أبريل 19, 2024

جلال خشيب: “الجزائر بوتفليقة” في السينما الأمريكية

إعداد: جلال خشيب[1]

تُمارس الولايات المتحدة، عبر وزيرة خارجيتها السيدة “إليزابيث ماكورد”، ضغوطاً على دكتاتور الجزائر السيّد “حدّاد” بهدف نقل السلطة بطريقة سلمية إلى البروفيسور “أركون”، في مقابل أن توفّر الولايات المتحدّة منفى آمناً للرئيس حدّاد في جزيرة مالطا، باعتبار ذلك بمثابة الطريقة الوحيدة لتجنيب الجزائر دخول حرب أهلية مع تدّخل القوات الأمريكية والفرنسية لخلع الدكتاتور. يرفض الدكتاتور التخلّي عن السلطة معتبراً نفسه الجزائر (I’m Algeria)، مستعرضاً قوته وتماسك هياكل دولته ودعم الجيش له، عبر تعريفها بالجنرال “مراد شرّاد” رئيس أركان الجيش الجزائري وصديقه المخلص كما يزعم، يلتفتُ لتعريفها بالبقية ثمّ يستدرك قائلاً: “البقية لا تهم”.

يُمارس الدكتاتور كلّ أنواع العنجهية وإستظهار القوة والجبروت في وجه الأمريكيين، مؤكداً أنّهم لن يستطيعوا تحريكه من مكانه قيد أنملة، بل ويتجرأ أيضاً على إعدام البروفيسور أركون “مرشح الولايات المتحدة لرئاسة الجزائر” أمام أعينهم، متهّماً إيّاه بالخيانة والعمالة للأمريكيين.

تمارس وزيرة الخارجية الأمريكية بعدها لعبة خفية عبر الالتقاء بالجنرال “مراد شرّاد”؛ لإقناعه بأن يستولي على السلطة عبر انقلاب عسكري ويطرد الدكتاتور، محاولةً إقناعه بأنّ هذا هو السبيل الوحيد للحيلولة دون سفك دماء آلاف الأبرياء الجزائريين بحسب تعبير الوزيرة، خاصة أن الجنرال مراد قد أظهر تعاوناً مع القوات الأمريكية في محاربة جماعة “حزب الشهيد” الإرهابية، التي عاثت فساداً في صحراء الجزائر.

في مشهد درامي يتدخّل الرئيس الدكتاتور وينتبه للعبة التي تُحاك ضدّه، فيأمر حرّاسه والجنود المحيطين به بإلقاء القبض على “الجنرال الخائن”، فيُشهر الجنرال مسدّسه ويطلب من الجنود إلقاء القبض على الرئيس، معلناً نهاية الدكتاتور الذّي سُحِلَ إلى الخارج في مشهد دراماتيكي. كان ذلك ملخص الحلقة الثانية من مسلسل السيدة وزيرة الخارجية (Madam Secretary)  في موسمه الثالث.

يمكن للمتتبّع للشأن الجزائري تسجيل العديد من الملاحظات التّي أظهرتها الحلقة كما سنفعل فيما يلي.

أولاً: تسمية الرئيس الدكتاتور باسم “حدّاد”، هذا الاسم الذّي لا يشتهر به في جزائر اليوم إلا شخص واحد، وهو السيد علي حدّاد رئيس منتدى رجال الأعمال الجزائريين “الباترونا”، والذي عرف اسمه بروزاً خلال السنوات القليلة الماضية كأحد الأذرع المالية لمؤسسة الرئاسة، وبالضبط لشقيق الرئيس الجزائري سعيد بوتفليقة، أو قد نقول المُحتمي بجناح الرئاسة.

لقد اتضّح للعيان مؤخّراً طبيعة العلاقة المتينة التي تربط الطرفين حينما عُزل رئيس الوزراء عبد المجيد تبّون بطريقة كوميدية، بعدما بلغه “تهديد واضح من الأعلى” بأن يتوقّف عن “التحرّش برجال الأعمال”، وذلك بعدما شرع الوزير تبّون في إجراءات صارمة تمسّ بمصالح هؤلاء، وقد تؤدي في النهاية إلى إنهاء علاقة المال بالسياسة في الجزائر بشكل مطلق، بعد تنامي هذه العلاقة في الأعوام الأخيرة بشكل سيؤثر سلباً على مصلحة البلاد. وها قد عُزل تبّون بعد شهرين فقط من تولّيه منصب رئاسة الوزراء.

