مارس 19, 2024

ماسكوفسكي كارينغي: كيف تمكنت قطر الرقعة الصغيرة في الشرق الأوسط من فرض نفوذ كبير في المنطقة؟

نشر مركز ماسكوفسكي كارينغي الروسي دراسة تحدث فيها عن قطر باعتبارها أحد الدول العربية المؤثرة والفاعلة في سياسة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومن بين العوامل التي جعلت قطر تحظى بسمعة جيدة بين الدول العربية تجسيدها لمعالم الدولة الإسلامية المثالية ذات نظام حكم “نموذجي” قادر على التأثير في سياسة الشرق الأوسط.

بالإضافة إلى ذلك، يرى معظم العرب أن قطر دولة غنية ومحايدة في العالم العربي الإسلامي نظرا لصغر مساحتها الجغرافية. في المقابل، بينما يعتقد آخرون أن حجم قطر الحقيقي يكمن خاصة في كيفية تدخلها في تطوير مسار الأحداث في الشرق الأوسط ومجريات الأحداث العالم العربي عموما. 

وفي ظل تعدد بؤر التوتر في العالم العربي عموما، وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، فإن الوضع الحالي في الشرق الأوسط يكاد يكون، حسب مقولة هوبز، بمثابة “حرب الجميع ضد الجميع”. فبالإضافة إلى الصراع القائم بين السنة والشيعة، تعاني المنطقة من مجموعة واسعة من النزاعات الناشبة بين مختلف الأطراف العرقية والسياسية التي اختارت من سوريا حلبة لصراعاتها. وعلى خلفية الأوضاع المضطربة، لا تكتفي قطر فقط بالنظر إلى ما يحدث، وإنما تتمتع بطموحات كبيرة ونفوذ دولي قد يعتبره البعض غير متناسب مع مساحة الإمارة الصغيرة.

الاهتمامات والمصالح

في غضون بضعة عقود، تحولت قطر من قرية بدوية صغيرة تسمى “البدع” إلى أحد أهم المراكز السياسية والاقتصادية والتجارية في الشرق الأوسط. ليصبح التطور المهول الذي شهدته إمارة قطر وتاريخ نجاحها  نموذجا فريدا من نوعه في التاريخ العالمي.

مما لا شك فيه،  ليس لدى قطر  قوة عسكرية ولا موارد بشرية كبيرة حتى تتمكن من التأثير على العمليات السياسية والعسكرية وصنع القرار في الدول المجاورة لها وفي دول مجلس التعاون الخليجي. ونظرا لعدم تمكن قطر من مجاراة جارتها على الصعيد العسكري، سعت هذه الدولة إلى تطوير أدوات “القوة الناعمة” لإيجاد بديل لما ينقصها لترجيح كفتها.

وفي شأن ذي صلة، أصبحت قطر من المبادرين الرئيسيين في ثورات “الربيع العربي”، التي غيرت وستغير مجرى التاريخ في الشرق الأوسط لعقود قادمة. وعلى هذا الأساس، تعتبر آراء الدوحة مؤثرة وفاعلة في العالم العربي بل ويعتقد بعض الخبراء أن استقرار أجزاء من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتوقف على طبيعة العلاقات مع قيادة هذه الإمارة الصغيرة.

وتتمثل أولى عوامل نجاح الإستراتيجية السياسية الخارجية لقطر في فهمها العميق لعمليات صنع القرار وللتطورات التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط. فالدوحة تحسن اختيار المكان والزمان المناسبين لتعزيز نفوذها في خضم الفوضى والصراع الطائفي والاشتباكات بين الإسلاميين والأنظمة العلمانية وهلم جر.

بالإضافة إلى ذلك، يعتبر احتياطي الغاز الطبيعي لقطر، الذي يقدر بحوالي 15 بالمائة من الاحتياطي العالمي للغاز الطبيعي، من العوامل الرئيسية التي ساهمت في جعل السياسة الخارجية القطرية نشيطة ومؤثرة إلى حد كبير. وقد تمكنت قطر من نيل مبتغاها بفضل حجم المساعدات والدعم الذي تقدمه لمؤيديها وحلفائها والموالين لها.

وتجدر الإشارة إلى أن الإستراتيجية السياسية الخارجية لقطر تشكلت منذ بداية العهد السابق لفترة حكم حمد خليفة آل ثاني، الذي جعل من قطر “قوة ناعمة” مؤثرة في العالم العربي. وفي سنة 1990، قررت قطر الاستفادة من الثروة التي تتمتع بها، من خلال إنشاء المحطة التلفزيونية “الجزيرة” في سنة 1996، التي أصبحت المصدر الرئيسي للحصول على أخبار الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وكل مستجدات المنطقة والعام ككل.

