مارس 28, 2024

قراءة في كتاب: “حضارات و مُدن” لأحمد داود أوغلو – الجزء الأول

يسألونَني: من هو أكثر أساتذتِكُم تأثيراً بكم؟! فأجيب: أكثر أساتذتي إلهاماً لروحي وذهني: إسطنبول

                                                                          أحمد داود أوغلو

أصدر رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، كتاباً جديداً، بعد انقطاعٍ عن التأليف دامَ لأعوام، نتيجةَ انشغالاتِه السياسية والدبلوماسية، إذ تنقَّل من استشارية الرئيس التركي أردوغان، إلى وزارة الخارجية، ثم إلى رئاسة حزب العدالة والتنمية ورئاسة الوزراء. وما إنْ استقالَ عن رئاسة الأخيرتَين، في تاريخ 5  أيار 2016، حتى بدأ بالعودة إلى حياته الثقافية والعلمية، الحياة التي أظهرَ شوقَه لها مراراً، إذ قال في لقاءٍ سابقٍ له، إنه طلب من أردوغان في عام 2008 الاستقالة والعودة إلى الجامعة، إلا أن أردوغان رفض. وقد بدأ أوغلو هذه العودة بإصدار كتابه الماتع: “حضارات ومدن”، وذلك في شهر حزيران من العام الحالي.

لا يتناول أوغلو المدنَ، كسياسي أو وزير، إنما كفيلسوف ومؤرخ أو رحَّالة، ويحاول أن يدركَ كنهَها كشاعر، أو يتناولها وجودياً ووجدانياً، كتجربَة شِعرية، أو يستكشف معالمها كـ”مغامَرة”، على حدِّ وصفه. إذ يقول في القسم الأول الذي أسماه (“تعرُّفي الأول بالمدن”: إسطنبول وقونيا كأستاذين لي في اكتشاف المُدن): “مهما كان التحليل النظري المجرَّد للمكان دقيقاً، إلا أنه لا يمكن أن يقَارَن بالتواصل الروحي والذهني الذي قام بيني وبين المدن التي زرتها وأثَّرت في تجربتي وفهمي”. فهو يرى أن قونيا قد علمته هدوء الحضارة، في حين أن إسطنبول علمته انسجامها.

يتحدث أوغلو في القسم الأول من الكتاب (الكتاب يتكون من ثلاثة أقسام)، عن المدن التي زارها، أي عن الانطباعات التي تركتها المدن في شعوره، ويبدأ بمكة والمدينة والقدس وإسطنبول، حيث يتحدث عن الروح المنثورة في كلٍ منها، فأطالَ الحديث عن سكون وهدوء المدينة المنورة، وتحدث عما أسماه “ميتافيزيقية” القدس، التي شعر بها في زيارته الأولى لها عام 1983، تلك الميتافيزيقية التي تصل الدنيوي بالكوني. وقد اعتبر أن رحلة المعراج كانت تعبيراً واضحاً عن هذه الميتافيزيقية، التي تجعل من المدينة ليسَ مكاناً يربط الحضارات فقط، بل يربط العوالِم. وشعور التواصل والتجلِّي ذاته قد جللهُ في زيارته إلى غار حراء وجبل ثور في عام 1989م.

كانت لندن أول مدينة غربية زارها أوغلو، إذْ يعتبرها المدينة التي تُمثِّل التمدن الغربي، أو النموذج الغربي للمدينة، وحاول أن يقيسها بإسطنبول، في شوارعها الرئيسية وكنائسها. وهكذا مرّ القسم الأول كاملاً في الحديث عن الانطباعات الذاتية، التي أحس بها، حينما زار بعض المدن في حياته (ما قبل السياسية وما بعدها)، وهو جزء أقرب للسيرة الذاتية، مليءٌ بالتواريخ والأحاديث الشخصية وبعض اللقاءات والمواقف والذكريات، وقد تحدث فيه عن مختلف المدن، كنيويورك (التي أسماها بابل الجديدة)، وروما، ودلهي، وبكين، والقاهرة، وعمان، وكوالالمور، ودمشق، وبغداد، وشيراز، وأصفهان.

يتحدث أوغلو في القسم الثاني من الكتاب، وهو قسم صغير مقارنة بالأول والثالث، عن بعض مناهج تفسير العلاقة بين المدينة والحضارة، وأفاض في توصيف أدوات القياس، التي استُخدمَت في المقارنة بين المدينة الغربية والمدينة الشرقية، وضرب مثالاً على المنهجية التي استخدمها عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، والمنهجية التي استخدمها المؤرخ الأمريكي لويس مومفود. وتحدث عن الدراسات التاريخية المختلفة عن المدن التي أنشأتها السلطنة العثمانية، وعن بعض نماذج الرؤية الاستشراقية في النظر إلى المدن الإسلامية.

يضرب مثالاً على مدينة إسطنبول والقاهرة، اللتين يراهما أوغلو مدينتين عثمانيتين، ويتحدث عن الجانب السكاني في النظر إلى المدن وتطور التوسع السكاني عبر التاريخ، فيقول إن عدد سكان إسطنبول ما قبل الفتح كان قد قارب 40 – 50 ألفاً، زادت إلى 75 ألفاً أثناء الفتح، وما إن وصل سليمان القانوني إلى الحكم، إلا وكان عدد سكان إسطنبول قد وصل إلى 500 ألف، وقد وصل العدد إلى 700 ألف في القرن السادس عشر، وبهذا كانت أكبر مدينة أوربياً، بل عالمياً في ذلك الوقت، يأتي بعدها بكين الصينية، ثم القاهرة العثمانية، التي كان عدد سكانها حينها 450 ألفاً.