إنّها إشارة كوميدية من السينما الأمريكية حينما أطلقت على الرئيس الدكتور تسمية حدّاد، ربّما ملاحظةً منها تغوّل أصحاب المال ونفوذهم المتزايد في المشهد السياسي الجزائري، بعد عقود من الاحتكار الكلّي للنفوذ من قِبل المؤسسة العسكرية، وإن كنّا نعتقد من جهتنا بالحدود الضيّقة لهذا النفوذ المالي في المشهد السياسي الجزائري الراهن.

ثانياً: تمّ اختيار شخصية تشبه إلى حدّ ما الرئيس عبد العزيز بوتفليقة شكلاً، مع فارق الحالة الصحية طبعاً، لكن مع تطابق شديد في شعور الرئيس بالقوة التي استمدّها منذ سنوات داخل الدولة، بعدما عزل جنرالات كُثراً، ونسج شبكة علاقات جيّدة مع جنرالات آخرين وأطراف سياسية ومالية نافذة داخل البلاد وخارجها.

ثالثاً، تسمية مرشّح الرئاسة الجديد من قِبل الأمريكيين وهو السيد “أركون”، مع إطلاق لقب بروفيسور عليه. لا يوجد عند الجزائرين في الحقيقة إلا أركون واحد وفقط، ونعني بذلك البروفيسور محمد أركون رحمه الله، أحد كبار المفكرين والفلاسفة العقلانيين الجزائريين إن صحّ التعبير. وقد عُرف من خلال مؤلفاته الداعية للعقل الناقد والتنوير والحريات، وبمحاربة التطرّف الفكري والديني عبر مشروعه في نقد العقل الإسلامي، وها هي السينما الأمريكية تُرشّح اسمه للرئاسة الافتراضية. إنّها إشارة ذكية منهم ومعرفة جيّدة بالساحة الفكرية الجزائرية، وكأنّهم يقولون: “نريد رئيساً لبيرالياً مستنيراً لا دكتاتوراً رجعياً مستميتاً لأجل السلطة”.

للأسف، أُعدم أركون في هذه الحلقة وهو الذي أُعدم حقيقةً حينما كُفِّرَ في حياته وزُندق، وحذّر المتطرّفون من كتبه، وافتُقِد اسمه بين الشباب المثقف الصاعد في الجزائر.

رابعاً: قوة المؤسسة العسكرية ودورها التاريخي الحاسم في صنع المشهد السياسي الجزائري. يتّضح هذا الأمر في ذلك المشهد الذي قام فيه الدكتاتور بتقديم الجنرال “مراد شرّاد” للوزيرة، ثمّ أراد أن يُعرّفها بالبقية ليستدرك قائلاً: “البقية لا تهمّ”. وبالفعل لم تكن “البقية” على درجة من الأهمية إطلاقاً طيلة التاريخ السياسي للجزائر، فلطالما كانت الحكومات واجهة، والرئيس القادم إلى قصر المُرادية مُجمعٌ عليه سلفاً بين العسكر.

خامساً: ربّما يُظهر مشهد لجوء الخارجية الأمريكية إلى الجنرال رئيس هيئة أركان الجيش رهانها المستقبلي على دور الجيش في إحداث تغيير سياسي ما في الجزائر، إذا ما حدث ابتعدت الجزائر في سياستها الخارجية عن المصالح الأمريكية في شمال أفريقيا. يشير ذلك أيضاً إلى معرفة الولايات المتحدة بمراكز القوة الحقيقية في الجزائر، فلن يكون الرهان على رجال الأعمال (تسمية حدّاد ليست صدفة)، أو شخصيات سياسية تاريخية متبقيّة، وإنّما يبقى الجيش مفتاح أيّ تغيير مستقبلي في الجزائر.

في الحقيقة، الإيمان بالدور الحاسم للجيش والرهان عليه صار أمراً متداولاً بين العديد من المثقفين والنقّاد السياسيين في الجزائر مؤخّراا، حتّى صاحب هذه المقالة يؤمن بأنّ التغيير الحالي الممكن الوحيد والسلمي لحالة الركود السياسي الجزائري والخالي من رائحة الدم، لن يأتي إلاّ من طرف الجيش، من طرف ضبّاط وجنرالات شباب من الجيل الثاني أو الثالث (منذ استقلال الجزائر) ربّما قد تأخذهم الغيرة على الجزائر، فيُنهون هذه المهزلة السياسية بعدما بلغت البلاد الحضيض رغم ثروة البيترودولار الهائلة، في الوقت الذي تعرف فيه الأمم الأخرى صعوداً تاريخياً من العدم.