ووفقا لهذا فقد كان للقناة “الجزيرة” تأثير كبير على العالم العربي خاصة على الصعيد السياسي. في الواقع، لازال عدد من الخبراء والسياسيين إلى الآن يعتقدون أن المحطة التلفزيونية “الجزيرة” لعبت دورا كبيرا في دعم قيام الثورة المصرية، وفي سقوط نظام حسني مبارك، وعدد من الأنظمة العربية. فطيلة سنوات، اتبعت قناة “الجزيرة” نهجا تحرّريا، حيث اتسمت بالدعوة إلى الحرية والاستقلالية على أساس المبادئ التالية؛ تقديم الدعم لتعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومساندة معارضي القيادات السلطوية والعلمانية مثل حكم حسني مبارك وبشار الأسد، علاوة على حماية حقوق المسلمين في جميع أنحاء العالم.

ومن خلال الخط التحريري الذي اتبعته هذه القناة، أصبحت من المنابر الإعلامية التي تتمتع بالحرية المطلقة في توجيه الانتقادات الحادة لسياسة حكام الشرق الأوسط. بالإضافة إلى ذلك، تحولت هذه المؤسسة الإعلامية إلى “لسان” المعارضين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وبناء عليه، تمكنت الجزيرة من التأثير على احتجاجات “الربيع العربي” وتطويرها. وبالتزامن مع رياح التغيير، ناقشت الجزيرة بنشاط قضايا فساد نظام القذافي في ليبيا، وبن علي في تونس، وقمع الأسد في سوريا. وقدمت حوارات سياسية على أعلى مستوى جمعت كبار الخبراء من مختلف دول العالم.

ويعتبر البث المباشر والجودة في نقل المعلومات، فضلا عن الموضوعية من أهم المفاتيح التي جعلت قناة “الجزيرة” من القنوات العربية المفضلة بالنسبة للشعب العربي. لعل القاعدة الجماهيرية التي تحظى بها قد مكنتها من توجيه الرأي العام العربي والتأثير عليه والاستفادة من الموارد المالية القطرية غير المحدودة.

ووفقا لما ذُكر آنفا، تعد قناة الجزيرة إنجازا هاما قامت به القيادة القطرية وتمكنت من تحويله إلى مصدر هام للمعلومات وإعلاء قيم العالم الإسلامي. وبالتالي، من الواضح أن قطر عملت على تعزيز تأثيرها الإعلامي بمهارة وسرية تامة، وعقب ثورات “الربيع العربي” عملت بنشاط على حماية ودعم معارضي الأنظمة السابقة.

وطيلة سنوات، بذلت  “الجزيرة” جهودا حثيثة في سبيل الحفاظ على سمعتها باعتبارها إحدى وسائل الإعلام الأكثر موضوعية، والتي تستعين بخبراء مستقلين لتسليط الضوء على أهم أحداث الشرق الأوسط، وتعاطي القضايا الإنسانية والاجتماعية مثل الجفاف والفقر والمساواة بين الجنسين وغيرها من القضايا الهامة. كذلك، من أهم مميزات السياسة الخارجية القطرية إعطاء صورة إيجابية وبراقة عن الإمارة القطرية وتقديمها للعالم كبلد هادئ يتمتع فيه الشعب بكل سبل الرفاهية وسط عالم إسلامي مضطرب.

صورة قطر في العالم العربي

في الواقع، تعتبر قناة “الجزيرة” من أبرز أدوات القوة الناعمة لقطر، إلا أنها ليست الأداة الوحيدة التي تساهم في عكس صورة مثالية لإمارة قطر في الشرق الأوسط. ففي ظل تفشي الفقر والتخلف واستفحال الفساد وارتفاع نسبة البطالة في كل المنطقة العربية تقريبا، لا يمكن أن يصدق العالم بسهولة أن قطر هي “الجنة على الأرض”.

في المقابل، إن احتياطات الغاز الضخمة التي تضمن لسكان قطر والمقيمين فيها إحدى أعلى مستويات المعيشة في العالم، بالإضافة إلى العدد الكبير من الأجانب العاملين في قطر والقادرين على كسب مداخيل سنوية تفوق ما قد يكسبونه في بلدانهم الأصلية بأضعاف، وغيرها من العوامل الأخرى، تجعل من الدوحة إحدى أغنى العواصم في العالم. وبفضل هذه المكانة المرموقة، أضحت الدوحة منافسة لدبي وأبوظبي، التي فقد  طابعها الثقافي الأصيل نتيجة التنوع الكبير في الأعراق والديانات وفقدان الهوية، على عكس نظيرتها الدوحة التي تحافظ على القيم الإسلامية.

