مارس 28, 2024

مسيرات العودة الكبرى في غزة.. هل حققت مرادها؟

اليوم وبعد مرور ستة أشهر على “مسيرات العودة الكبرى”، والمطالبة بتحقيق قرارات الشرعية الدولية بعودة المهجرين الفلسطينيين إلى قراهم ومدنهم التي هجروا منها عام 1948، هل يمكن أن نقول أن هذه المسيرات في طريقها لتحقيق مرادها ؟

بثينة اشتيوي

لم يكن إحياء الفلسطيني لذكرى يوم الأرض، والذي يصادف الثلاثين من مارس/ آذار من كل عام قبل ستة أشهر من الآن يوما عاديا، بل سبقه حشد إعلامي وسياسي لأن يكون مغايرا عن السنوات الماضية عبر اعتماد أسلوب الحشد الجماهيري سلميا تحت مسمى” مسيرات العودة الكبرى” على طول حدود فلسطين المحتلة حيث الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة المحاصر ومخيمات اللجوء الفلسطيني، في صورة تثبت تمسك الفلسطيني بأرضه وهويته الوطنية في ظل حالة العجز السياسي والأمني التي تعيشها المنطقة العربية والإقليمية، وما أفرزته من تدهور ملحوظ في التعاطي مع القضية الفلسطينية.

في قطاع غزة المحاصر منذ اثني عشر عاماً براً وبحراً وجواً، كان ذلك اليوم ممزوجاً بالدم والتمسك بالثوابت الفلسطينية وفي مقدمتها حق العودة، لم تتوان آلة الحرب الإسرائيلية رغم سلمية الاحتجاجات التي جابت طول الحدود مع ” إسرائيل” في استخدام القوة لتفريق المتظاهرين، ونشر المئات من القناصين، إلى جانب مد أسلاك شائكة تحسبا لأي اختراق محتمل من الثائرين الفلسطينيين، حينها أخذ المشهد يتوسع سياسيا وأمنيا في الداخل والخارج.

ذكرى اليوم تزامن مع مصادرة السلطات الإسرائيلية آلاف الدونمات من الأراضي السكنية الفلسطينية، احتج على إثرها الفلسطينيون لتسفر عن استشهاد ستة فلسطينيين على يد القوات الإسرائيلية خلال مظاهرات عام 1976م، وإعلان الاحتلال سن قانون ” أملاك الغائبين” القاضي بمصادرة أراضي اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا أو نزحوا بسبب نكبة عام 1948م، ومع مرور السنوات أخذ الفلسطيني يحيي اليوم عبر أنشطة ثقافية تعيد الأذهان إلى الأجيال القادمة تاريخ القضية وثبات الهوية.

وعليه، فإن فكرة هذه المسيرات ليست بجديدة، حيث تعامل معها الفلسطيني عام 2011م، وسجلت وقتها نجاحاً ملحوظاً تمثل في تمكن مئات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا من تجاوز الحدود في منطقة مجدل شمس بهضبة الجولان السورية المحتلة، فيما هي اليوم مبنية على توجيه وتوعية الكل الفلسطيني عبر الحشد نحو أقرب نقطة من بلدانهم وقراهم التي هجروا منها قسرا عام 1948م بصحبة أطفالهم ونسائهم، وإرسال رسالة إلى الاحتلال بأن حق العودة مقدس ولا يمكن التنازل عنه، إضافة إلى التمسك بخيار رفع الحصار عن غزة والخروج من دوامة العقاب الجماعي لسكان القطاع منذ فوز حركة حماس في انتخابات تشريعية عام 2006م.

لكن اليوم وبعد مرور ستة أشهر على “مسيرات العودة الكبرى”، والمطالبة بتحقيق قرارات الشرعية الدولية بعودة المهجرين الفلسطينيين إلى قراهم ومدنهم التي هجروا منها عام 1948، ومطالبة الاحتلال والمجتمع الدولي بفك الحصار عن غزة، لا تزال هذه المسيرات في صورتها الحالية على حدود قطاع غزة رغم وقوع العشرات من الشهداء وآلاف الجرحى، حيث تدور في ذهن الفلسطيني وربما المتابع عن كثب لهذه المسيرات جملة من التساؤلات، أبرزها هل حققت المسيرات مرادها؟، وما السيناريوهات المتوقعة خلال الفترة المقبلة؟، إلى جانب تسليط الضوء على القراءة الإسرائيلية سياسيا وعسكريا لما ستؤول إليه الأوضاع مع غزة؟، وإلى أي مدى يمكن أن تصمد غزة في هذا الحراك؟.