نقول هذا على ضوء العُقم السياسي-المدني الذّي تعرفه البلاد، وفقدان أغلب -إن لم تكن كلّ- الوجوه السياسية لشرعيتها ومصداقيتها عند الشعب، لقد انعدمت ثقة الشعب حقّاً في الجميع، في مقابل عجز هذا الشعب أيضاً عن إحداث أي تغيير سلمي أو ثوري يُحسّن به ظروفه الاجتماعية خصوصاً؛ خوفاً من أن يؤدّي ذلك بالجزائر إلى التهلكة كما حدث مع جيرانهم العرب، خصوصاً أنّ ذاكرة التسعينيات الدامية لا تزال حيّة في مخيال الجميع.

تفتح لقطة الانقلاب في المسلسل، بعد اتفاق الوزيرة مع الجنرال الذي تعاون مع الأمريكيين كما ذكرنا، باب الحديث عن حدود النفوذ الأمريكي داخل دوائر صنع القرار في الجزائر، فلقد عُرف تاريخياً النفوذ القويّ لفرنسا في الجزائر، ولم يجرِ الحديث عن مسألة النفوذ الأمريكي في الجزائر إلاّ بعد مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وانفتاحه في سياسته الخارجية على الغرب وعلى الولايات المتحدة خصوصاً؛ سعياً منه إلى “تنويع الحلفاء” بين الشرق والغرب، واللعب على ميزان القوى والتنافس الحاصل في شمال أفريقيا بين أمريكا وروسيا (حليف الحرب الباردة) من جهة، وبين فرنسا (المستعمر القديم) والولايات المتحدة من جهة أخرى؛ لأجل تحصيل مكاسب سياسية داخلية وجيوبوليتيكية إقليمية.

ربّما لن يكون المقام مناسباً هنا لفتح باب الحديث عن هذه القضية، لذلك سوف نكتفي بالإشارة إلى بعض الأمثلة وحسب عمّا تمّ تسميته “بجناح أمريكا في الجزائر”. وأوّلها الرئيس بوتفليقة الذّي أظهر تقارباً كبيراً في دبلوماسيته مع وننشطن منذ قدومه سنة 1999.

أيضاً يُشار في هذا الصدد إلى المدير العام السابق لمجمع سوناطراك السيّد شكيب خليل، تلك الشخصية التّي أثارت جدلاً طويلاً داخل الجزائر بعدما اتُّهم باختلاسات كُبرى، خرج منها بريئاً، في سونطراك التّي تُعتبر الشركة النفطية الأولى التّي تعتمد عليها الجزائر (نحو 98% من الصادرات الجزائرية نفط تنتجه هذه الشركة، أي نسبة مرتفعة جدّاً من المدخول القومي)، وقد أوردت صحف وطنية أنّ الرجل يحمل الجنسية الأمريكية ويُحاضر في جامعاتها أيضاً.

هناك شخصية أخرى مثيرة للجدل والأمر متعلّق هنا بالسيد عبد المؤمن ولد قدّور، الذّي سُجن سابقاً بتهمة اختلاس وفساد كبير في القطاع النفطي، لقد عاد الرجل مجدّداً إلى الواجهة، بل وعُيّن مؤخّراً على رأس أكبر شركة نفطية في البلاد أي سونطراك، وكان الأمر قد تمّ بضغط أمريكي كما أوردت مصادر وطنية، لا شكّ بأنّ الأمر الأهم لأمريكا في الجزائر هو النفط، والنفط قبل كلّ شيء.

