أبريل 24, 2024

الأتلانتيك: كيف تغيرت سياسة الولايات المتحدة تجاه الإسلام السياسي؟

 

في بعض الأحيان قد تنجح الجماعات الإسلامية، في حين يكون أداؤها متوسطاً أحياناً أخرى، لكنها دائماً محط اهتمام الساحة الدولية. وهذا يعني أن الولايات المتحدة تحتاج إلى إجابات لأسئلة لا تتعلق فقط بطبيعة الحركات الإسلامية، وإنما بالسؤال الشائك سياسياً: ما يجب على الولايات المتحدة القيام به حيالها؟

كيف كان يجب على الولايات المتحدة وأوروبا أن ترد؟ وهل كان يجب عليها التعامل مع الأحزاب الإسلامية على أنها مميزة؟ في الحقيقة، كانت كل هذه التساؤلات مسألة مثيرة للجدل منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي. وبعد عقدين من الزمن، جلب الربيع العربي هذه “المعضلة الإسلامية” إلى الواجهة، ووجدت واشنطن نفسها في موقف معقد مرة أخرى.

أدى صعود تنظيم الدولة الإسلامية، وانتخاب الرئيس ترامب أخيراً، إلى تعقيد وجهة نظر واشنطن تجاه الإسلام السياسي. وفي الوقت الراهن، غادرت بعض الشخصيات من دائرة ترامب الداخلية التي كانت تشكك في الإسلام، مثل مستشار الأمن القومي السابق مايكل فلين، وكبير الاستراتيجيين السابق ستيفن بانون، والنائب السابق لمساعد الرئيس، سيباستيان غوركا.

في المقابل، لايزال هذا النوع من الشك مرتبطاً بصفة دائمة بأساسيات  ترامب، ومن المحتمل أن يشعر الرئيس بالإغراء للعودة إليه كوسيلة لحشد مؤيديه الأساسيين، وتشتيت الانتباه عن مشاكل سياسية أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن فهم المعضلة التي تواجهها الولايات المتحدة يتطلب العودة بالزمن لبضعة عقود خلت.

على الرغم من أننا نعرف من وثائق وزارة الخارجية السرية، التي تم رفع السرية عنها، أن جماعة الإخوان المسلمين المصرية كانت على رادار واشنطن خلال  فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. فضلاً عن ذلك، لم تمنح السياسة الخارجية الأمريكية أهمية خاصة للإسلاميين، بخلاف تساؤلها عمَّا إذا كانت طبيعتهم الدينية ستجعلهم شركاء مفيدين لها، للتحقق من انتشار الاشتراكية في “العالم الثالث”.

وفي واقع الأمر لم يحظ الإسلام السياسي باهتمام كبير من جانب المسؤولين الأمريكيين حتى الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979. ولبعض الوقت شكلت أحداث تلك السنة الفهم الأمريكي للإسلام السياسي، على الرغم من أن الفكر الثوري الشيعي الإيراني لم يكن متماشياً مع اتجاه معظم الإسلاميين الآخرين، وكان غير نمطي للغاية حتى في التاريخ الشيعي وتقاليده.

كانت الانتخابات البرلمانية الجزائرية لسنة 1991، الحدث الذي حدد لهجة السياسة الأمريكية تجاه الحركات الإسلامية السنية (الإخوان المسلمين). فعندما أصبح واضحاً أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية كانت ستفوز بأغلبية الثلثين المطلوبة لتغيير دستور البلاد، تدخل الجيش لإلغاء النتائج؛ ما أدى إلى سقوط الجزائر في حرب أهلية منذ أكثر من عقد من الزمان.

في خطاب ربيع سنة 1992، أشار مساعد وزير الخارجية الأمريكي، إدوارد جيرجيان، إلى أن تدخل الجيش الجزائري كان حكيماً؛ لأن الإسلاميين الذين يأتون إلى السلطة من خلال صندوق الاقتراع سيكونون “رجلاً واحداً، وصوتاً واحداً، مرة واحدة”. بعبارة أخرى، سيستخدم الإسلاميون صندوق الاقتراع للاستيلاء على الدولة، فقط لتفكيك الديمقراطية في وقت لاحق.