يتحدث أوغلو، بأنَّ هناك أبعاداً مختلفة من الدراسات التاريخية التي تُعنى بالمدن، إذ تتناول كل دراسة جانباً معيّناً يخصّ المدينة، فبعض الدراسات تتحدث عن الجانب السكاني، والأخرى عن التطور التكنولوجي-المعرفي، وأحياناً عن جوانب التطور والعولمة التي تتمظهر فيها بعض المدن، ودراسات تركز على الجوانب التجارية والاقتصادية وتداول السلع، ودراسات تركز على الجانب البشري-الاجتماعي. وينقل مقولة جميلة عن المؤرخ الأمريكي لويس مومفود يقول فيها: “إن ما يقوم الإنسان ببنائه من عمران في المدينة، إنما به يدوِّن سيرته الذاتية”.

وتبعاً لذلك التنوع في أبعاد النظر، تصبح المدينة ذاتاً لموضوعٍ آخر، فمدينة أثينا عن الفلسفة والمعرفة، ومدينة روما عن النظام والقانون، ومدينة بغداد عن ولادة الحضارة الإسلامية، ومدينة باريس عن ولادة الحداثة، ومدينة لندن عن المجتمع الصناعي، ومدينة نيويورك كمركز انتشار العولمة. ويكاد هذه التنوع أن يدفع أوغلو في دراسة العلاقة بين المدينة والحضارة، وتاريخ هذه العلاقة، إلى أن يسأل نفسه: هل وُلِدت الحضارة قبلاً أم المدينة؟ وهل صنعت المدينةُ الحضارةَ أم أخرجت الحضارةُ المدينةَ إلى السطح؟!

وكان الأدب دوماً مجالاً للمدينة، أو كانت المدينة مكاناً ملهِماً وعاملَ إثراءٍ للأديب، فقد ألهمت مدينة سانت بطرسبورغ الأديبين الروسيين ديستوفيسكي وغوغول، كما فعلت لندن في شيكسبير وديكنز، وأخذ بلزاك إلهامه من مدينة باريس، وترى سمرقند بعيني أمين معلوف، ولا تكاد تخفى إسطنبول عن أي رواية للأديب التركي أورهان باموق. وكانت المدينة دوماً مقياساً للحضارة، في دورة حياتها، في تشكّلها ثم نهوضها ثم انحدارها وموتها، ونرى ذلك في أثينا وحضارة اليونان، وروما وحضارة الرومان، وتخت خشميد (أو برسبوليس) وحضارة فارس القديمة.

يُعتبر القسم الثالث من الكتاب أكبر أقسامه وأهمها، تزيد صفحاته عن ثلثي صفحات الكتاب، المكون أصلاً من 260 صفحة، وبه يتناول أوغلو، الأدوار المختلفة التي نيطت بالمدن في الحضارات المختلفة. فهناك (1) مدن أسست لحضارات، كمدينة أثينا، وروما، والمدينة المنورة، وباتنا الهندية. وهناك (2) مدن أسستها حضارات، كمدينة بغداد، وقرطبة، وأصفهان، ودلهي، وباريس، وبكين، ولندن، وبرلين، وأمستردام، وموسكو، وسانت بطرسبورغ. وهناك (3) مدن نقلت حضارات، ويعني بها أنها تحمَّلت دوراً محورياً في نقل حضارة ما من مرحلة إلى أخرى، (أي في عملية تأسيس حضارة ما)، كما فعلت مدينة الإسكندرية، وقونيا، وبورصة، وسراييفو.

ثم ينتقل إلى نوع آخر من المدن، وهي (4) مدن الأشباح، كما أسماها، وهي المدن التي بقيت حتى الآن لكنها كانت تمثّل حضارة مندثرة، مدن فاقدة لروحها، كمدينة قرطبة، وغرناطة، وسالونيك البلقانية، ومدينة باهجة سراي في شبه جزيرة القرم. ثم ينتقل إلى مستوى آخر، وهي (5) مدن اندثرت مع حضاراتها، كمدينة موهينجو دارو، التي كانت تمثل حضارة وادي السند، في باكستان، ومدينة هارابا، التي كانت إحدى أكبر مدن حضارة وادي السند أيضاً، ومدينة تخت خشميد، المندثرة هي وحضارتها (فارس القديمة)، ومدينة فاراب في حضارة بلاد ما وراء النهر، وأخيراً مدينة تينوتشتيتلان، في حضارة إمبراطورية الآزتك، في المكسيك.

ومن نماذج المدن أيضاً، تلك (6) المدن التي أسست لخط جيوثقافي – جيواقتصادي، كخط بلاد الرافدين – الأناضول – الشام، ومثَّلته مدن ماردين، والموصل، ودياربكر، وأورفا، وحلب، ودمشق. وخط آسيا الوسطى – إيران – الهند، كمدن سمرقند، وبخارى، وبلخ. وخط الأندلس – غرب أفريقيا، وقد مثلته مدينة مراكش في المغرب وتنبكت في مالي. أما آخر نماذج المدن فهي (7) مدن تَلاقِي الحضارات، وهي المدن التي تنقّلت ووصلت وامتزجت فيها حضارات مختلفة، وهي بشكل خاص، مدينة القدس، ومدينة القاهرة، ومدينة إسطنبول.

يتبع…

عبدالله الرحمون

ضع تعليقاَ