أبريل 19, 2024

دماغنا الجماعي: الإبداع عندما يتعلم البشر من بعضهم البعض

جوزيف هنريك (JOSEPH HENRICH)

تخيل تنظيم لعبة البقاء على قيد الحياة بين قوات من قرود الكابوتشين  وبينك أنت وزملاءك في العمل. سينزل كلا من الفريقين بالمظلات  في غابة أفريقية نائية، دون أي معدات: دون أعواد كبريتأو سكاكين أو أحذية أو خطاطيف صيد السمكأو ملابسأو مضادات حيويةأو أواني أو حبال أو أسلحة. وبعد سنة واحدة، سيكون الفريق الذي بقي معظم أعضائه على قيد الحياة هو المنتصر. فعلى أي فريق ستراهن؟

قد تفترض أن البشر، نظرا للذكاء الذي ينعم به، سيكون الفريق الفائز بلا شك. لكن هل تعرف أنت وزملاءك كيفية صنع الأقواس والسهام، وشبكات وخزانات المياه، والملاجئ؟ هل تعرف أي النباتات سامة؟ هل بإمكانك إشعال النار دون كبريت؟ هل يمكنك صنع خطاطيف صيد الأسماك أو المواد اللاصقة الطبيعية؟ هل تعرف كيف تحمي نفسك من القطط الكبيرة والثعابين في الليل؟ الإجابة على معظم، إن لم يكن كل، من هذه الأسئلة هو على الأرجح “لا”، وهذا يعني أن فريقك من المحتمل أن يخسر ضد مجموعة من القرود – وربما بشكل سيئ جدا.

هذا يثير سؤالا واضحا. إذا لم نتمكن من البقاء على قيد الحياة كصيادين في أفريقيا، القارة التي تطور فيها جنسنا البشري، كيف استطاع البشر تحقيق هذا النجاح الهائل بالمقارنة مع حيوانات أخرى وامتد النجاح تقريبا إلى جميع النظم البيئية الرئيسية لكوكب الأرض؟

هنا نجد جزءا رئيسيا من الجواب: نحن أنواع ثقافية. لدينا قدرات نفسية فريدة من نوعها تسمح لنا بالتعلم من بعضنا البعض على مر الأجيال، وتسهل تراكمات العملية التطورية الثقافية التي تنتج تقنيات ولغات وهيئات معرفية وأدوات ومفاهيم واستدلالات على التكيف معقدة ومتطورة للغاية. إن قوة هذه العملية ليست بسبب ذكاء منفرد خام، ولكن بسبب إعادة تفسير الرؤى غير المتوقعة والأخطاء التي ينتجها ذكاؤنا.

وهذا يعني أن معدل الابتكار سوف يعتمد جزئيا على الحجم والترابط بين مجموعة من العقول التي تسهم في العملية التطورية الثقافية. كل الأمور الأخرى ستكون متساوية، مجموعات مترابطة جدا وأكثر اجتماعية من شأنها أن تنتج عددا أكبر من الأدوات والتقنيات والأساليب، حتى لو كان أفرادها أقل ابتكارا من تلك التي تضم مجموعة أصغر وأكثر عزلة.

ويدعم هذا الاستنتاج الدراسات التجريبية المخبرية المراقبة ودراسات الحالات التاريخية. منذ حوالي 10.000 سنة، على سبيل المثال، حول ارتفاع المحيطات تسمانيا من شبه جزيرة استرالية إلى جزيرة. وفي البر الرئيسي تواصل التقدم التكنولوجي دون عوائق. ولكن في تسمانيا، بدأت جماعات من الصيادين بفقدان أو الفشل في تطوير مجموعة واسعة من التقنيات المفيدة: أدوات العظام وملابس الطقس البارد ورماة الرمح والقوارب الدائمة. عندما وصل الهولنديون في القرن السابع عشر، وجد المستكشفون الأوروبيون لدى التسما نيين أبسط  تكنولوجيا على الإطلاق.

من أجل فهم الطبيعة الاجتماعية للبشر، من الأهمية بمكان أن نفهم كيف ساقت  الثقافة التطور الجيني لدينا إلى الطرق التي من شأنها التأثير ليس فقط في علم وظائف الأعضاء والتشريح لدينا ، بل أيضا في علم النفس الاجتماعي لدينا والدوافع والميول والتصورات. من خلال هذه العملية الطويلة، والتي ساعدت على بقائنا على قيد الحياة و تحقيق الازدهار مع الالتزام بقواعد اجتماعية محلية، مما جعلنا نبرز كمتعلمين اجتماعيين أقوياء.

