- نشوء ظاهرة “أنصار الشريعة” في اليمن وتونس ومصر وعدة بلدان، والتي مثلت التكيف العملي الأهم مع موجة الربيع العربي لبناء شبكات وحواضن جهادية في المجتمعات الجديدة، وقد بدأت ظاهرة أنصار الشريعة سلمية ولكن لم تلبث أن تحولت إلى العمل المسلح، أو تسمت فروعٌ مسلحة قديمة أحياناً بهذا الاسم.

5- ليبيا: حروب العصابات السياسية

تشكلت الجماعة الإسلامية المقاتلة بعد وأد تجارب جهادية عدة في ليبيا في الثمانينيات، وبعد تجربة “الأفغان الليبيين” في القتال إلى جانب تنظيم القاعدة والطالبان في أفغانستان، وانتقلت للعمل في ليبيا بهدف إسقاط نظام القذافي وقيام نظام إسلامي في ليبيا (18/10/2015م)، ولكن تم اعتقال أغلب قادتها داخل وخارج ليبيا خلال السنوات اللاحقة ومن ضمنهم عبد الحكيم بلحاج أبرز قادة الحركة، لتعلن عن مراجعات داخل السجون بعد سنوات ظهرت في كتاب “دراسات تصحيحية في الحسبة والجهاد والحكم على الناس” (2010م).
وقد حافظت الجماعة الليبية المقاتلة على استقلاليتها في أفغانستان، رغم أن الجهاديين الليبيين في أفغانستان كانوا ضمن نخب الصف الأول من قيادة القاعدة مثل “عطية الله الليبي” و “أبو يحيى الليبي”، وكانوا حملة صورتها الأكثر اعتدالاً.

وبعد اعتقال أغلب قادة الجماعة في ليبيا، وبعد بيعة “الجماعة السلفية للدعوة والقتال بالجزائر” للقاعدة، فيما بدا كمحاولة توسع مغاربي لقيادة القاعدة، نشرت مؤسسة السحاب في (3/11/2017م) تسجيلاً صوتياً لأيمن الظواهري يعلن فيه أن “كوكبة من أهل السبق (…) من أفاضل الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا يعلنون انضمامهم لجماعة قاعدة الجهاد”، وتكلم في الشريط نفسه القيادي في الجماعة “أبو الليث الليبي” ليؤكد البيعة، ولكن ما أكدته قيادة الجماعة في ليبيا لاحقاً –بعد جدل قرابة عامين لدى الجمهور الجهادي- أن الانضمام كان فردياً ولم يمثل اندماجاً من الجماعة في التنظيم.

كان للجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا، خصوصية عن التنظيمات الجهادية المحلية التي انضمت لتنظيم القاعدة أو التي ذابت، من خلال مراجعاتها وتكيفاتها النظرية والعملية، حيث تخلت الجماعة عن العمل باسم القاعدة واستراتيجياتها، وعملت بداية الثورة الليبية ضمن الإطار الوطني في تحالف مع الفصائل الثورية الليبية عسكرياً، وتحولت بعد ذلك إلى اسم “الحركة الإسلامية للتغيير” وشاركت في العملية السياسية، فيما أسماه الباحث الجهادي عبد الله بن محمد (شؤون استراتيجية): حروب العصابات السياسية.
ورغم أن الجماعة لم تبايع التنظيم رسمياً، إلا أن علاقتها بالتنظيم ومسيرة تحولاتها البنيوية والأيديولوجية والاستراتيجية، تبرز جوانب من طبيعة التحولات والاختلافات في الحركات الجهادية المحلية، وطبيعة العلاقة ما بين قيادة القاعدة وهذه الحركات، ومحاولة قيادة القاعدة المستمرة التوسع من خلالها لتنظيم العمل الجهادي العالمي كأولوية استراتيجية وإن اختلفت هذه الحركات فيما بينها ضمن جزئيات أيديولوجية أو سلوكية تشدداً أو مرونة.

