مارس 29, 2024

مارك ليونارد: أوروبا وحيدة في عالَم ترامب

لندن ــ مرة أخرى، تصبح أوروبا وحدها. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبا تنظر إلى العالم من خلال عدسة عبر أطلسية. ولم يخل الأمر من لحظات سعيدة وأخرى كئيبة في التحالف مع الولايات المتحدة، ولكنها كانت علاقة أسرية مبنية على الشعور بأن كلا منا سوف يجد الآخر بجانبه في الأزمات وأننا متماثلون في الفِكر جوهريا.

الآن يهدد انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة بإنهاء كل هذا ــ على الأقل في الوقت الراهن. فهو يؤمن بالجدران والمحيطات أكثر من إيمانه بالتضامن مع الحلفاء، كما أكَّد بوضوح أنه لن يضع مصالح أميركا أولا فحسب، بل وثانيا وثالثا أيضا. فقد أعلن في خطابه الأكبر حول السياسة الخارجية: “لن نسلم هذا البلد أو شعبه بعد الآن لأنشودة العولمة الكاذبة”.

لن يضطر الأوروبيون إلى التعود على ترامب فحسب؛ بل يتعين عليهم أيضا أن ينظروا إلى العالَم بمنظور مختلف. وهناك أربعة أسباب تجعلنا نتوقع أن أميركا في عهد ترامب سوف تكون المصدر الأكبر للفوضى العالمية.

فأولاً، لم يعد من الممكن التعويل على الضمانات الأميركية. فقد تساءل ترامب ما إذا كان من الواجب عليه أن يدافع عن دول حلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية في حين لا تبذل هي أي جهد إضافي للدفاع عن نفسها. وقال إن المملكة العربية السعودية ينبغي لها أن تدفع في مقابل الأمن الأميركي. كما شَجَّع اليابان وكوريا الجنوبية على اقتناء أسلحة نووية. وأوضح ترامب أن أميركا لن تستمر في لعب دور رجل الشرطة في أوروبا، والشرق الأوسطـ، وآسيا؛ بل ستكون شركة أمن خاصة مفتوحة لمن يرغب في استئجار خدماتها.

ثانياً، لن تسلم المؤسسات العالمية من الهجوم. إذ يرفض ترامب جوهريا الرأي القائل بأن النظام العالمي الليبرالي الذي أنشأته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية (والذي توسع بعد الحرب الباردة) هو أرخص وسيلة للدفاع عن القيم والمصالح الأميركية. ومثله كمثل جورج دبليو بوش بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، يرى ترامب أن المؤسسات العالمية تفرض قيودا لا تطاق على حرية حركة الولايات المتحدة. وهو يسعى إلى تنفيذ أجندة تحريفية رجعية لكل هذه الهيئات تقريبا، من منظمة التجارة العالمية إلى حلف شمال الأطلسي والأمم المتحدة. ومن المرجح أن تُفضي رغبته في جعل ممارسة “فن عقد الصفقات” الحاكم الأساسي في كل العلاقات الدولية ــ إعادة التفاوض على شروط كل الاتفاقيات ــ إلى استفزاز ردة فِعل مماثلة بين شركاء أميركا.

ثالثاً، سوف يقلب ترامب كل العلاقات الأميركية رأسا على عقب. ومكمن الخوف الصريح هنا هو أنه سيكون أكثر لطفا في التعامل مع أعداء أميركا مقارنة بتعامله مع حلفائها. ويتمثل الأمر الأكثر تحديا للأوروبيين في إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتن. فإذا قرر ترامب، في محاولة لتملق بوتن بحثا عن صفقة كبرى، الاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، فسوف يوضع الاتحاد الأوروبي في موقف شبه مستحيل.

ورابعاً، هناك مسألة عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات ترامب. فحتى خلال الحملة الانتخابية الرئاسية التي دامت 18 شهرا، كان ترامب على جانبي كل القضايا تقريبا. وتُظهِر حقيقة أنه سيقول اليوم عكس ما قاله بالأمس، من دون الاعتراف بأنه غير رأيه، إلى أي مدى تتحكم أهواؤه ونزواته في طريقته في التعامل مع الأمور.

الواقع أن إحدى فوائد النظام السياسي في الولايات المتحدة أنه يوفر مهلة شهرين للاستعداد لعالَم ترامب. ماذا ينبغي للأوروبيين أن يفعلوا إذن؟

أولاً، يتعين علينا أن نحاول زيادة فاعليتنا في مواجهة الولايات المتحدة. فنحن نعلم من كتابات ترامب وسلوكه أنه من المرجح أن يشبه الرؤساء الأقوياء وأن يتعامل مع نقاط الضعف كدعوة للعدوان. وقد رأينا من تجربة العراق أن أوروبا المنقسمة ضئيلة القدرة على التأثير على الولايات المتحدة. ولكن حيثما عملت أوروبا بشكل موحد ــ في ما يتصل بقضايا مثل الخصوصية، وسياسة المنافسة، والضرائب ــ فإنها كانت قادرة على التعامل مع الولايات المتحدة من موقف قوة.