كانت الحركات الإسلامية السنية تتطور بسرعة مع مرور الزمن. وبحلول أواسط التسعينات، كانت هناك أدلة واضحة على أن هذه الجماعات لم يعد من الممكن فهمها من خلال الرؤية الأصلية “لآبائها المؤسسين” الإسلاميين، مثل حسن البنا المصري أو الباكستاني أبو الأعلى المودودي.

بحلول منتصف الألفية الثانية، أصبحت الأحزاب الإسلامية كياناً ثابتاً في السياسة السائدة في المغرب، ومصر، وفلسطين، ولبنان، والأردن، واليمن والكويت. وفي تركيا سنة 2002 حقق حزب العدالة والتنمية، المتأصلة جذوره في الحركة الإسلامية التركية، أول انتصار انتخابي ساحق.

وظلت السياسة الأمريكية تجاه الإسلاميين، خلال الفترة نفسها، حذرة جداً. ففي سنة 1995 أعلنت واشنطن أنها قطعت علاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين المصرية. وبعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر، كانت بعض الأصوات، الأكثر تأثيراً، والتي تشكل وجهات النظر الأمريكية للإسلام السياسي، مثل إسرائيل ومصر، ترغب في تعزيز فهم الإسلام السياسي بما يتفق مع مصالحها الداخلية.

بعد ذلك قررت معظم الأحزاب الإسلامية في العالم العربي مقاطعة الولايات المتحدة، في بادرة احتجاج على الغزو الأمريكي للعراق. أما في سنة 2006 فيبدو أن رفض أمريكا انتصار حماس في الانتخابات الفلسطينية أكد، في نظر العديد من الأطراف، فكرة أن الولايات المتحدة كانت ببساطة غير راغبة في السماح للإسلاميين بالحكم، حتى عندما فازوا في انتخابات حرة. ولكن بالرجوع إلى وجهات نظر مختلفة، يبدو أن تردد واشنطن في التعامل مع الإسلاميين يسترشد بمزيد من الواقعية السياسية.

توقفت الولايات المتحدة عن التواصل مع الجماعة في مصر بناءً على طلب من حليفتها، الحكومة المصرية. كما رفضت الولايات المتحدة انتصار حماس في الانتخابات بسبب قلقها من حليفتها الوثيقة إسرائيل، ولأن حماس كانت مصنفة كمنظمة إرهابية. وفي الوقت نفسه تلقت الأحزاب الإسلامية في مختلف البلدان، بما في ذلك اليمن وإندونيسيا والمغرب والأردن، أشكالاً مختلفة من الدعم والتدريب من خلال برامج تعزيز الديمقراطية الممولة من أمثال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والصندوق الوطني للديمقراطية.

لم يكن لدى واشنطن سياسة متماسكة ومدروسة تجاه الأحزاب الإسلامية في حد ذاتها؛  فقد كانت مجرد نتيجة ثانوية لمخاوف أخرى كانت تساورها. فقبل الربيع العربي توصّل الإخوان المسلمون والحركات العديدة التي ألهمتها إلى توافق في الآراء حول كيفية تحقيق أهدافهم، التي تكمن في أن يبذلوا قصارى جهدهم لبناء نفوذ اجتماعي في ظل قيود النظام، وأن يحققوا نجاحات صغيرة ولكن هامة في البرلمان، وأن ينتظروا انفتاحاً ديمقراطياً، ثم يملؤوا الفراغ السياسي حينما يحدث.

بالنسبة لهم لم تكن هناك حاجة لقضاء الكثير من الوقت في التفكير في مسائل الحكم، إذ إن احتمال الحكم بدا بعيد المنال. وفي الواقع تحدّت الانتفاضات العربية هذا النموذج، وجعلته عديم الجدوى. ومنذ سنوات التسعينات، كان تقسيم الحركات الإسلامية من أهم سمات التطور الإسلامي. وعلى مدى عقود شجع المحللون وصناع القرار الغربيون على حد سواء التيارات الإسلامية على تبني العملية الديمقراطية، وعدم التشدد في تطبيق أصولهم الدينية، وتشكيل أحزاب سياسية “طبيعية”. كان هذا أمراً ملائماً لمثل هذه المجموعات، التي تم إنشاؤها من قبل الأطباء والمهندسين والمعلمين، الذين لم يكونوا متمكنين من كل تعاليم الدين، ولكن كانوا يعرفون كيف يجلبون مؤيدين لهم.

