أبريل 25, 2024

كونراد أديناور شتيفتونغ: الخلافات الاجتماعية والتوافقات السياسية في تونس

 

نشرت مؤسسة “كونراد أديناور شتيفتونغ” الألمانية دراسة سلطت من خلالها الضوء على كيفية حل الخلافات  الاجتماعية عن طريق الاعتماد على سياسة التوافق والحوار؛ ممَّا جنب تونس السيناريو الدموي الذي وقعت فيه بعض دول الربيع العربي.

فبينما تبخرت أحلام معظم دول الربيع العربي بالعيش في كنف الحرية والكرامة، شكلت تونس الاستثناء الوحيد، حيث نجحت الحكومات التونسية المتعاقبة منذ سنة 2011 في حل الخلافات الاجتماعية عن طريق الحوار والنهج التوافقي. ولتحقيق الديمقراطية وإرساء دولة القانون، ينبغي على السلطات التونسية مزيد من العمل على التقليص من حجم الهوة بين النخبة السياسية الحاكمة والمواطنين.

يعزى فشل دول الربيع العربي في تحقيق الانتقال الديمقراطي، في الحقيقة، إلى الأساليب القمعية التي انتهجتها الأنظمة الحاكمة المستبدة، وخاصة في مصر، حيث نسفت الصراعات المتواصلة بين النظام المصري وأنصار حركة الإخوان المسلمين كل أمل في تحقيق تحول سياسي.

وفي سوريا أدت الممارسات القمعية الوحشية التي انتهجها النظام السوري في حق المتظاهرين إلى اندلاع موجة عنف غير مسبوقة، تحولت إلى حرب أهلية. أما في ليبيا فقد تشكلت حكومتان في شرقي وغربي البلاد تتنافسان على الشرعية.

في المقابل تشكل تونس استثناء وذلك بفضل تمكنها من كتابة الدستور بتاريخ 27 كانون الثاني/يناير من سنة 2014، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في السنة نفسها، تلاها انتقال سلمي للسلطة. والجدير بالذكر أن هذا المناخ السلمي نتاج للاعتماد على النهج التوافقي في حل مختلف الخلافات السياسية والاجتماعية. ومنذ سقوط النظام سنة 2014 اعتمدت الحكومات التونسية المتعاقبة النهج التوافقي، حيث ساد مناخ من التعايش السلمي بين الحداثيين والإسلاميين.

بقيت الخلافات الاجتماعية في المقابل دون حل؛ ممَّا يهدد السلم الاجتماعي وينذر بالعودة إلى الديكتاتورية. وتعاني تونس، في هذه الأثناء، من التفاوت الجهوي بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية، فضلاً عن  الهوة العميقة بين النخبة الحاكمة وعامة المواطنين. ومن جهة أخرى يواكب المجتمع الدولي التحول الديمقراطي في تونس؛ لمساعدتها على إنجاح تجربتها الفريدة.

أول توافق بين الثورة والنظام القديم

بتاريخ 14 كانون الثاني/يناير من سنة 2011 رفع المتظاهرون بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية شعارَي “ارحل” و”الشعب يريد إسقاط النظام” ضد نظام بن علي. وبناء على ذلك أصبح إسقاط النظام مطلب مختلف المحتجين في بقية دول الربيع العربي. وثار الشعب التونسي في ذلك الحين ضد العائلات المتنفذة الفاسدة، وضد نظام تنموي لم يساهم إلا في مزيد من انتشار البطالة بين صفوف  الشباب التونسي، وعلاوة على ذلك كان الشعب التونسي يرزح تحت وطأة القمع الأمني.

وبعد هروب الرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي، حاولت بقايا نظامه تشكيل حكومة برئاسة محمد الغنوشي، الذي كان رئيساً للوزراء منذ سنة 1999، بالشراكة مع بعض الأطراف المعارضة. وإثر ذلك جدت مظاهرات أمام قصر الحكومة، وحملت اسم “القصبة1” و”القصبة2″، تطالب بالقطع التام مع النظام السابق.

الشباب الثائر يطالب بالقطع مع النظام القديم

سنة 2014 أصبحت هيبة الدولة أحد الوعود الانتخابية التي أطلقها الرئيس التونسي، باجي قائد السبسي. ومن ثم أصبح طيف واسع من الشباب التونسي متخوفاً من تواصل البيروقراطية الإدارية الفاسدة.

وفي الأثناء بقي مسار الانتقال الديمقراطي متراوحاً بين القطع مع النظام القديم والحفاظ على المكتسبات التي جاء بها الاستقلال، على غرار حقوق المرأة ومجانية التعليم. واضطرت حكومة الغنوشي تحت ضغط الشارع إلى الاستقالة. وبتاريخ 27 شباط/ فبراير سنة 2011، تشكلت حكومة انتقالية برئاسة الباجي قائد السبسي أعادت الأمور إلى نصابها.

