أبريل 25, 2024

ناشيونال إنترست: كيف فازت تركيا بِدول البلقان: قصة نجاح السياسة الخارجية التركية

في 10 تشرين الأول/أكتوبر 2017، قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارةٍ دوليةٍ لصربيا، واجتمع في أثنائها مع نظيره الصربي ألكسندر فوتشيتش، وقال: “نحن مع صربيا ومع البلقان بأسرها نرغب في اتخاذ خطواتٍ لحل جميع المشاكل”. ورد فوتشيتش قائلاً: إن “صربيا تعتبر تركيا صديقةً لها اليوم”. وعلى الرغم من أن زيارة أردوغان لصربيا كانت ثنائية في المقام الأول، فإنها أظهرت أيضاً أن تركيا أصبحت مرة أخرى لاعباً رئيسياً في البلقان. والواقع أنه بالنظر إلى الحالة المتعثرة للعلاقات الدولية التركية، يبدو أن البلقان هي المكان الوحيد الذي تنجح فيه السياسة الخارجية التركية.
مع الظل الطويل الذي يلقيه تاريخ الإمبراطورية العثمانية، فإن التأكيد على العلاقات القوية بين تركيا والبلقان قد لا يكون ثورياً، ولكنه مع ذلك فإنه يمثل انحرافاً كبيراً عمَّا يقرب من قرنٍ من السياسة الخارجية التركية. فبعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في حروب البلقان، وانهيار الإمبراطورية الذي نتج عنها بعد الحرب العالمية الأولى، تجاهلت تركيا أتاتورك منطقة البلقان. وبالنسبة للسياسة الخارجية للجمهورية التركية الجديدة، لم تكن البلقان ببساطة منطقةٍ هامةٍ استراتيجياً. بل على النقيض استرشدت الدبلوماسية التركية بمبدأ أتاتورك الشهير “السلام في الوطن، السلام في العالم”، وتوقفت تركيا في ظل هذا الحد الأقصى عن محاولة أن تكون قوة رئيسية في مقاطعاتها العثمانية السابقة. وظل هذا هو الحال لفترة طويلة من الحرب الباردة مع تقليص سياسة تركيا تجاه البلقان إلى الدبلوماسية الثنائية. وكانت المنطقة مهمة بالنسبة لأنقرة فقط في سياق مواجهة التهديدات السوفياتية المحتملة، وأبرزها اتفاق البلقان الذي فشل في عام 1950 بين تركيا واليونان ويوغوسلافيا.
أعاد انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور البلدان الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى، إلى جانب تفكك يوغوسلافيا والحروب التي أعقبت ذلك، إحياءَ فكرة تركيا كقوة إقليمية في أوراسيا. وأثار الدعم الذي قدمته تركيا للمسلمين والألبان البوسنيين في حرب البوسنة وكوسوفو المخاوف في عواصم البلقان، لا سيما بلغراد وأثينا، وأُثير التهديد الذي نُسي مدة طويلة.

كان يُرمز لهذا الخوف بمصطلح “القوس الإسلامي” خلال التسعينات، ويُطلق عليه أحياناً “القطاع الأخضر”، وهو مصطلح فني يستخدم لوصف سلسلة من الأراضي التي يسكنها مسلمو البلقان. وهذه الأراضي تربط بين تركيا وبلغاريا ومقدونيا وألبانيا ومقاطعة سانداك الصربية، التي يسكنها المسلمون، وكوسوفو والبوسنة والهرسك. وفسّر بعض الناس هذا الدعم بمحاولةٍ لعزل اليونان عن ظهيرها البلقاني، وقطع طريق بلغراد-أثينا البري مع الحلف. من السهل الآن أن ننسى أنه في التسعينات كان هناك خوف واسع النطاق بين الشخصيات السياسية الرئيسية في الولايات المتحدة، بما في ذلك هنري كيسنجر والمفكرون المحافظون البارزون بمن فيهم جوشوا مورافشيك، من أن الحروب البوسنية قد تنتشر في كوسوفو ومقدونيا، و تبتلع في طريقها اليونان وتركيا في صراع البلقان الأوسع.
اتخذت سياسة البلقان في تركيا شكلاً ملموساً ومتماسكاً تحت إدارة أحمد داود أوغلو، وهو عالمٌ سياسيٌ أصبح فيما بعد وزير الخارجية التركي (2009-2014)، ورئيس الوزراء (2014-2016). وكأكاديمي كتب داود أوغلو “العمق الاستراتيجي: موقف تركيا الدولي”، وهو كتابٌ لم يترجم قط إلى اللغة الإنجليزية. وقال داود أوغلو في هذا الكتاب إن تركيا يجب أن تصبح من جديد قوةً رئيسيةً في أوراسيا، وستفعل ذلك من خلال استعادة نفوذها في المقاطعات العثمانية السابقة بما في ذلك البلقان، من خلال سياسةٍ خارجيةٍ ناشطة. لم تتلقَ سياسة البلقان في تركيا قط أي نوعٍ من الاهتمام الدولي الذي تلقته سياستها النشطة الجديدة في الشرق الأوسط. وغاب عن كثيرين في الغرب الاهتمام الخاص الذي أولاه داود أوغلو للبلقان في كتابه.