6- سوريا: الصراع الأعقد

في 24/1/2012م تم الإعلان رسمياً عن تشكيل “جبهة النصرة لأهل الشام”، بينما يشير قادة التنظيم إلى أنه كان موجوداً قبل ذلك بأشهر، وكانت أولى عمليات الجبهة المعلنة تفجير الميدان بدمشق (6/1/2012م) ثم تتابعت عمليات التنظيم المختلفة وتوسع مع الوقت امتداداً وعدداً وعتاداً، وفي 11/12/2012م أدرجت الإدارة الأمريكية تنظيم جبهة النصرة على لائحة الإرهاب، قبل أن يعلن التنظيم ولاءه أو ارتباطه بتنظيم القاعدة وإن كان أخذ منذ البداية السمت والخطاب الجهادي السلفي والمعولم المرتبط بالقاعدة، وقد أعلن الجولاني ارتباطه بالقاعدة وبيعته لزعيمها أيمن الظواهري في 10/4/2013م، كمناورة للتهرب من بيعة البغدادي الذي أعلن حل جبهة النصرة وتشكيل “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، حيث استنجد الجولاني بشرعية جهادية أقدم، ولكن ذلك لم يغير من أن نسبة كبيرة من جهاديي جبهة النصرة تحولوا إلى تنظيم “داعش” بعد إعلانه، وبعد هذا الإعلان أدرج مجلس الأمن جبهة النصرة على لائحة الإرهاب الدولية (30/50/2013م).
وتشير شهادة مقربين من قيادة “الجبهة الإسلامية” إلى أن أيمن الظواهري أرسل للجولاني أن ينضمّ إلى الجبهة الإسلامية لدى تشكيلها (22/11/2013م) وهو ما يعني فك ارتباطه بالقاعدة، لكن قيادة جبهة النصرة رفضت ذلك، كما أشار الظواهري نفسه في حلقات مرئية منشورة إلى أنه كان ينصح جبهة النصرة بعدم إعلان ارتباطها بتنظيم القاعدة لتبعات الأمر السياسية والشعبية، وقد تتالت الدعوات الموجهة لجبهة النصرة من قبل القيادات الثورية وخاصة في حركة أحرار الشام الإسلامية لفك ارتباطها بتنظيم القاعدة، سواء وأثناء قيادة هاشم الشيخ (أبو جابر) لحركة أحرار الشام الإسلامية، وهي الدعوة التي كررها قائد حركة الأحرار الأسبق (مهند المصري) عند اجتماعه بالجولاني (كانون الثاني 2016م) لمناقشة مبادرة توحد الفصائل (مبادرة طلبة العلم).

وكانت جبهة النصرة تواجه هذه الدعوات برفض عنيف، وصل لدى بعض منظّري وقادة التنظيم إلى وصفها بدعوات موجهة من العملاء والشياطين و “رسل المرتدين”، قبل أن يستجيب التنظيم نفسه للأمر بعد الاتفاق الروسي الامريكي ويظهر الجولاني معلناً عن جبهة فتح الشام (28/7/2016م).

وقد مثلت جبهة النصرة أهمية خاصة لتنظيم القاعدة، وتجربته الأكبر والأقوى والأكثر امتداداً وتأثيراً، عدا عن تحول جبهة النصرة إلى ملاذ ومركز تجمع لقيادات تنظيم القاعدة، خاصة منذ بداية 2015م، مع تراجع قوة القاعدة في المركز ومعظم الفروع الأخرى، بتأثير الخلاف مع حركة الطالبان أو الصراع مع تنظيم داعش أو حملة الطائرات دون طيار التي اغتالت عدداً كبيراً من قادة التنظيم في اليمن خلال العامين الأخيرين، وهو ما جعل جبهة النصرة مركز ثقل القاعدة الأهم إن لم يكن الوحيد، وهو ما عبّرت عنه كلمة أيمن الظواهري “انفروا للشام” (8/5/2016م) ثم كلمة حمزة بن أسامة بن لادن “ما القدس إلا عروس مهرها دمنا” (9/5/2016م)، ما يوحي بأن قضية فك الارتباط لم تكن من القضايا المتوافق عليها قبل فترة قريبة من الإعلان عنه، وأنه كان هناك سعي –من جهة قيادة القاعدة- لتمتين الرابط التنظيمي مع الفرع الشامي، رغم الاستقلالية التي أظهرتها جبهة النصرة كتنظيم منذ بدايتها، مع هامش مسبق من التأثير الأدبي والفكري لقيادة القاعدة.
وكان من أهم قيادات القاعدة الذين توجهوا إلى الفرع الشامي هم المجموعة التي أفرج عنها في إيران آذار 2015م وهم سيف العدل وأبو الخير المصري وأبو محمد المصري وخالد العاروري (أبو القسام) وساري شهاب، إضافة إلى مجموعة من القادة المبكرين في النصرة الذين تم تسميتهم بمجموعة خراسان، مثل أبو فراس السوري ومحسن الفضلي والذين استهدفتهم الطائرات دون طيار، وفئة من الجهاديين غير المرتبطين بالقاعدة والذين توجهوا إلى سوريا مثل أبو الفرج المصري وأبو أيوب المصري، وغيرهم.

وقد أثّر توجه قيادات تنظيم القاعدة إلى سوريا على طبيعة التحالفات وصراع التيارات داخل جبهة النصرة، والتي ضمت تيارات متباينة في موقفها من تنظيم داعش ومن العلاقة بالفصائل الثورية والمجتمعات المحلية، ولعلّ فئة المهاجرين من المغرب العربي والتيار الأردني مثّلا الأكثر تشدداً بينها، كما مثل أبو ماريا القحطاني التيار المعتدل والدافع تجاه علاقة توافقية مع الفصائل المحلية.