أتاحت أولوية الانتخابات، التي أصبحت هاجساً بالنسبة للحركات الإسلامية، سهولة خروجهم من النقاشات الصعبة والمثيرة حول طبيعة الدولة القومية وغايتها، وهي قضايا أصبحت أكثر أهمية عندما أتيح للإسلاميين في مصر وتونس والمغرب واليمن الفرصة لتولي سدة حكم خلال الربيع العربي وبعده.

بعد مواجهة عدد من الانتكاسات،  كان على الأحزاب الإسلامية، في كل من البلدان الاثني عشر التي نركز عليها في كتابنا الجديد، أن تتعامل مع أسئلة أساسية تتمحور حول كيفية حدوث التغيير بالفعل عندما تعارض النخب و”الدول العميقة” الإسلاميين، وعندما تكون الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية مرتابة منهم، إن لم تكن معادية تماماً لهم.

وكيفية تعامل الإسلاميين مع هذه التحديات، لها، بطبيعة الحال، علاقة كبيرة بكيفية تطور الثورات المختلفة، والثورات المتعثرة، أو غيرها من الثورات التي تطورت في حالات مختلفة.

فعلى سبيل المثال، عندما يتم الإطاحة بحكام بعض البلدان هل يمكن أن تملأ الجماعات الإسلامية المنظمة جيداً ذلك الفراغ القيادي؟ وهل يؤدي انهيار هياكل الدولة بعد الثورة حتماً إلى اندلاع نزاع عنيف أو حرب أهلية؟ وفي البلدان التي لم يجر فيها إسقاط الحكام، كيف تستطيع الأحزاب الإسلامية الموازنة بين الولاء للأنظمة القائمة والمطالب الشعبية للقيام بتغيير سياسي؟

يوجد تحدٍ مشترك تواجهه المنظمات التي ألهمتها جماعة الإخوان يتمثل أساساً في التوتر الذي ينشأ بين حركاتهم وأحزابهم السياسية، التي ما توصف كثيراً بأنها “أذرع” أو “أجنحة” للحركة. وفي كثير من الأحيان، لا تكون ضرورات السعي للحصول على الأصوات من حتميات حركة تسعى إلى تحقيق تحول اجتماعي.

لذلك فمن المحتمل أن تثير خطبة واعظ حماس نواة صغيرة، ولكنها تنفر الجماهير اللازمة لتحقيق نجاح انتخابي. وفي الوقت نفسه، إن دعوة رئيس حزب إلى الاعتدال لتجنب إسقاط  القوات العسكرية أو الملكية، من شأنها أن تقلل من نسبة المؤيدين المحافظين. كانت هذه المعضلة حادة بشكل خاص بعد الانتفاضات العربية، عندما كان على تيار الإسلاميين أن يقرر كيف يمكنهم الفوز في الانتخابات. بعضهم، مثل جماعة الإخوان المصريين، كانت لهم علاقة ضبابية بين الحركة والحزب؛ ما دفع الشعب إلى إلقاء اللوم على الحركة؛ بسبب سوء حظ الحزب والعكس بالعكس. وربما تكون حركة النهضة هي الحالة الأكثر تفرداً، حيث ينتمي كل من الحزب والحركة إلى كيان واحد ونفس الشيء، قبل التحول إلى حزب والإعلان عن الفصل بين الأنشطة “الدينية” و”السياسية”.

وبينما رحب أغلب المراقبين في الغرب بهذه الخطوة ورأوا فيها علامة حقيقية على الاعتدال، خلقت مجموعة جديدة من الأسئلة حول ماهية الأحزاب الإسلامية التي تقول عن نفسها إنها لم تعد إسلامية بالمعنى السابق، بل أصبحت مسلمة ديمقراطية.

ربما رغب العديد من المراقبين في الغرب أن تصبح حركة النهضة مسلمة ديمقراطية، ولكن هل كان أنصار هذه الحركة يرغبون في ذلك؟ في الواقع فإن أغلب الأحزاب الإسلامية يعود نجاحها في جزء منه إلى كونها ليست مجرد أحزاب تقليدية، بل حركات بمعنى أكثر اتساعاً وشمولية، يوفر التأطير والتنظيم، والدعم والخدمات الاجتماعية، والتمويل للحملات الانتخابية، ويمكنه الوصول إلى طبقات المجتمع الأقل اهتماماً بالسياسة.