الإجابة عن هذه التساؤلات تدفع القارئ والمتابع بالأحرى لواقع القضية الفلسطينية إلى قراءة المشهد الفلسطيني الداخلي وعلاقته بالإقليم، وفهم السياسة الإسرائيلية وما تقرره داخل أروقتها، و فهم مغزى هذه المسيرات من خلال بعض النشطاء الفلسطينيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي ممن كان لهم السبق في إثارة هذا النوع من المسيرات، فالناشط السياسي وأبرز الداعين لـ” العودة الكبرى”، ” أحمد أبو ارتيمة”، ينظر إليها من خلال حديثه للمركز الفلسطيني للإعلام كونها تمثل سلاحا استراتيجيا شعبيا سلميا لتنفيذ حق العودة بشكل فعلي، معللاً أن الظروف المجتمعة اليوم تتجه لإنضاج الوعي الشعبي بأهميتها كسلاح استراتيجي.

ولأن أفق الخيارات باتت شبه مستحيلة في قطاع غزة للخروج من حالة الحصار الإسرائيلي، وفرض السلطة الفلسطينية مزيداً من العقوبات على غزة كنوع من الضغط على من يدير القطاع حيث” حماس”، لتسليم زمام السلطة بكاملها لحكومة رام الله، إلى جانب فشل جولات المصالحة على مدار السنوات العشر الماضية، أصبح المواطن رهيناً لسياسات الاحتلال عبر إحكام السيطرة على المعابر، وتأزم الواقع السياسي الفلسطيني وهو ما دفعه إلى البحث عن خيارات أخرى، حتى لجأ عشرات الآلاف عبر الحدود مطالبين بفك الحصار الإسرائيلي أولاً، وتحقيق عودة اللاجئين ثانياً، والتزام السلطة الفلسطينية ممثلة برئيسها ” محمود عباس” بما نصت عليه اتفاقات القاهرة عام 2011م حول غزة.

جاءت فكرة “مسيرات العودة” منذ البداية بتفاصيل بالغة الوضوح مشفوعة بخطة منظمة ترتكز على البعد السلمي الكامل، وتم عرضها على الفصائل والمنظمات المجتمعية والقوى الشعبية المختلفة، ولم تلق حماسة من الفصائل الأساسية إلا في مرحلة متأخرة نسبياً، وخصوصاً إثر تراجع الآمال بإمكانية نجاح مسيرة المصالحة الداخلية بين حركة فتح وحركة حماس، حيث يرى الكاتب السياسي، ” معين بسيسو”، في مقال له بعنوان” مسيرات العودة .. ما قبل الانفجار الوشيك” عبر الجزيرة نت “أن قوة هذه المسيرات تكمن في عنصرين أساسيين، الأول: السلمية التامة لهذه المسيرات من الألف إلى الياء، وفيما الثاني: احتضان الكل الوطني الفلسطيني لها ومشاركته فيها ودعمه لآليات استمرارها”.

وبالتالي, فإن الطابع السلمي يميز هذه المسيرات رغم حوادث الرشق بالحجارة، وإزالة الأسلاك الشائكة وإطلاق الأطباق الورقية الطائرة المحملة بالزجاجات الحارقة، التي تسببت في اشتعال العديد من الحرائق بمواقع إسرائيلية على الجانب الآخر من الحدود وغيرها من مظاهر الاحتفاء بالتراث الفلسطيني، وعودة الأذهان لبدايات الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية.