وقد حرص الجولاني على أن تظهر خطوة تشكيل “جبهة فتح الشام” كقرار بالتنسيق مع قيادة القاعدة، حرصاً على كسب تأييد العناصر والجهاديين، فنشرت مؤسسة المنارة البيضاء (التابعة لجبهة النصرة) تسجيل نائب الظواهري كتمهيد للقرار حيث قال فيه:

“نوجّه قيادة جبهة النصرة الى المضي قدماً بما يحفظ مصلحة الإسلام والمسلمين ويحمي جهاد أهل الشام ونحثهم على اتخاذ الخطوات المناسبة تجاه هذا الأمر”

وظهر الجولاني في كلمته في مظهر قريب من صورة أسامة بن لادن المعروفة، وعلى يمينه أحمد سلامة مبروك (القيادي في جماعة الجهاد المصرية والمقرب من أيمن الظواهري والشرعي في جبهة النصرة بعد انتقاله لسوريا والذي تم اغتياله بعد ذلك)، كشخصية جهادية عالمية، وعلى يساره عبد الرحيم عطون المسؤول الشرعي لجبهة النصرة.

وبعد ستة أشهر من إعلان فك الارتباط تم الإعلان عن تشكيل هيئة تحرير الشام (28/1/2017م)، بعد حملة واسعة قامت بها جبهة فتح الشام ضد الفصائل الثورية في الشمال السوري، وبعد فشل محاولاتها الاندماج ضمن الفصائل المحلية أو كسب مشروعية دولية، كمحاولة أخيرة لفرض أمر واقع داخلياً وخارجياً.
وتمثل تجربة جبهة النصرة من تبعيتها لدولة العراق الإسلامية ثم تنظيم القاعدة ثم جبهة فتح الشام ثم هيئة تحرير الشام، مسيرة كثيفة من تحولات المظهر والخطاب في مسيرة الجهاديين في سوريا عامة، ومسار تنظيم القاعدة خاصة، عدا عن تأثيره على الوضع السوري بالعموم.

حتى لو نُظر إليه على أنه “تحول شكلي”، فإن أهمية العوالم الرمزية في تشكيل بنية التنظيمات الجهادية وأيديولوجيتها لا تقل تأثيراً عن العالم الموضوعي على المدى البعيد، وإن كانت مرونة المظهر والخطاب قد لا تنعكس بالضرورة على الاستراتيجية والأيديولوجية التعبوية بشكل مباشر ولا على العلاقة مع الفصائل والمجتمعات المحلية، وهي العلاقة التي زاد تشددها و”هجوميتها” لدى جبهة النصرة على الأرض مع مرونة خطابها الإعلامي وتحالفاتها، مع تحول اهتمام قيادة التنظيم الجديد من كسب شرعية الجهاد العالمي، إلى كسب الشرعية المحلية والسياسية.

خلاصة

تظهر وثائق تنظيم القاعدة وتجارب فروعه تفاوتاً في مدى الارتباط ما بين التنظيم الأم وفروعه، ما بين الهشاشة أو التأثير الأدبي أو اتخاذ قرارات حقيقية.

كما أن تنظيم القاعدة منذ تأسيسه كان أشبه بمظلة جهادية تمنح الشرعية للجماعات الباحثة عن رأسمال رمزي بين الجماعات المنافسة.

وهو ما جعل من الانتساب للتنظيم نوعاً من البراغماتية المشتركة أحياناً، حيث يرغب التنظيم في إثبات حضوره و”عالميته” -خاصة في الساحات المهمة كالعراق وسوريا- وترغب الجماعات الجهادية المحلية في كسب شرعية مضاعفة تخدم التجنيد والتعبئة في منافستها للجماعات المحلية أو في حروبها مع الأنظمة.

ورغم اختلاف التنظيم الأم مع بعض فروعه في تكتيكاتهم أو خطابهم، مثل فرع العراق والصومال، إلا أنه حرص على الإبقاء على الرابط التنظيمي الجامع في خطابه الإعلامي لإظهار وحدة قضية “الجهاد” مقابل “الأعداء” ولعدم إظهار ضعف القيادة أمام الأنصار، مع الإبقاء على محاولات النقد أو التأثير في المراسلات.

ومرت معظم فروع القاعدة بسلسلة من تحولات الخطاب ومن التكيفات وإعادة الإنتاج، وصلت في أكثر من حالة إلى تغيير الاسم والانفكاك عن مرجعية تنظيم القاعدة نفسه، إلا أن هذه التحولات لم تأخذ منحى واحداً نحو مزيد من المرونة أو التشدد، وكانت نزعة التشدد والهجومية في التعامل مع الجماعات المحلية سمة شبه عامة على معظم فروع القاعدة حتى التي مرت بتحولات أو أعلنت فك ارتباطها بالتنظيم مثل تنظيم داعش أو جبهة فتح الشام.

ولا شك أن تنظيم القاعدة بعد الضربات التي تلقاها منذ الربيع العربي، سواء في الضربات الأمريكية، أو إعلان تنظيم داعش، أو صدامه مع الثورات الشعبية، يعيش مرحلة أشبه بالاحتضار على المستوى التنظيمي والأيديولوجي، ولكن إنعاشه من جديد يبقى احتمالاً قائماً في ساحات نزاع جديدة.


أحمد أبازيد: باحث في الشؤون السورية

ضع تعليقاَ