مارس 19, 2024

فورين أفيرز: النظام العربي الجديد … القوة والعنف في الشرق الأوسط اليوم

أي رؤية للمنطقة تسعى لإيجاد توازن عملي للقوة تبقى مجرد سراب: النظام العربي الجديد هو في الأساس نظام ناتج من الفوضى

بقلم: مارك لينش     |     ترجمة: سحقي سمر

هذه المادة مترجمة من مجلة: foreign affairs 

في عام 2011، خرج الملايين من المواطنين في جميع أنحاء العالم العربي إلى الشوارع. بحيث وعدت الانتفاضات الشعبية بداية من تونس إلى القاهرة بإسقاط الأنظمة الأوتوقراطية والدخول في إصلاحات ديمقراطية.
للحظة، بدا الأمر كما لو أن النظام الشرق أوسطي القديم كان يقترب من نهايته وسيحل محله نظام جديد. لكن الأمور سرعان ما انهارت. فقد سقطت بعض الأنظمة تحت الضغط وتوجهت إلى حرب أهلية؛ فيما وجدت أنظمة أخرى طرقًا لإعادة السيطرة على مجتمعاتها واستعادتها.
بعد سبع سنوات يبدو أن هذه الآمال المبكرة في تحقيق تحول إيجابي جوهري في السياسة الشرق الأوسطية كانت في غير محلها.

هذه الانتفاضات في الواقع أدت إلى قيام نظام عربي جديد –لكن ليس النظام الذي توقعه الأفراد على الرغم من أن الانتفاضات العربية لم تسفر عن ديمقراطيات جديدة ناجحة، إلا أنها أعادت تشكيل العلاقات الإقليمية. فالقوى العظمى التقليدية -مصر والعراق وسوريا- هي الآن بالكاد دول وظيفية. في حين أن البلدان الخليجية الغنية والقمعية -قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة– مزدهرة، في المقابل أدى تكاثر الدول الفاشلة والضعيفة إلى خلق فرص جديدة للمنافسة والتدخل، محفزة بذلك فواعل جدد وقدرات جديدة. فلم تعد الديناميكيات الإقليمية تحددها التحالفات الرسمية والنزاعات التقليدية بين الدول الكبرى. بدلا من ذلك ، تُحدد القوة من خلال ترويج النفوذ والحرب بالوكالة.

اليوم في كل دولة عربية تقريباً، تعمل السياسة الخارجية من خلال مزيج قوي من التهديدات والفرص. إن المخاوف من الانتفاضات المحلية المنبعثة، والقوة الإيرانية، والتخلي عن الولايات المتحدة إلى جانب التطلعات للاستفادة من الدول الضعيفة والفوضى الدولية هي ديناميكية تجذب القوى الإقليمية إلى صراعات بالوكالة ما يزرع الفوضى في جميع أنحاء المنطقة. وعليه فأي رؤية للمنطقة تسعى لإيجاد توازن عملي للقوة تبقى مجرد سراب: النظام العربي الجديد هو في الأساس نظام ناتج من الفوضى.

من الصعب فهم حالة الإحباط في الشرق الأوسط اليوم. فقد أصبحت الحرب الأهلية السورية واحدة من أعظم الكوارث الإنسانية في التاريخ، حيث أدت إلى قتل ما لا يقل عن نصف مليون مدني وشردت أكثر من عشرة ملايين آخرين. وفي حين أن العراق قد حقق تقدماً ملحوظاً في هزيمة الدولة الإسلامية أو ما يعرف بداعش، لكن هذا النجاح جاء بتكلفة كبيرة لمن يعيشون في المناطق المحررة. كما أدت الحرب الأهلية في اليمن إلى أكبر ظاهرة لتفشي الكوليرا في تاريخ البشرية، وتركت 8.4 مليون شخص على شفا المجاعة. في حين أن ليبيا لا تزال دولة فاشلة على نحو كارثي.