في الواقع تبدو هذه المعضلة، بين ثنائية الحزب والحركة، واضحة بشكل خاص في الجماعات الإسلامية مثل الإخوان المسلمين، الذين اقتنعوا مع الوقت بأن الانتخابات هي الآلية الفضلى لإحداث التغيير الاجتماعي والسياسي، حتى لو كان قبولهم بهذه اللعبة على حساب الأدبيات الراسخة بينهم؛ مثل الدعوة الإسلامية والتعليم الديني والعمل الخيري. وإذا كان هناك اكتشاف واحد يمكن الخروج به من الربيع العربي، فهو أن المنظمات الإخوانية، وخاصة في العالم العربي، تعتبر أن الفوز في الانتخابات هو المعيار الحقيقي للنجاح.

لم يكن الحال كذلك دائماً، إذ إن جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست سنة 1928 على يد المدرس حسن البنا، كانت في بداياتها مهتمة فقط بالدعوة، والتعليم، واستقطاب عناصر جديدة، والوقوف في وجه الاستعمار، ثم الوقوف لاحقاً في وجه إسرائيل. وحسب القوانين الداخلية لهذه الجماعة، فإن هدفها هو تنشئة جيل من المسلمين الذين يفهمون دينهم بشكل صحيح ويتصرفون وفق مقتضياته. وإلى حدود سنة 1934، كانت قوانين الإخوان تمنع التدخل في مجال العمل السياسي.

كان البنا يسعى لإحداث التغيير المجتمعي بشكل بطيء وتدريجي، بدءاً من الفرد ومروراً بالعائلة، ثم المجتمع، وبعد ذلك نظام الحكم بأكمله. من الناحية النظرية، يبدو هذا التفكير منطقياً إذا كان الشخص يريد أن يعيد تشكيل المشهد السياسي دون أن يدخل في مواجهة مباشرة مع السياسيين. ولكن في الواقع، إن خوض هذا المسار الطويل أصبح صعباً في ظل إغراءات السلطة والنجاح الانتخابي. كما تبين لنا سابقاً، قرر العديد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بعد انقلاب سنة 2013، إعادة النظر في خياراتهم، بين التسرع نحو الانتخابات والسياسة، والتراجع إلى الوراء وإعادة بناء قواعدهم الاجتماعية على المستوى المحلي.

ومع ذلك فهناك خطر يرافق النظر للانتخابات بمنطق الربح والانتصار. فكما يرى آفي شبيغل، الخبير في الحركات الإسلامية في المغرب، فإن “الناس يحبون تقييم الديمقراطية ومتابعتها عبر تحديد الفائزين والخاسرين، والنظر إلى الهزائم والانتصارات كما لو أن الأمر يشبه سباق الخيول. نحن نفعل ذلك لأننا نعتقد أن نتائج الانتخابات مهمة، كأن من يفوزون بها يفوزون في الواقع بشيء معين. ولكن في الدول الدكتاتورية، وحتى في العالم العربي في فترة ما بعد الثورات، هل تمت فعلاً ترجمة النجاح الانتخابي إلى نجاح على الميدان؟”.

في المغرب، تبدو الصفقة التي تم الاتفاق عليها واضحة؛ إذ إن حزب العدالة والتنمية، وهو أهم حزب إسلامي في البلاد، قد قبل بالمشاركة في نظام سياسي يتمتع فيه الملك بالسلطة العليا والكلمة الأخيرة في كل القرارات المهمة. في المقابل تم السماح لهذا الحزب الإسلامي بالوجود على الساحة، والمشاركة في العملية السياسية، وحتى التمتع بقدر من السلطة، ولكن بشكل محدود دائماً.

أما على المستوى العملي، فكان هذا يعني أن حزب العدالة والتنمية لا يمكنه إحداث تغيير سياسي حقيقي في البلاد، حتى لو أراد ذلك. وعلى الأغلب فإنه حتى بعد خمس أو 10 أو 15 سنة، سيكون من الصعب أن نتخيل أن حزب العدالة والتنمية يمكنه تحقيق شيء أكثر ممَّا حققه خلال الفترة الماضية.

خلافاً لذلك يقدم الإسلاميون في باكستان نموذجاً معاكساً تماماً للنموذج المغربي. ولكن هذا التناقض لا يبدو مهماً بالنسبة لأغلب الإسلاميين المغاربة والعرب بصفة عامة؛ إذ إن الجماعة الإسلامية، التي تمثل النسخة الباكستانية من الإخوان المسلمين، لا تفوز غالباً إلا بعدد قليل من المقاعد في البرلمان، وهي رغم ذلك تمتلك نفوذاً وتأثيراً على المستوى السياسي يفوق بكثير نظيرتها المغربية.