وفي الحقيقة أشار داود أوغلو على وجه التحديد إلى حروب البلقان، مشيراً إلى دول البلقان باعتبارها المنطقة التي بدأ فيها انهيار الإمبراطورية العثمانية. وأكد داود أوغلو أنه من خلال الوجود التركي في البلقان يمكن لتركيا أن تثبت نفسها كقوة أوروبية، وادعى داود أوغلو أيضاً أنه من دون منطقة نفوذ ومُعامل دفاع في البلقان لن تتمكن تركيا من ممارسة نفوذها بفعالية في الشرق الأوسط أو منطقة أوراسيا الأوسع. ولتحقيق هذه الغايات المعقدة كتب داود أوغلو أن تركيا بحاجة إلى تشكيل تحالفات وتعزيز المجتمعات الإسلامية في جميع أنحاء البلقان.
وقد خدمت الأزمة المالية عام 2008 هذا الغرض لدى تركيا تماماً. فقد أصبح الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مشتتَين بالقضايا المحلية. فملأت تركيا، التي لم يعانِ اقتصادها بشكلٍ حادٍ مثل اقتصاد الدول الغربية الكبرى وغيرها من القوى الخارجية، هذا الفراغ بالدعم الدبلوماسي والاقتصادي. وأصبحت أنقرة حازمةً تماماً في تعزيز دورها الجديد في البلقان وعلاقتها الخاصة مع مسلمي البلقان. وأثار تواتر التصريحات المطمئِنة والمنمقة التي أدلى بها المسؤولون الأتراك بخصوص هذا التأثير، مخاوف بلغراد. وتميل دول البلقان الأخرى، مثل بلغاريا، إلى عرض مواقف خلافية تجاه تركيا. ومن الجدير بالذكر أنه خلال زيارة أردوغان عام 2013 إلى بريزرن في كوسوفو، قال رئيس الوزراء: “لا تنسوا؛ تركيا هي كوسوفو، وكوسوفو هي تركيا!”. و في موقف مشابه في عام 2016 و قبل وقت قصير من تنحيته من منصبه، قال داود أوغلو أثناء حضوره إعادة إعمار مسجدٍ دمرته الحرب في بانجا لوكا في القسم الصربي من البوسنة: “لقد كنّا هنا، ونحن هنا، وسنكون هنا إلى الأبد”.
وعملت تركيا على مبادراتٍ دبلوماسيةٍ أخرى في البلقان، وتوسطت بين طائفتين مسلمتين صربيتين متصارعتين؛ إحداهما في بلغراد والأخرى في سانداك. وأطلقت آلية مصالحةٍ ثلاثيةٍ بين تركيا وصربيا والبوسنة والهرسك. كما أنشأت أنقرة شراكةً هامةً مع مقدونيا، ولم يكن ذلك فقط من أجل إضعاف اليونان، ولكن لأن تركيا كانت ترى مقدونيا في القلب الجغرافي للبلقان، حيث إنها تقع على حدود صربيا وألبانيا وبلغاريا واليونان.