حتى الدول التي تتجنب الانهيار تكافح. فلا تزال مصر تعاني من عواقب انقلابها العسكري في عام 2013، لأن القمع الخانق يمنع التقدم السياسي، ويقضي على السياحة، ويغذي التمرد، ويدفع إلى ظاهرة الاستياء الشعبي. في حين تستمر البحرين في التهدئة بعد سلسلة الطائفية الدموية في عام 2011، مع عدم وجود حلول للعرض تتجاوز قمع المعارضة السياسية.
إن الدول الناجحة نسبياً، مثل الأردن والمغرب وتونس، تتصارع مع مشاكل اقتصادية ضخمة وشباب ساخط وجيران غير مستقرين. في كل بلد تقريباً، أصبحت المشاكل الاقتصادية والسياسية التي دفعت بالمنطقة نحو الانتفاضة الشعبية في عام 2011 أكبر حجما مما كانت عليه قبل سبع سنوات.

وفي الوقت نفسه، لا يوجد بريق أمل في المنطقة. فانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران قد أعاد فتح آفاق ضربة عسكرية أمريكية أو إسرائيلية يمكن أن تقود إلى حرب. في حين أدت مقاطعة قطر بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى تقسيم مجلس التعاون الخليجي باعتباره أنجح منظمة دولية عربية.
في سوريا، الضربات الجوية الإسرائيلية المتكررة على نحو متزايد  والعمليات التركية عبر الحدود، والوجود الإيراني الراسخ يدفعان الحرب الأهلية إلى اتجاهات جديدة حتى مع تلاشي المعارضة المسلحة لنظام الأسد.
في المقابل تتحدى الحرب الصفرية في اليمن أي محاولة للاحتواء، مع إطلاق صواريخ للمتمردين الحوثيون على المملكة العربية السعودية، ورد السعودية بغارات جوية تسببت في مقتل مدنيين على نطاق واسع، إضافة لإنشاء الإمارات لقواعد بحرية عبر القرن الإفريقي لمواجهة الحصار السعودي وحماية وجودها الجديد في جنوب اليمن.
في الوقت نفسه، يهدد العنف المتكرر في غزة ودوامة حل الدولتين بإعادة الأراضي الفلسطينية إلى مركز الاهتمام الدولي.

ووسط كل هذا، فإن الولايات المتحدة تحت حكم الرئيس دونالد ترامب، قد انضمت بحماس إلى محور دول متشابهة التفكير: مصر وإسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. لكن هذه المحاولة لاستعادة شيء يشبه نظام ما قبل 2011 أكثر اهتزازا بكثير مما تبدو.
ففي الشرق الأوسط اليوم يؤدي انتشار الدول الفاشلة، وأزمات الحكم غير المستقرة وخطوط المنافسة الشاملة إلى تقويض كل ممارسة للسلطة. عندما تحاول الدول فرض سيطرتها في الداخل أو التأثير في الخارج، فإنها تؤدي فقط إلى تفاقم انعدام الأمن لديها. إن قرار إدارة ترامب بمضاعفة دعم الأنظمة الاستبدادية مع تجاهل التغييرات الهيكلية العميقة التي تقف في طريق استعادة النظام القديم لن يؤدي إلى الاستقرار ولا لتحقيق المصالح الأمريكية.

الميزان المتغير

لا يوجد شيء جديد حول السياسة العابرة للحدود في الشرق الأوسط، لكن بنية وديناميكية المنطقة اليوم مختلفة تمامًا عما كانت عليه في فترات سابقة. فقد تم تعريف مرحلة الخمسينات والستينات من القرن العشرين من خلال ما أطلق عليه الباحث مالكولم كير Malcolm Kerr “الحرب العربية الباردة” بحيث أنه في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، تنافست مصر مع الأنظمة المدعومة من الغرب والقوى المحافظة في المملكة العربية السعودية في إطار نزاعات تراوحت بين التدخل العسكري المباشر في اليمن إلى صراعات بالوكالة حول السياسة الداخلية في الأردن ولبنان وسوريا.
في هذه الأثناء، وضعت القومية العربية -الإيمان بأمة عربية مشتركة- شروط التعاون والتنافس بين قادة المنطقة على أساس مناهضة الاستعمار والوحدة العربية والعداء لإسرائيل.