وفي هذا الإطار، أفاد الخبير آفي شبيغل “هناك طرق أخرى لتحقيق الانتصار الحقيقي غير الفوز بالانتخابات، فالجماعة الإسلامية في باكستان مثلاً تتدخل في التعيينات القضائية، والتقاليد الدينية، والمناهج الدراسية، والمعايير الاجتماعية”.

أما في جنوب شرق آسيا، فإن الأحزاب الإسلامية رغم كونها بصدد الحصول على نصيب هام من أصوات الناخبين، فإنها لا تزال غير قادرة على تحقيق انتصار واضح على المستوى الوطني. ومع ذلك ساهمت هذه الأحزاب في انتشار الفكر الإسلامي في المجتمع، وجعله شيئاً عادياً ومقبولاً. ورغم وجود أحزاب علمانية إلى جانبها، فقد نجحت في تسويق فكرة كون الإسلام وتعاليم الشريعة الإسلامية يجب أن يكون لها دور محوري في الحياة العامة.

وربما يظهر من خلال هذه الأمثلة أن واقع هذه الأحزاب مليء بالتناقضات، فكلما حقق الإسلاميون نتائج سيئة في الانتخابات، شكلوا خطراً أقل على خصومهم العلمانيين، الذين لا يشعرون في هذه الحالة بالتهديد ولا يمانعون في السماح لهم بتطبيق الشعائر والأفكار الدينية، ما دام ذلك يخدم  حملاتهم الانتخابية.

بطبيعة الحال، إن العلاقات السببية هنا تصبح معقدة: فمن بين الأسباب التي تجعل الإسلاميين لا يحققون نتائج جيدة في جنوب وجنوب شرق آسيا؛ هو أنهم أقل تميزاً واختلافاً داخل المجتمع، باعتبار أن هذه المجتمعات قد اتفقت على نموذج حياة محافظ وغير مثير للجدل والانقسام السياسي. ومن المعروف أن الديمقراطية تدعم وتشجع كل الأحزاب، سواء كانت إسلامية أو غيرها، من أجل الوجود في قلب المشهد السياسي.

وعندما يحدث اختلال في هذا المشهد لمصلحة اليمين، تصبح المجموعات الإسلامية أكثر جرأة، خاصة في المجتمعات المنقسمة التي لا يضطر فيها المترشحون المتشددون إلى دفع ثمن تشددهم. لذلك من غير المفاجئ أنه في بلد مثل إندونيسيا، التي تعد أكبر دولة إسلامية ديمقراطية في العالم، أن يحدث ارتفاع مفاجئ في النزعة الطائفية. فعلى سبيل المثال،  في شهر أيار/مايو من سنة 2017، قام أحد السياسيين المسلمين، وهو معروف بأنه شاب معتدل، بالتلاعب بالمشاعر الدينية للمحافظين والمتشددين من أجل عزل محافظ مقاطعة جاكرتا المسيحي، الذي تم سجنه فيما بعد بتهمة ازدراء الأديان.

بالنسبة للكثيرين قد لا تبدو إندونيسيا بلداً يمكن أن يشهد فورة للمشاعر الإسلامية، ولكن الشيء نفسه ينطبق على تركيا وتونس. فهاتان الدولتان اللتان تعتبران الأكثر علمانية في الشرق الأوسط، كانتا من أوائل البلدان التي شهدت نجاح الإسلاميين ووصولهم للسلطة بشكل ديمقراطي. أما مصر، التي يعتبر شعبها أكثر محافظة وتديناً، فقد شهدت في الوقت الحاضر تراجعاً في الحماس الجماهيري تجاه الفكر الإسلامي وجماعة الإخوان المسلمين. ومن ثم فإن تبسيط هذه المسألة والنظر إلى هذه الأحزاب الإسلامية من منطلق ثنائية الصعود والسقوط، هي نظرة سطحية وقاصرة.