وعلى الجانب الآخر، فإن الصحافة الإسرائيلية تابعت عن كثب فعاليات انطلاق” مسيرات العودة الكبرى”، وتفاجأت في الوقت نفسه لاسيما منتصف أيار/ مايو الماضي والذي يصادف ذكرى النكبة السبعين خروج عشرات الآلاف من سكان قطاع غزة صوب الحدود، حيث أن الموقف الاسرائيلي قلل من المسيرة قبل انطلاقها ولم تعلم “إسرائيل” أن المسيرة ستأخذ الطابع السلمي والحشد الجماهيري الكبير بمشاركة واسعة من كافة أطياف سكان القطاع، وحالة الاخفاق الأمني والسياسي لـ “إسرائيل” للمسيرة وتبعاتها، كما يرى الخبير في الشؤون الإسرائيلية، ” عدنان أبو عامر”.

وجهة نظر الخبير” أبو عامر” لفت إليها في ندوة تقييمية للحراك للمكتب الإعلامي الحكومي بغزة، مضيفا:” فشل “إسرائيل” في ردع المسيرة ومحاولة ايقافها من خلال التعمد المباشر بإطلاق النار تجاه المتظاهرين السلميين وإيقاع الاصابات المباشرة شكل هاجس خوف من تصاعد فعاليات المسيرة وتحقيق اهدافها من خلال تواصلها المستمر، فضلا عن الفشل الإعلامي الإعلامي الإسرائيلي  في تشويه صورة المسيرة السلمية، وإطلاق حملات دبلوماسية عالمية لمحاولة تلميع اسرائيل صورتها وتبرير إطلاق النار وقتل المتظاهرين”.

قبل أيام قليلة من ” مسيرات العودة الكبرى”، حاول الاحتلال الإسرائيلي المحافظة على عنصرين مهمين للتعاطي معها، الأول هو المحافظة على السيادة الإسرائيلية، وأمن الجنود والمستوطنين، بصورة محكمة جدا، من خلال منع أي تسلل أو استهداف لخط الهدنة، والثانية إرسال رسالة ردعية للفلسطينيين، وبالفعل تحقق ذلك من خلال عمليات القنص المباشر للأطفال الفلسطينيين تحديداً، والتعمد في استهداف الصحفيين والطواقم الطبية.

الخبير العسكري في صحيفة معاريف الإسرائيلية ” تال ليف رام”، في تقرير مترجم عن الصحافة العبرية نقلا عن موقع ” عربي 21″ ينظر إلى أن هذه المظاهرات حققت جملة أهداف فلسطينية، أهمها أنها أعادت النقاش حول أوضاع غزة إلى الأجندة السياسية محليا وعالميا، وعادت الأسرة الدولية لتنشغل مجددا بمصير القطاع، وهو ما أخفق في تحقيقه أبو مازن بأدوات سياسية هادئة”، ما يعني أن أحد أهداف ” العودة الكبرى” قد تحققت وأعادت الأذهان مجددا إلى حصار غزة.

ومن وجهة نظر الخبير” رام” فإن  الفلسطينيون ربما نجحوا بعرقلة تنفيذ أي عقوبات جديدة ينوي القيام بها  الرئيس” أبو مازن” ضد القطاع في ظل التغطية الإعلامية السلبية بحقه، ووضعه مع “إسرائيل” في كفة واحدة، ما قد يدفعهم للاستمرار بهذه الطريقة من العمل الميداني، والمستمر حتى اللحظة رغم الضغوطات الدولية والعربية على ” حماس” لوقف هذا النوع من المسيرات مقابل رفع الحصار، وهو ما ترفضه الحركة لعدم وجود أي ضمانات.

بالعودة إلى الكاتب السياسي” بسيسو” فإن الوضع الراهن في قطاع غزة بالتزامن مع استمرار الحراك الشعبي صوب الحدود يشير إلى اثنين من الاحتمالات قد تفرزه تلك المسيرات، الأول: هو أن الأوضاع الميدانية ستشق طريقها نحو التدهور التدريجي ، وأن القلق الكبير الذي يعتري صناع القرار في “إسرائيل” مع اقتراب موعد الزحف الكبير لاقتحام الحدود منتصف الشهر القادم، سيدفعهم إلى استباق الأحداث و إبطال القنبلة الموقوتة قبل سقوط آلاف الضحايا.