وعند توليه منصب رئاسة الوزراء أعلن السبسي عن جملة من القرارات الثورية؛ على غرار حل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي وجهاز أمن الدولة، فضلاً عن تعليق العمل بأول دستور للجمهورية التونسية دستور 1956. وبذلك أصبح الشباب الثوري غير قادر على التأثير على عامة التونسيين، وفشلت الدعوة لاعتصام “القصبة2”.

ومن جهة أخرى تشكلت ثلاث هيئات مركبة من الأحزاب المعارضة والمجموعات الثورية، من أهمها “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي”، برئاسة أحمد عياض بن عاشور، والتي مثلت إلى حدود الانتخابات التشريعية 2011 كبرلمان ثوري.

وقد كانت هذه الهيئة صورية نظراً لأنها لم تنبثق عن انتخابات، كما أن السبسي ينتمي للمنظومة القديمة. ومع ذلك حصل توافق بين النظام القديم الذي يمثله السبسي السبسي، والنظام الثوري الذي تمثله “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي”.

برهن التونسيون على رغبتهم في القطع مع الماضي من خلال نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2011، وتبلور ذلك في عدم تمكن الأحزاب المنبثقة عن النظام القديم متجمّعة إلا من حصد أقل 4 بالمئة من الأصوات، في حين تحصلت حركة حزب النهضة الإسلامية، التي دعت إلى القطع التام مع النظام القديم، على 37 بالمئة من الأصوات، تلاها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بنسبة 8.7 بالمئة من الأصوات برئاسة الناشط الحقوقي المنصف المرزوقي.

استفادت حكومة الترويكا المتكونة من حزب حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل من أجل الحريات من ظاهرة المحسوبية والمحاباة التي تفشت خلال العهد البائد. وفي تلك الأثناء استقال عزيز كريشان، الذي كان مستشار المرزوقي، من منصبه. وأفاد كريشان في هذا الصدد أن “حكومة الترويكا برئاسة حمادي الجبالي تبحث عن التحالف مع أزلام نظام بن علي، عوض الحفاظ على مكاسب الثورة”.

خلافاً لذلك شكل إنشاء حركة نداء تونس كحزب معارض للإسلاميين لإعادة إدماج التجمعيين في الحياة السياسية، حيث نادى أنصار التجمع الدستوري الديمقراطي بالمحافظة على الدولة التونسية الحديثة كما بناها الرئيس التونسي الأسبق، الحبيب بورقيبة، لمواجهة خطر أسلمة الدولة بحسب تعبيرهم.

التوافق الثاني بين الإسلاميين والحداثيين

يعتبر الخلاف بين الإسلاميين والحداثيين تقليداً في العالم العربي؛ إذ إن هذا الصراع يقوم على الخلاف بشأن كيفية التعامل مع الغرب. أمَّا بالنسبة لتونس فيعود هذا الخلاف إلى سنة 1956، حيث كان بورقيبة يدعو إلى الحداثة ومنح المرأة المزيد من الحقوق باعتباره رجل قانون درس في فرنسا.

 وفي المقابل ظهر في أواخر السبعينات حزب حركة النهضة الإسلامية المنبثق عن حركة الإخوان المسلمين المصرية، والذي ظل إلى حدود سنة 2011 محظوراً. وبعد الثورة التونسية سنة 2011 دار جدل واسع في البلاد التونسية حول النموذج المجتمعي.

وبعد إنجاز أول انتخابات سنة 2011 شكل حزب حركة النهضة أول حكومة ترويكا. وفي تلك الأثناء تغلغل هذا الحزب الإسلامي في كل  مفاصل الدولة، وعين موالين له في مختلف الإدارات والأجهزة الأمنية. كما منح هذا الحزب حرية النشاط لمختلف الحركات المتطرفة، فضلاً عن محاولة إنشاء دستور ذي خلفية إسلامية.

وعقب مقتل زعيمين معارضين في شهري شباط/فبراير وتموز/يوليو من سنة 2013، حشد المعسكر الحداثي صفوفه. وبعد موجة من الحركات الاحتجاجية مدعومة من وسائل الإعلام المناهضة للحكومة وثلة من المثقفين، تمكن المجتمع المدني من البروز على الساحة السياسية بقوة. في المقابل برز حزب حركة نداء تونس كمنافس جدي لحركة النهضة الإسلامية، بانضمام ثلة من الأشخاص المنتمين إلى مختلف الحساسيات السياسية من نقابيين ومثقفين، فضلاً عن جملة من رجال الأعمال وأنصار النظام السابق. وفي صيف 2013 تعمق الخلاف بين التيار الحداثي والإسلامي بشكل يفوق كل التوقعات.