وكان نفس المنطق ساريا مع سياسة الدول الأوروبية الثلاث + ثلاث في التعامل مع إيران ــ عندما نجحت دول الاتحاد الأوروبي الكبرى في تحويل موقف الولايات المتحدة بالوقوف صفا واحدا. ولكي يأخذ الاتحاد الأوروبي زمام المبادرة، فيتعين عليه أن يطلق الآن عملية الاتفاق على سياسات مشتركة بشأن الأمن، والسياسة الخارجية، والهجرة، والاقتصاد. لن يكون هذا بالمهمة السهلة، لأن أوروبا منقسمة بشكل عميق، حيث تخاف فرنسا من الإرهاب، وتفزع بولندا من روسيا، وتهتاج ألمانيا بفِعل قضية اللاجئين، وحيث المملكة المتحدة عازمة على العمل منفردة.

ثانياً، ينبغي للأوروبيين أن يُظهِروا قدرتهم على تغطية رهاناتهم وبناء التحالفات مع الآخرين. ويتعين على الاتحاد الأوروبي أن يتواصل مع القوى الأخرى للمساعدة في دعم المؤسسات العالمية ضد تحريفية ترامب. يتعين على الاتحاد الأوروبي أيضا أن يعمل على تنويع علاقات السياسة الخارجية. فبدلا من الانتظار حتى يهمش ترامب الاتحاد الأوروبي لصالح روسيا والصين، ينبغي للأوروبيين أن يطلقوا بعض بالونات الاختبار. فهل ينبغي لهم على سبيل المثال الشروع في التشاور مع الصينيين بشأن حظر أسلحة الاتحاد الأوروبي لتَذكير الولايات المتحدة بقيمة التحالف بين ضفتي الأطلسي؟ وهل من الممكن أن ينمي الاتحاد الأوروبي علاقة مختلفة مع اليابان؟ وإذا كان ترامب راغبا في التودد إلى روسيا، فربما ينبغي له أن يتولى عملية نورماندي بشأن أوكرانيا.

ثالثاً، يتعين على الأوروبيين أن يستثمروا في أمنهم. فمن أوكرانيا إلى سوريا، ومن الهجمات السيبرانية إلى الهجمات الإرهابية، يجري سَبر أمن أوروبا بطرق مختلفة. فبرغم التفهم الفكري لحقيقة مفادها أن خمسمائة مليون أوروبي لم يعد بوسعهم تفويض أمنهم لثلاثمائة مليون أميركي، لم يفعل الاتحاد الأوروبي شيئا يُذكَر لسد الفجوة بين احتياجاته الأمنية وقدراته. والآن حان الوقت لتفعيل الخطة الفرنسية الألمانية للدفاع الأوروبي. ومن الأهمية بمكان إيجاد سبل مؤسسية لربط المملكة المتحدة بالبنية الأمنية الجديدة في أوروبا.

يتعين على الأوروبيين أن يحرصوا على الإبقاء على الباب مفتوحا أمام التعاون عبر الأطلسي في ما يتصل بكل هذه القضايا. فهذا التحالف ــ الذي كثيرا ما أنقذ أوروبا من نفسها ــ أكبر من أي فرد. وفي كل الأحوال، لن يدوم ترامب إلى الأبد. ولكن بقاء العلاقة عبر ضفتي الأطلسي يصبح أكثر ترجيحا إذا بنيت هذه العلاقة على ركيزتين تدرك كل منهما مصالحها وتدافع عنها.

لن يكون تبني هذه الأجندة بالمهمة السهلة ــ خاصة وأن أوروبا تواجه نسختها الخاصة من القومية الشعبوية. فكانت زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة في فرنسا، مارين لوبان، بين أول المهنئين لترامب على فوزه، وقال ترامب إنه يعتزم إعطاء الأولوية للمملكة المتحدة بعد الخروج البريطاني. ولكن حتى زعماء أوروبا الأقرب شبها إلى ترامب سوف يواجهون مصاعب أكبر في الدفاع عن مصالحهم الوطنية إذا حاولوا العمل منفردين. ولكي يتمكنوا من النجاة في عالَم ترامب، ينبغي لهم أن يحاولوا جعل أوروبا عظيمة مرة أخرى.

مارك ليونارد: مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية

المصدر

ضع تعليقاَ