إن أساس قدرتنا على تشكيل المجموعات التعاونية والمنظمات والمجتمعات لا ينشأ من الاتجاهات التعاونية الفطرية، ولكن من خصوصيات الأعراف الاجتماعية التي نتعلم، ونستوعب ونفرض على الآخرين. في حين لا تلعب دوافعنا الفطرية دورا مهما، بل يتم تسخيرها وتمديدها، أو قمعها من قبل الأعراف الاجتماعية، والتي تشكل الهيكل العظمي المؤسسي الذي يسمح لميولنا الفطري بالاشتغال.

وتولد هذه الرؤية الجديدة حول طبيعة الإنسان والمجتمع بعض الأفكار الهامة.

أولا، كأنواع ثقافية، يكتسب البشر أفكارا ومعتقدات وقيما وأعراف اجتماعية من الآخرين في مجتمعاتهم المحلية، وذلك باستخدام إشارات من الهيبة والنجاح والجنس واللهجة والعرق. نحن نولي اهتماما خاصا،  وخصوصا في ظل ظروف الشك وضغط الوقت والإجهاد، للمجالات التي تنطوي على الطعام والخطر والانتهاكات السائدة. إن تغيير سلوك الناس يبدأ بفمهم طبيعتنا الثقافية، وليس عقلانيتنا.

ثانيا، نحن نستوعب تدريجيا الأعراف الاجتماعية التي نكتسبها من خلال عملية تحركها ثقافة استئناس الذات. (نحن نحصل على معاييرنا للحكم ومعاقبة الآخرين من خلال العملية نفسها). هذه المعايير المٌستوعَبة هي الدافع الذي يوجه أعمالنا. وهذا يعني أن أفضليات الناس ورغباتهم ودوافعهم ليست ثابتة، وبالتالي يمكن لهذه البرامج أو السياسات المصممة بشكل جيد أن تغير ما هو تلقائي بديهي وواضح.

ثالثا، ترتبط المعايير الاجتماعية الأكثر قوة بجوانب علم النفس المتطورة لدينا. بينما المعايير الاجتماعية المتعلقة بالإنصاف اتجاه الأجانب، على سبيل المثال، هي أكثر صعوبة للتعزيز والنشر من تلك التي تتطلب رعاية الأمهات لأطفالهن.

رابعا، تعتمد قدرتنا على الابتكار على حجم الدماغ الجماعي، الذي يعتمد على قدرة القواعد الاجتماعية لتشجيع الناس على توليد وتقاسم وإعادة تجميع الأفكار والممارسات المبتكرة.

خامسا، هناك صلة وطيدة بين المؤسسات وعلم النفس. وكما أن للمجتمعات المتنوعة معايير مختلفة ومؤسسات ولغات وتكنولوجيات، فإن لديها أيضا طرق مختلفة للتفكير والاستدلال العقلي، والدوافع، وردود الفعل العاطفية. إن فرض المؤسسات المستوردة غالبا ما يخلق عدم التطابق النفسي والاجتماعي الذي يقود إلى نتائج سيئة.

وأخيرا، نرى أن البشر يفتقر إلى درجة معينة من العقلانية، مما يجعلنا نفشل في تصميم المؤسسات والمنظمات الفعالة، على الأقل حتى الآن. آمل أن نستجمع مستقبلا رؤى أكثر عمقا حول الطبيعة البشرية والتطور الثقافي، وهذا أمر ممكن. حتى ذلك الحين، يجب أن نأخذ المثل من مجال التطور الثقافي وأنظمة التصميم التي تستخدم الاختلاف والاختيار لجعل المؤسسات تتنافس. فبهذه الطريقة يمكننا الاستغناء عن الخاسرين والحفاظ على الفائزين.

من خلال دراسة التفاعل الغني والتطور المشترك لعلم النفس والثقافة وعلم الأحياء والتاريخ وعلم الوراثة، نستطيع اكتساب رؤى مهمة حول علم النفس البشري. ونادرا ما سرنا في هذا الدرب العلمي. وهذا يَعد برحلة مثيرة إلى مجالات فكرية لم يتم استكشافها بعد، ونحن نسعى جاهدين إلى فهم خصوصية جنسنا البشري.

*** جوزيف هنريك: أستاذ بيولوجيا التطور الإنساني في جامعة هارفارد، كتابه الأخير هو سر نجاحنا: كيف تقود الثقافة التطور البشري، تمدن جنسنا البشري، وجعلنا أذكياء.

ضع تعليقاَ