وحدثت في الوقت نفسه جملة من المتغيرات في العالم العربي؛ ففي مصر تقلد الجيش المصري الحكم بتاريخ 3 تموز/يوليو سنة 2013،  ليزيح بذلك حركة الإخوان المسلمين من السلطة، ومن ثم انتهى عهد حكم الإسلاميين. أما في تونس فقد اختار الإسلاميون والحداثيون تجنب سيناريو العنف ليتبعوا النهج التوافقي.

تعاون مثير للجدل بين الإسلاميين والحداثيين في تونس

نجح الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يعد أعرق منظمة وطنية في تونس، في جمع الفرقاء السياسيين على طاولة واحدة، وذلك في إطار الحوار الوطني. واجتمعت في تلك الأثناء أكبر شخصيتين سياسيتين في تونس؛ وهما الباجي قائد السبسي ورئيس حزب حركة النهضة راشد الغنوشي، بتاريخ 14 أغسطس/آب من سنة 2013 في باريس.

والجدير بالذكر أن الحوار الوطني بالإضافة إلى لقاء باريس الشهير، يعدان أهم نقطتي تحول في المسار الديمقراطي التونسي، لا سيما أنهما جنّبا البلاد سيناريو الصراع بين التيار الإسلامي والحداثي. وفي نهاية المطاف توصلت مختلف الأحزاب السياسية إلى إبرام اتفاق بشأن تكوين حكومة تكنوقراط وإنهاء صياغة الدستور، فضلاً عن إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية.

وخلال الحملة الانتخابية تجدد الاستقطاب الثنائي بين الإسلاميين والحداثيين. وبناء على مبدأ التصويت الإيجابي، حذر حزب حركة نداء تونس المواطنين التونسيين من مغبة التصويت لحزب حركة النهضة. وتبعاً لذلك تمكن نداء تونس من الفوز في الانتخابات التشريعية والرئاسية على حد سواء، وذلك بدعم من المعسكر الحداثي، حيث حصد الحزب 37 بالمئة من الأصوات، و86 مقعداً داخل مجلس نواب الشعب.

من جهة أخرى فاز السبسي بالانتخابات الرئاسية على حساب سلفه المنصف المرزوقي بنحو 57 بالمئة من الأصوات، في حين حصدت حركة النهضة 28 بالمئة من الأصوات، و69 مقعداً في مجلس النواب. وفي نهاية المطاف شكلت حركتا النهضة ونداء تونس حكومة وحدة وطنية؛ وضمن السبسي بذلك وقوف حركة النهضة في صفه وعدم انضمامها للمعارضة.

قطيعة متواصلة بين النخبة السياسية والمواطنين

لم تكن السياسة التوافقية التونسية كافية لترسيخ الديمقراطية في تونس، حيث تعمقت القطيعة بين النخبة الحاكمة وعامة المواطنين.

في الواقع تعاني البلاد التونسية منذ الاستقلال من التفاوت الجهوي بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية التي تضاعفت فيها نسبة البطالة. في المقابل تركزت التنمية الاقتصادية في الولايات التونسية الكبرى، وتحديداً تونس العاصمة وسوسة وصفاقس.

وتجدر الإشارة إلى أن التفاوت الجهوي يشمل البنية التحتية والتعليم والتغطية الصحية. فعلى سبيل المثال يبلغ معدل وفيات الأمهات في مدينة القصرين، في الوسط الغربي، ثلاثة أضعاف معدل وفيات الأمهات في تونس العاصمة، كما أن نسبة الأمية تبلغ 32 بالمئة في ولاية القصرين، في حين أنها لا تتجاوز 10 بالمئة في تونس العاصمة.

ويعود هذا التفاوت إلى زمن الحماية الفرنسية، حيث كان المستعمر الفرنسي ينتدب أغلب المسؤولين الإداريين من الجهات الساحلية. ورغم أن الحكومات التونسية المتعاقبة أنجزت خلال العقود الأخيرة جملة من المشاريع التنموية أدت إلى تراجع نسبة الفقر، إلا أن النسق التنموي في المدن الداخلية بقي دون المأمول إلى حد اليوم. ولعل هذا ما يفسر عزوف طيف واسع من الشباب التونسي عن المشاركة في الحياة السياسية، وخاصة أولئك المنحدرين من المناطق الداخلية.

المصدر: كونراد أديناور شتيفتونغ

الرابط: http://www.kas.de/wf/doc/kas_49465-544-1-30.pdf?170713160247

 

ضع تعليقاَ