سادساً: تُظهر مواقف الخارجية الأمريكية (في المسلسل) من طريقة التغيير في الجزائر توافقاً مع تحليل أوردناه في دراسة سابقة لنا سنة 2012، في معرض حديثنا عن الجزائر في ظلّ الوضع الإقليمي المتردّي بعد سقوط النظام الليبي، وأيضاً حينما تحدّثنا عن أسباب عدم حدوث “ربيع عربي” في الجزائر في لقاء تلفزيوني مع قناة الشرق هنا بإسطنبول، كانت إحدى الأسباب التّي أوردناها آنذاك أسباباً خارجية تتعلّق بالوضع الإقليمي الهشّ في شمال أفريقيا، وما يُمثّله من خطر وتهديد للضفّة الشمالية للبحر المتوسط أي لأوروبا. فالجزائر تلعب –بجغرافيتها الرحبة- دور الدولة الحامية، أو الكتلة الجيوبوليتيكية العازلة لجميع أشكال المخاطر والتهديدات القادمة من الضفة الجنوبية للمتوسط باتجاه الشمال، كالهجرة غير الشرعية والجماعات الإرهابية العابرة للقوميات وما إلى ذلك.

لقد أثبتت الحالة الليبية صحّة هذا التحليل، إذ أدّى سقوط النظام الليبي عبر تدخّل عسكري، ثمّ تحوّل ليبيا إلى دولة فاشلة تغيب عنها سلطة مركزية محتكرة لوسائل القهر المادي، إلى حالة من الفوضى في منطقة الساحل الأفريقي-جنوب الصحراء وإقليم المغرب الكبير، حالة من الفوضى لا تخدم مصالح الحلفاء الأوروبيين خصوصاً، ولقد سجّل المراقبون منذ ذلك الوقت ارتفاع مستوى الأعمال الإرهابية والتفجيرات في عواصم أوروبية غربية نفذّتها خلايا نائمة أو “مستيقظة” ذات علاقة بالجيلين الثاني والثالث من المهاجرين المغاربة، أو ذات صلات بتنظيمات إرهابية تنشط على طول الإقليم المغاربي والصحراوي، فأيُّ جحيم ستعيشه أوروبا إذا ما تحوّلت الجزائر إلى دولة فاشلة على الطريقة الليبية أو السورية أو أسوأ منهما بكثير؟ هذا ما أشارت إليه أيضاً وزيرة الخارجية في هذه الحلقة بشكل متوافق مع التحليلات التي أوردناها في دراسة سابقة قبل نحو خمس سنوات.

ختاماً ومن نافلة القول تأكيد الأمر عند القارئ بأنّ السينما في الغرب وفي أمريكا خصوصاً ذات علاقة وثيقة بالشؤون السياسية والدولية؛ ولذا فما يصدر عنها جدير بالقراءة والتأمل والاستخلاص، فكثيراً ما ربحت أمريكا حروباً في هوليود كانت قد خسرتها على أرض الواقع فعلاً، كما حدث في فيتنام والعراق، وكثيراً ما عكست السينما الأمريكية مواقف ودواليب صنع القرار الأمريكي، مثلما أظهر ذلك مسلسل (House of Cards) الشهير، لذلك فليس من باب الحكمة أن نترك ما أظهرته مشاهد الانقلاب العسكري الهوليودي في الجزائر تمرّ من دون قراءة أو تأمل، خاصّة أنّ الحضور الجزائري في السينما الأمريكية ضيئل جدّاً مقارنة بغيرها من البلدان العربية والإسلامية.

تجدون حلقة المسلسل (الحلقة 2 الموسم 3) على الرابط التالي: http://moviescounter.co/tv-series/madam-secretary-season-3-all-episodes-free-download-720p /



[1] ، كاتب وباحث جزائري يُتابع دراساته العليا بمعهد دراسات الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، جامعة مرمرة بإسطنبول-بتركيا، وبقسم الدراسات الآسيوية كلية العلاقات الدولية بجامعة الجزائر 3. يعمل حالياً باحثاً في مركز إدراك للدراسات والاستشارت في مدينة إسطنبول-تركيا. له العديد من المقالات والدراسات الأكاديمية المنشورة، منها كتابه الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات سنة 2015 بالدوحة-قطر والذّي حمل عنوان: “آفاق الانتقال الديمقراطي في روسيا: دراسة في البنى والتحدّيات”، وكتابه الذي سيصدر قريباً عن مركز إدراك للدراسات والاستشارات بعنوان: “أثر التحوّلات الطارئة في بنية النظام الدولي على التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية التركية -الصراع من أجل الإرادة الحرّة والمستقلة في بيئة دولية وإقليمية حتمية“.

ضع تعليقاَ