فيما ترى الحسابات التقليدية حول تاريخ الشرق الأوسط أن فترة السبعينيات تمثل نهاية الحروب الإيديولوجية العابرة للحدود. فمع وفاة عبد الناصر والظهور المفاجئ للثروة النفطية الهائلة، أصبحت الدول أكثر اهتماما ببقاء النظام من الأسباب الإيديولوجية الكبرى.
وخلال هذه الفترة، طورت البلدان العربية أجهزة أمنية قومية أقوى، الأمر الذي منع من حدوث انتفاضات محلية. وعندما أصبحت هذه الدول أكثر أمنًا داخليًا، كانت فرص العمل للتدخلات بالوكالة أقل. ( لبنان كان استثناء لهذه القاعدة وحربه الأهلية التي استمرت من 1975 إلى 1990، أصبحت الساحة الرئيسية للصراعات بالوكالة). وحتى الثورة الإيرانية عام 1979، التي أدخلت شكلاً جديدًا من أشكال التشابك لم تنجح في التعبئة الشعبية على الحدود بين الإسلاميين اقتداء بالإطاحة الناجحة لطاغي مدعوم من الولايات المتحدة، وعليه فشلت الثورة الإيرانية في إعادة إحياء ديناميكيات الحرب بالوكالة. وبدلاً من ذلك، توحدت الأنظمة العربية ضد عدو مشترك، وضاعفت من قمعها للمنافذ الإسلامية في الداخل.

وعلى النقيض من الطرح المثالي، فإن حقبة الدول الصلبة قد تلاشت قبل انفجار عام 2011. ففي التسعينيات، بدأت العولمة تطرح تحديات أساسية للنظام التقليدي في الشرق الأوسط. فقد دفعت الأرثوذكسيات الاقتصادية الدولية الجديدة الدول إلى خفض الإنفاق على الرعاية الاجتماعية والتوظيف العام. وشهدت الدول العربية الكبرى تنامي ظاهرة الفقر وتآكل البنية التحتية. حتى الدول الغنية بالنفط وجدت نفسها تحت رحمة القوى الاقتصادية العالمية، مثل الأزمة المالية عام 2008 والتقلبات في أسعار النفط.
وفي الوقت نفسه، قوضت الفضائيات والهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من التكنولوجيات الجديدة الأنظمة التي أصبحت تعتمد على التحكم في تدفق المعلومات والتعبير عن الرأي وبعد عام 2001، قوضت الحرب العالمية على الإرهاب، والشياطين التي أطلقها الاحتلال الأمريكي في العراق، وانهيار عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية أسس التعاون الإقليمي. وبحلول عام 2010، لم يبقى للنظام العربي تواجد كبير خصوصا بعد احتواء إيران وخنق عملية التغيير الديمقراطي.

الانتفاضات العربية في 2011 لم تخرج من العدم.

الانتفاضات العربية في 2011 لم تخرج من العدم. فقد كانت تتويجا للتغيرات الهيكلية التي تطورت لفترة طويلة. وكان الإحباط الشعبي من اقتصادات البلدان الراكدة وانعدام الحريات السياسية يتصاعد منذ عقد من الزمن على الأقل. وقد أصبح الفضاء السياسي في المنطقة موحداً من خلال القنوات التلفزيونية الفضائية وشبكة الإنترنت وغيرها من الشبكات العابرة للحدود الوطنية، مما سمح بانتشار الاحتجاجات بسرعة من تونس إلى مصر ومن ثم في جميع أنحاء المنطقة. وعليه فقد كشفت هذه الانتفاضات المتزامنة عن قدر كبير من القوة الداخلية للدول العربية: بعضها قابل للتكيف بسهولة، والبعض الآخر بالكاد نجح في ذلك، والباقي انهار.