وفي هذا الصدد، نجحت قطر  في تقديم مجتمعها كأحد أكثر المجتمعات الإسلامية تجانسا ومثالية، ومركزا لإحياء الثقافة العربية الإسلامية القادرة على الجمع بين قيم الحداثة مع الحفاظ على القيم الإسلامية. وتجدر الإشارة إلى أن السلطات القطرية لم تدّخر أي جهد لتحقيق هذه الأهداف، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، تم افتتاح متحف الدوحة للفن الإسلامي، فضلا عن القرية الثقافية في قطر التي تجمع بين قيم التراث البدوي وملامح المجتمع الحداثي المعاصر.

علاوة على ذلك، يعد التعليم أحد أدوات القوة الناعمة القطرية الأكثر أهمية، حيث تخصص السلطات القطرية سنويا مبالغ كبيرة لتوفير منح للطلبة الأجانب للدراسة في الجامعات القطرية. ومنذ عهد الأمير حمد بن خليفة آل ثاني، وزوجته الشيخة موزة بنت ناصر، عملت السلطات القطرية على تعزيز التعليم الغربي وترسيخ القيم التقدمية. أما الأمير الحالي تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني، على الرغم من أنه لم يتخلى كليا عن أفكار والديه في مجال التعليم، إلا أنه قطع التمويل بشكل ملحوظ عن المشاريع السابقة وركز أكثر في مسألة المحافظة على اللغة العربية من خلال المناهج التعليمية.

وتجدر الإشارة إلى أن قطر تعمل على دعم التعليم الإسلامي، مما يعني أنها واحدة من الرعاة الرئيسيين لبناء المدارس والمراكز الإسلامية في مختلف دول الشرق الأوسط. وعلى هذا الأساس، يعتبر المذهب الوهابي هو أساس الإيديولوجيا التي تتبعها الإمارة القطرية.

بالإضافة إلى دعم التعليم، تمكنت قطر من إلغاء بعض الفروقات الجنسية والعرقية في مجتمعها، فرغم القواعد الدينية الصارمة، تعد نسبة النساء المتعلمات مرتفعة جدا مقارنة ببعض الممالك الأخرى في الخليج العربي. كما تمكنت من تحقيق نسب عالية للطلبة الإناث في الجامعات القطرية، ناهيك عن التقليص من معدل الولادات من 7 مواليد لكل امرأة سنة 1960 إلى 2 سنة 2015.

بالإضافة إلى ذلك نصبت الدوحة نفسها مركزا إقليميا للتسامح، فوفقا لمصادر مختلفة، حوالي 20 بالمائة من سكان قطر من الشيعة، ويعود أصل عدد كبير منهم إلى إيران، إلا أنهم يدعمون السلطات القطرية بشدة رغم الفوارق الطائفية. والجدير بالذكر، أن عدد السكان الأصليين لقطر لا يتعدى  200 ألف نسمة، بينما يصل عدد العمال الأجانب في الإمارة إلى أكثر من عشرة أضعاف.

وبناء على المعطيات المذكورة آنفا، فإن هذه الإمارة الصغيرة التي تأخذ حيزا جغرافيا صغيرا جدا، تمكنت من الظهور في الساحة العالمية كأحد المراكز الراعية للوحدة الإسلامية والعربية. كذلك، من المعروف عن هذه الإمارة، سعيها إلى محاولة التوفيق بين فتح وحماس لتوحيد الجهود في القتال ضد إسرائيل، ناهيك عن تحولها لمنبر رئيسي للتواصل والتنسيق بين القوات السورية وقوات المعارضة.

وعلى الرغم من أن قطر تمول بنشاط جماعات مختلفة في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه يُنظر إليها في أغلب الأحيان على أنها دولة محايدة في المنطقة. ووفقا للخبراء، فإن قطر تقدم الدعم المباشر للمعارضة المسلحة في سوريا، فضلا عن مشاركتها في قصف ليبيا، ومع ذلك لا يحملها قادة العالم العربي مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في هذه البلدان.

وفي الختام، يجدر القول إنه ولئن كانت قطر إمارة بالكاد ترى على خارطة العالم وبعدد سكان قليل جدا، إلا أن حجم تأثيرها على المستويين الدبلوماسي والسياسي في منطقة الشرق الأوسط يفوق التصور.

المادة مترجمة عن مركز ماسكوفسكي كارينغي للإطلاع على المادة الأصلية من هنا

ضع تعليقاَ