وبالتالي فإن الاحتلال قد يعمد إلى تسخين الجبهة الميدانية، ويلجأ مجدداً إلى أسلوب القصف والاغتيالات لاستجلاب ردود فلسطينية عنيفة تتدحرج إلى أشبه ما يكون بكرة الثلج، وهو ما جرى خلال الأسابيع القليلة الماضية، بينما الاحتمال الثاني هو تدحرج الأحداث إلى مستوى الحرب التي تفرض نفسها على الطرفين، أو احتمال التمكن من السيطرة على الموقف الميداني أيا كانت طبيعة الحدث، وبالتالي استمرار الحراك الشعبي أسابيع طويلة.

في المقابل، فإن استمرار حالة الانقسام السياسي بين” فتح وحماس”، وانسداد أفق الحل لسكان القطاع، إلى جانب استمرار العقوبات من قبل حكومة رام الله على غزة، والضغط الرسمي من قبل بعض الدول العربية والدولية لإنهاء الحراك الشعبي دون أي مقابل يحول من تحقيق هذه المسيرات أهدافها لا سيما رفع الحصار عن غزة، بالتزامن مع رؤية السلطة للحراك بأنه خيارا  والمصالحة الوطنية الذي حرم هذه المسيرات من زخم المؤيدين لحركة فتح والسلطة الفلسطينية، أحاديا يستهدف الالتفاف على العقوبات الجماعية الخانقة، التي تم فرضها لإجبار حماس على تسليم الحكم في غزة.

قراءة بعض المتابعين للشأن الفلسطيني فيما يتعلق بالحراك تحديداً يكمن في أن ” حماس” تراهن كثيراً على الحشد الشعبي بعد أن ضاقت بها السبل لإيجاد وسائل كسر الحصار المفروض منذ تسلمها زمام الحكم، وقدرتها على إحداث تغيير في معادلة الواقع الراهن حتى لو استمر أشهراً طويلة، وهو ما فسره الخطاب الإسرائيلي بأن ما يجري على الحدود هو محاولة إقناع المتابعين أن ما يحصل تتم تغذيته من قبل “حماس” وحدها تارة، ومن قبل إيران تارة أخرى، بالاستفادة من سلطة الأمر الواقع القمعية التي تفرضها الحركة على غزة لتبرير جرائم جيش الاحتلال ضد المتظاهرين العزل وشرعنة الحصار المستمر.

يمكن القول أن” حماس” قد  وضعت “بيضها” جميعه في سلة الحراك الشعبي، وأن آمالها ورهاناتها معقودة بشكل كامل على إمكانية توليد حلول معقولة من وهج المشاركة الشعبية، وترى أن استمرار وتطوير وتصعيد مسار الحراك الشعبي قادر على تحريك المواقف الإقليمية والدولية في نهاية المطاف، في المقابل فإنه لا يمكن إنكار ما حققته “مسيرات العودة الكبرى” من زعزعة لمئات الجنود المنتشرين على طول الحدود لا سيما بعد أن التهمت” البالونات الحارقة” والتي يطلقها شبان، آلاف الدونمات من الأراضي المزروعة بالقمح يسيطر عليها مستوطنون إسرائيليون وتقع بمحاذاة الحدود مع غزة.

حتى اللحظة لا يمكن الحكم على فشل أو نجاح” مسيرات العودة الكبرى” إلا إذا تحققت الأهداف التي خرجت من أجلها، الحصار الإسرائيلي لا يزال في ذروته، ومعدلات البطالة والفقر تتقدم، إلى جانب انعدام أفق السياسة، واستمرار الضغط من قبل مصر والسلطة تحديدا على” حماس” لإنهاء الحراك الشعبي مقابل تخفيف المعاناة عن سكان غزة عبر فتح المعابر وتحقيق بنود ما تم الاتفاق عليه بعد الحرب الأخيرة، بيد أن الحركة تتخوف حتى اللحظة كما كل مرة من تنفيذ الوعود التي باتت تقرأ مرارا وتكرارا في عناوين الأخبار المحلية والعربية وحتى الدولية، فكم من الوقت تحتاج المسيرات حتى يرى من خلالها الفلسطيني المحاصر بصيصاً من الأمل، أم أن الأمر مرهون بصفقة القرن التي بدأت ملامحها تتضح في بعض البلدان العربية؟

ضع تعليقاَ