ويبدو أن البلقان هي المكان الوحيد الذي نجحت فيه السياسة الخارجية التركية، حيث اصطدمت تركيا في آسيا الوسطى والقوقاز بمقاومةٍ روسية. في حين تمتلئ علاقة تركيا مع جيرانها، في الشرق الأوسط، بالعداء والشك، الأمر الذي أضر تماماً بما وصفه داود أوغلو بأنه النهج التركي الجديد “تصفير المشاكل” مع الجيران.
ومنذ أول ظهور لأزمة اللاجئين في عام 2015 اكتسبت تركيا زخماً إضافياً متزايداً في البلقان. وبسبب قدرة أردوغان على تهديد الاتحاد الأوروبي من خلال “سيطرته” المرغوبة بشدة على تدفقات المهاجرين، والتي كان من آثارها الجانبية تعريض بلدان البلقان للخطر خلال هذه العملية، أصبحت تركيا أكثر أهميةً بالنسبة لتلك الدول. كما حاولت تركيا أيضاً كسب قلوب المسلمين المحليين وعقولهم، وهو أمرٌ يمكن رؤيته في تمويلها لمسجد نمازغاه في تيرانا- ألبانيا، والذي من المقرر أن يكون أكبر مسجد في البلقان. وفي ضوء النزعات الاستبدادية المتزايدة في البلقان، فإن تركيا أردوغان أيضاً تضع نموذجاً سياسياً لدول البلقان التي تجد نفسها خارج المؤسسات المتعددة الأطراف وتفتقر لأبطال في الغرب.
لم يمضِ هذا الوجود التركي المتنامي دون ملاحظة الاتحاد الأوروبي. ومع ازدياد الأزمة في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا فإن تركيا، مثل روسيا، كثيراً ما تُتهم بمحاولة قمع نفوذ الاتحاد الأوروبي في البلقان. بل يدعي البعض أن تركيا قد تذهب إلى حد دعم توحيد جميع الألبان في دولة ألبانية واحدة.
وعلى الرغم من بعض النجاحات فتركيا تواجه قيوداً حقيقيةً في محاولاتها لتحويل البلقان إلى منطقة ذات تأثير استراتيجي. فأولاً تعتبِر معظم الدول المسيحية في البلقان تركيا وسيطاً متحيزاً يعطي الأولوية لمسلمي البلقان، وتجلى هذا في أوضح صوره عام 2013 عندما انسحبت بلغراد من اجتماعٍ ثلاثيٍ مع تركيا والبوسنة، رداً على بيان أردوغان المذكور في كوسوفو. نظراً لإرث الإمبراطورية العثمانية، يجب على تركيا أن تسير على خط رفيع بين دعم مسلمي البلقان وإبعاد مسيحيي البلقان. ثانياً بالنسبة لتركيا فإن الجوار الشرق الأوسطي المزعج سيكون دائماً أولويةً مقارنةً بالبلقان، ومن ثم سيحول الكثير من جهود تركيا ومواردها إليه. ثالثاً ستكون جهود تركيا مهددة بعلاقاتٍ دبلوماسيةٍ معززةٍ بين صربيا وبلغاريا واليونان. وستحاول هذه البلدان معاً التصدي للنفوذ الإقليمي التركي. وقبل كل هذا، فإن الوجود الاقتصادي التركي في المنطقة ضئيل مقارنة بوجود الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أن المحادثات التي تجريها وكالات التنمية التركية، مثل TIKA، غالباً ما تُقابل بوعود استثمار، فإن القليل من المال فقط يلوح في الأفق حتى في المناطق الموالية لتركيا مثل سانداك.
وبالنسبة لتركيا، فإن الطريقة الأكثر فعالية لمواصلة إعادة الانخراط الناجح في البلقان تتمثل في مواصلة التعاون العملي القائم على المصالح مع عواصم البلقان. ويجب أن يتم ذلك دون التذرع بالإرث العثماني، الذي يسلط ضغطاً عاطفياً شديداً على البلدان التي لديها ذكريات طويلة من الاحتلال الإسلامي.
و بتطبيق ذلك بحرص، فإن تركيا ودول البلقان قد تخلق نموذجاً ناجحاً جداً للتعاون الإقليمي. لا يجب النظر إلى الوجود التركي على أنه سلبي. فصحيح أن تركيا أقوى بكثير من جيرانها في منطقة البلقان، ومن الطبيعي أن ترغب أنقرة في ترجمة هذه القوة إلى نفوذ، وعواصم البلقان تتوقع ذلك ولم تقدم لهم العديد من الخيارات الأخرى. لقد تعامل الاتحاد الأوروبي والغرب مع البلقان كأمرٍ مفروغٍ منه، وأبقوهم منتظرين لفترة طويلةٍ جداً. قد يكون شعب البلقان راغباً في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن لا يمكن أن يطلب منهم الانتظار إلى الأبد. وفي غياب عروض أفضل، ستكون البلقان أكثر عرضة لمبادرات القوى الخارجية كتركيا. ولا يمكن للغرب أن يقول إنه لم يتم تحذيره.

المصدر: ناشيونال إنترنست 

الكاتب: فوك فوكسانوفيتش

الرابط: http://nationalinterest.org/feature/how-the-balkans-were-won-turkish-foreign-policy-success-22771?page=show

ضع تعليقاَ