وفي حين نجحت ثورات الربيع العربي في الإطاحة بالأنظمة الحاكمة في تونس، ومصر، وليبيا في سنة 2011، كانت الولايات المتحدة قد بدأت فعلاً التفكير في طريقة جديدة للتعامل مع الإسلاميين. ففي سنة 2010، بدأ مجلس الأمن القومي الأمريكي العمل على دراسة ما يمكن أن ينتج عن قيام واشنطن بالدفع نحو تغيير سياسي حقيقي في الشرق الأوسط. ومن بين النقاط التي كان يتم البحث فيها، تطبيع العلاقات مع الإسلاميين كطرف سياسي عادي. لذلك، فإن التحدي السريع الذي ظهر بعد ثورات سنة 2011 لم يكن يتعلق بالاختيار بين تطوير العلاقات مع الإسلاميين من عدمه، فهذا أمر كانت إدارة أوباما قد تطرقت إليه فعلاً، بل كان متعلقاً بالسؤال عن كيفية ومدى عمق التغيير الذي يمكن إحداثه في هذه العلاقة.

ربما يكون أبلغ تعبير يمكن استخدامه لوصف تطور المقاربة الأمريكية تجاه الإسلاميين، هو القول إن واشنطن قررت عدم اعتماد سياسة محددة تجاههم. في داخل الإدارة الأمريكية كان هناك اعتراف بأن أجندات هذه الأحزاب الإسلامية كانت متنوعة ومختلفة من بلد إلى آخر. لذلك كان من غير الممكن، ومن غير العملي، التعامل مع كل الحركات والأحزاب الإسلامية بالأسلوب نفسه، فقد بدا أن اعتماد سياسة موحدة تجاه ما يسمى بالإسلام السياسي بمفهومه الإيديولوجي الواسع، هو قرار غير حكيم باعتبار أن السياسة الأمريكية كانت ترتكز بشكل عام على السعي لتحقيق مصالحها في هذه الدول. وبالطريقة نفسها، فإن الولايات المتحدة ليست لديها أيضاً سياسة محددة تجاه أحزاب وسط اليمين وأحزاب البيئة؛ لذلك لم يكن من المنطقي اعتماد سياسة محددة تجاه الإسلام السياسي.

خلال الأشهر التي تلت ثورات الربيع العربي، أوضحت إدارة الرئيس أوباما أن الولايات المتحدة ستتعامل مع الإسلاميين على أنهم ضمن عدة أطراف سياسية مشاركة في صياغة مستقبل العالم العربي. وقد كان المسؤولون الأمريكيون حينها يشيرون إلى النقاط المثيرة للقلق حيال الإسلاميين، ويقولون إن واشنطن مستعدة للعمل مع كل الأطراف التي أعلنت تخليها عن العنف، ودعمها للمساواة في حقوق المرأة والأقليات. وفي السر أخبرت الولايات المتحدة الرئيس المصري محمد مرسي، الذي يعد من أبرز قيادات جماعة الإخوان المسلمين، أنها تنتظر من بلاده المحافظة على اتفاق السلام مع إسرائيل كشرط مسبق لتواصل التعاون الدبلوماسي بين واشنطن والقاهرة.

يعتبر البعض، بناء على ذلك، أن الاختبار الحقيقي للسياسة الأمريكية تجاه الإسلام السياسي لم يأت إلا بعد وصول الرئيس محمد مرسي لسدة الحكم في صيف سنة 2012. وإلى حدود تلك النقطة كان المجلس العسكري هو الذي يدير البلاد بشكل فعلي، لهذا السبب كانت واشنطن تشعر بأن حليفها القديم، وهو الجيش المصري، سوف يقوم بدور الضامن للاستقرار سواء فاز الإسلاميون بالانتخابات أو لم يفوزوا.

ولكن بعد أن قام مرسي بتنحية جنرالات الجيش في شهر آب/أغسطس (ومن المفارقات المضحكة أنه في الوقت نفسه قام بترقية عدوه المستقبلي الجنرال عبد الفتاح السيسي لمنصب وزير الدفاع) أصبحت واشنطن قلقة على ما ستؤول إليه الأوضاع في القاهرة.

عندما أصبح واضحاً أن الحكومة التي تقودها جماعة الإخوان المسلمين لم تكن عازمة على الإبقاء على الحال كما هو عليه، فيما يخص بعض القضايا الرئيسية في السياسة الخارجية، عادت واشنطن بسرعة لاعتماد سياسات قديمة تجاه مصر، كانت قد دأبت عليها لعقود طويلة: وهي استراتيجية وضع يدها في يد أي شخص يوجد في السلطة ما دام يحمي المصالح الاستراتيجية الأمريكية. ومن عيوب هذه السياسة أن الولايات المتحدة في هذه الحالة لا يمكنها توجيه النقد لهذا الشريك السياسي المصري، مهما كانت الممارسات التي يقدم عليها على الصعيد الداخلي.