على الرغم من أن تأثير الانتفاضات على السياسة الداخلية كان واضحًا، إلا أن المراقبين اهتموا بشكل أقل بالكيفية التي غيّرت بها هذه التداعيات توازن القوى الإقليمي. فالقوى التقليدية مثل مصر وسوريا أصبحت منشغلة بالصراعات الداخلية، مما جعلها غير قادرة على عرض قدراتها في الخارج.
من ناحية أخرى، الدول الخليجية الغنية متكيفة بشكل مثالي مع الواقع الهيكلي الجديد للمنطقة. فالمال وإمبراطوريات وسائل الإعلام، والموقع المركزي في الشبكات عبر وطنية القوية مثل جماعة الإخوان المسلمين (قطر) أو الأعمال التجارية الدولية (الإمارات العربية المتحدة) قد سمح لهم بممارسة القوة الناعمة. وعلى الرغم من صغر حجمهم، إلا أن هذه الدول لديها جيوش مجهزة تجهيزا جيدًا ومدربة تدريباً جيداً، مرفوقة بمرتزقة، وقد مكنهم ذلك من ممارسة نوع من القوة الصلبة في العديد من المناطق مثل ليبيا واليمن أكثر مما كانت القوى العربية التقليدية قادرة على فعله.
الأهم من ذلك، أن هذه الأنظمة تمارس سيطرة شبه كاملة على سكانها، مما يعني أنها يمكن أن تلغي التدخل الخارجي بطرق لا تستطيع الدول الأكبر والأقل ثراء والأقل قمعية من ذلك. وهذا الأمر ينطبق عليها حتى لو تواجهت هذه الدول ضد بعضها البعض. إن الجهود التي بذلتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة على مدى عام من أجل زعزعة استقرار قطر من خلال قطع العلاقات الدبلوماسية، وزرع المعلومات الخاطئة، وفرض حظر اقتصادي وتجاري فشلت في الغالب لأن قطر تملك الموارد المالية والقدرة القمعية على كبح التحديات المحلية المحتملة.

قوة الوكلاء

في إطار هذا النظام الإقليمي الجديد، تعمل القوة نفسها بطريقة مختلفة. فقد خلقت الانتفاضات مخاوف جديدة حول بقاء النظام، حتى بين اللاعبين الأكثر نجاحًا. في الوقت نفسه، قدمت الدول الفاشلة والحروب الأهلية للدول فرصًا جديدة لتوسيع نفوذها.
إن توحيد الفضاء السياسي العربي من خلال التجربة المكثفة للثورات جعل الدول تنظر إلى كل حدث في المنطقة كمؤشر قوة وتهديد محتمل: لا يمكن لأي دولة أن تختار الانسحاب سواء تعلق الأمر برغبة في تحقيق ونشر القوة أو مصلحة دفاعية في منع المنافسين من فعل الشيء نفسه، وعليه فقد وجد كل نظام عربي تقريباً نفسه في منخرطا في حروب أهلية وألعاب قوة مختلفة.

إذا كانت كل من تونس ومصر قد وضحتا حجم ومخاطر الانتفاضات الشعبية للقادة الذين كانوا واثقين من قدرتهم على منع التحديات التي تواجه حكمهم، فقد قدمت ليبيا النموذج الأول للاستفادة من هذه الاضطرابات. عندما وصلت الانتفاضات العربية إلى ليبيا، قفزت ثلاث دول خليجية هي قطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة إلى جانب تركيا، لتتحرك ضد الزعيم الليبي المنبوذ معمر القذافي فاستخدمت دول الخليج إمبراطورياتها الإعلامية لجذب الانتباه إلى الفظائع الليبية (مع تجاهل العنف المتزامن في البحرين). ووافقوا على قرار جامعة الدول العربية للمساعدة في دفع الولايات المتحدة والأمم المتحدة إلى دعم التدخل الإنساني في ليبيا. كما قاموا بتوجيه كميات هائلة من الأسلحة والمال إلى ميليشياتهم المحلية المفضلة التي تقاتل النظام.

