أبريل 24, 2024

دمشق وحلب في “حضارات ومدن” أوغلو.. قراءة في كتاب: “حضارات و مُدن” لأحمد داود أوغلو – الجزء الثاني

يرى الإنسانُ الأشياءَ من خلال انطباعاته في حياته، ويبني قناعاته بعيون ثقافته التي كوَّنته، ويكتب بعد استزارة ماضيه، الذي عايشه أو قرأ عنه وينتمي له، وأوغلو زار مدينة دمشق ما يزيد عن خمسين مرة، بدأها في عام 2003، ولم يذكر في الكتاب أنه زار مدينة حلب، إلا أنه زارها كما يُفهم من كلامه، هذا على المستوى الذاتي الذي بنى شعوره تجاه هاتين المدينتين، أما على المستوى الثقافي – الفكري، فإنه حينما ذكر أنواع المدن في مستوياتِ علاقاتها مع الحضارات، بيَّنَ محورية مدينتي دمشق وحلب في تشكيل الخط الجيو ثقافي – الجيو اقتصادي، الذي يُعرَف بهلال (بلاد الرافدين – الأناضول – الشام).

تحت عنوان “من شام شريف إلى بغداد: المدن الحزينة”، ذكر أوغلو أنه كلما تذكر دمشق الآن، أصيب بحزنٍ عميق، متذكراً “ميتافيزيقية المكان” التي خالطته حينما زارها أول مرَّة، وهو الشعور ذاته الذي أحسَّه يوم زار مدينة القدس، أو كما أسماه “الجو الروحي” الذي جلله داخلها. في كل زيارة قام بها إلى دمشق، يحاول أوغلو زيارة قبر ابن عربي وقبر صلاح الدين الأيوبي بعد صلاة الصبح، ويبقى هناك كالصوفيِّ، غائباً عن الحال، وحالّاً في التاريخ، محاولاً أن يستنكه ما يقولان عبر الزمن، أو ما يرسلان لنا من قول فلسفي أو قول سياسي.

هذه السياحة إلى الماضي، بركوب ما هو ماثل أمام أعيننا في المكان، شكَّلت مصدر اعتزازٍ لأوغلو، وصنعت هويته الوجودية، وضرب مثالاً على هذا المثال، بمزار شهداء الحربية التركية، الواقع قرب قبر صلاح الدين الأيوبي، الذي أعيد افتتاحه في عام 2010، وبالمزار العثماني الواقع في حديقة جامع ابن عربي. وبه يعبّر أوغلو عن الأسى البالغ، الذي ينتابه كلما سمع في الأخبار عن القنابل التي تتساقط على الشام، كأنها تقطع شيئاً من قلبه، وتُبقِي أثراً من الحزن لا تنسيه إياه الأيام، وهو حس عميق يصيب أوغلو حين تفجير أي مدينةٍ سورية.

المدن الحزينة، عند أوغلو، هي المدن التي تُراوَد عن حقيقةِ ذاتها، وتعيش تحت ظلمٍ كبير، وهي ذات ميراث عظيم، وتعبر عن حضارةٍ كان لها من صناعة التاريخ نصيب. كانت حلب إحدى هذه المدن، التي تحمل بين أضلاعها تاريخاً ثقافياً قديماً، من القلاع والأسواق والجوامع، والتي يصف أوغلو ما تتعرض له الآن من همجيةٍ ووحشية، بالبربرية المغولية، التي حاربت ودمرت حواضر من العالم الإسلامي. لكن الحقيقة الوحيدة التي تتجلَّى في عقل وقلب أوغلو؛ “أن الظالمين ذاهبون، أما روح المقاومة المنغرسة في دمشق وحلب فباقية”.

شكلت دمشق وحلب دوراً محورياً في الهلال الجيو ثقافي – الجيو اقتصادي الذي انتشرت بمركزه ومحيطه حضارة تشاركية، كوّنتها عناصر متنوعة، من الدين والثقافة والعمارة والمطبخ، بل والبناء الاجتماعي الذي كانت القبائل المتجاورة وحدته الأساسية. ونرى هذا الخط الثقافي الذي يصل حلب بأسكندرونة، ممتداً إلى البحر الأبيض المتوسط، تتشابه فيه “الشخصية الثقافية” لشعوبها، ونشاهد تأثيره في اللاذقية وطرطوس وبيروت. بل ويصل هذا التأثير الثقافي إلى حزام مدينتي يافا وحيفا، التي ما زالت محاولات الاحتلال الإسرائيلي قائمة لنزع شخصيتيهما، والتي كانت جزءاً من هذا الهلال.

إن المدن التي شكلت هذا الهلال، لعبت أدواراً مختلفة في بناء ونشر التوحيد الديني، فكما يقول أوغلو، نرى ذلك من نزول آدم -عليه السلام- الذي كان في دمشق، إلى نوح -عليه السلام- الذي كان بين ماردين التركية والموصل العراقية، إلى إبراهيم -عليه السلام- الذي كان في أورفا التركية، إلى يونس وإلياس وهارون وذي الكفل -عليهم السلام- الذين كانوا في مدينة ديار بكر التركية، إلى نبي الله زكريا -عليه السلام- الذي كان في حلب، ويحيى -عليه السلام- الذي كان في دمشق، إلى مدينة القدس التي كانت مكاناً لكل الأنبياء، موسى وعيسى ومحمد -عليهم الصلاة والسلام-.

إن التخريب الذي طال هذه المدن التي شكلت هذا الهلال (الموصل في العراق، وماردين وديار بكر وأورفا التركية، وحلب ودمشق السوريتين، والساحل اللبناني) نتيجة اكتساح المغول، والانقسامات القديمة عبر العصور في الولاء أو النفوذ بين الساسانيين – البيزنطيين، أو بين العثمانيين – الصفويين، ثم التفرقة الجيو سياسية الحدِّية التي سببها اتفاق سايكس- بيكو، كل ذلك لم يتمكن من إلغاء المشتَركات الجيو الثقافية أو الجيو اقتصادية بينها، وهي وإن تمكنت من إضعافها، إلا أنّ الأيام أثبتت جذريتها، لبقاء هذه المدن نفسها.

ضع تعليقاَ