بعد الانقلاب العسكري في سنة 2013، وجدت واشنطن نفسها أمام معضلة حقيقية. فإذا ساندت السيسي في انقلابه على الرئيس المنتخب ديمقراطياً، ستكون بذلك قد تخلت عن التزامها القوي الذي أعلنته سنة 2011 بدعم الديمقراطية في العالم العربي. وعندما قامت قوات الأمن المصرية بقتل نحو ألف متظاهر سلمي ضد الانقلاب في ميدان رابعة العدوية في شهر آب/أغسطس 2013، كانت تلك ذروة العنف الذي مارسه عبد الفتاح السيسي ضد الإخوان المسلمين من أجل اجتثاثهم كطرف سياسي وإعادة تصنيفهم على أنهم جماعة إرهابية. وخوفاً من المزيد من تدهور الاستقرار في المنطقة، في ظل الحرب الأهلية الدائرة في سوريا، والعنف في ليبيا وسيناء، وفشل بناء الدولة في العراق، والطموحات النووية الإيرانية، فضلت واشنطن التزام الصمت أمام الحملة التي تم شنها على الإخوان.

فضلاً عن ذلك، زاد صعود تنظيم الدولة من تعقيد حسابات واشنطن في مواجهة الإخوان المسلمين. فخلال تلك الفترة، لم تكن الولايات المتحدة مستعدة لفعل أي شيء يغضب السعودية والإمارات ومصر؛ لأنها تعتمد على هذه الدول كثيراً في الحرب على تنظيم الدولة. وبذلك فإن التعاون من أجل محاربة الإرهاب، الذي يعتبره شركاء واشنطن في المنطقة شاملاً لمحاربة الإخوان المسلمين، كان الموضوع الأساسي لخطاب ترامب في الرياض في شهر أيار/مايو.

على المستوى العملي، ومنذ صيف سنة 2013، كانت واشنطن عاجزة عن صون التزامها تجاه الإخوان المسلمين. وفي خطوة بدت كالتقاء بين اليمين الأمريكي وجماعات النفوذ التابعة للنظام المصري، قام عدة أعضاء في الكونغرس سنة 2015 (ومرة أخرى في سنة 2017) بتقديم مسودة قانون لتصنيف الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية أجنبية. وبعد فوز ترامب في الانتخابات، كان هناك أيضاً أحاديث حول مواصلة المساعي لسن هذا القانون وتصنيف الجماعة ضمن القائمة السوداء.

وعلى الرغم من أن الحماسة تجاه حظر نشاط الإخوان المسلمين خفت وتيرتها واختفت تقريباً، خاصة أمام موجة النقد اللاذع التي تعرض لها دعاته من قبل خبراء ومحامين ودبلوماسيين، فإن السؤال حول رؤية واشنطن لظاهرة الإسلام السياسي لا يزال مطروحاً.

ومهما يكن ما ستفعله أو لن تفعله إدارة الرئيس ترامب، فإن الإسلام السياسي سيظل قوة اجتماعية مؤثرة في السياسات الإقليمية في الشرق الأوسط. واليوم يشكل الإسلاميون جزءاً من الطبقة الحاكمة في المغرب، وقوة معارضة لا بأس بها في الأردن، وطرفاً سياسياً ذا وزن في الكويت. وقد أظهر استطلاع رأي أجري مؤخراً، شمل عدداً من الخبراء في معهد بروكينغز أن الإسلاميين على الأغلب سيعودون للسلطة في تونس بحلول سنة 2020، وربما يحدث الشيء نفسه في سوريا واليمن بعد انتهاء الحروب الأهلية. وإذا حدث ذلك، أو عندما يحدث، سوف نجد أنفسنا بصدد خوض نفس النقاش. على أمل أنه بحلول ذلك الوقت سوف تكون لدينا أجوبة أفضل على هذا المشكل الذي واجهته الولايات المتحدة طيلة ثلاثة عقود.       

المصدر: صحيفة الأتلانتيك

الكتاب: شادي حميد، بيتر ماندافيل، ويليام ماكانتس

الرابط: https://www.theatlantic.com/international/archive/2017/10/america-political-islam/541287/

 

ضع تعليقاَ