هذه التدخلات غير المباشرة كانت لها تأثيرات سلبية طويلة الأمد. فقد دعمت كل من قطر والإمارات العربية المتحدة معارضي القذافي، لكنهما دعمتا وكلاء محليين مختلفين. وبعد سقوط النظام احتفظت تلك القوات بسلاحها ورعاتها الخارجيين، مما أعاق تعزيز الدولة الليبية وسحب البلاد بعد ذلك إلى حرب أهلية. وحتى اليوم، فإن الدعم العسكري المصري والإماراتي لعملية الكرامة للواء خليفة حفتر، الذي تسيطر قواته على جزء كبير من شرق ليبيا، تعمل على تسريع وتكثيف عمليات القتال.

لكن التداعيات المدمرة للتدخل الخارجي لم تظهر في الحين. ففي عام 2011، نظرت دول الخليج وتركيا (مثلها مثل الولايات المتحدة) إلى تدخلها في ليبيا على أنها قصة نجاح: فقد أدركوا فوائد دعم الوكلاء المحليين وعلموا أنهم يستطيعون تأمين الدعم الأمريكي والأوروبي والأممي للتدخل ضد منافسيهم ومع إدراكهم لإمكانيات جديدة، رأوا أن الانتفاضة الشعبية ضد الرئيس السوري بشار الأسد فرصة أخرى لإبعاد سوريا عن إيران ومراجعة توازن القوى الإقليمي لصالحهم. عندما أصبح واضحا في أوائل عام 2012 أنه لا يمكنهم تكرار نجاحهم في ليبيا من خلال الحصول على دعم مجلس الأمن الدولي للتدخل ضد الأسد فإن دول الخليج وتركيا تحركت لتسليح التمرد السوري. وحتى إذا لم ينجح ذلك في إسقاط الأسد، فقد رأوا فيه فرصة لإيقاع حليف إيراني دموي وأخذ المعركة إلى أرض منافس رئيسي.

أدى هذا الدعم الخارجي للمتمردين السوريين إلى نتائج كارثية، مما عجل في العنف دون تقديم أي طريق معقول للتسوية. وعلى الرغم من أن نظام الأسد يتحمل أكبر قدر من المسؤولية عن الفظائع والوحشية المنتظمة للصراع، فإن الداعمين الخارجيين للتمرد ساعدوا في تضخيم الحرب على الرغم من التكاليف الباهظة لها.
لقد فرض هيكل السياسة الجديدة في المنطقة الفشل الذريع. في كل مرة قام فيها المتمردون بغزوات، تدخل المتنافسون الخارجيون ـإيران، حزب الله، روسيا- تدخلوا إلى جانب الأسد. كل تقدم ولد هجوما مضاد حتميا ما صعد فقط من مستوى المعاناة الإنسانية. وفي واحدة من أكثر الأمثلة الحاسمة لهذه الديناميكية، في عام 2015، بعد أن حصلت جماعات المتمردين المتطرفة المدعومة من الخارج على الأرض في شمال سوريا، تدخلت روسيا بوحشية في حلب.

لم تكن القوى المتنافسة في سوريا بنفس القدرات أثناء دخولها في الحرب بالوكالة. فالقوى التي تدعم الأسد ركزت على دعم النظام. أما الإيرانيين على وجه الخصوص فقد أتقنوا فن رعاية الميليشيات المحلية مع التوجيه والدعم المباشر من فيلق الحرس الثوري الإسلامي. من ناحية أخرى، تنظر كل من قطر والمملكة العربية السعودية وتركيا إلى بعضهم البعض كمنافسين وحلفاء في نفس الوقت، كما أن جهودهم التنافسية وغير المنسقة كانت لها نتائج عكسية. ( أخذت دولة الإمارات العربية المتحدة مقعدًا خلفيًا في سوريا).

على الرغم من أن الولايات المتحدة حاولت فرض التعاون بين الفصائل القطرية والسعودية والتركية إلا أنها فشلت في التغلب على الاقتتال الداخلي بين ممولي ورعاة الفصائل أو فرض استراتيجية متماسكة وقد تضخمت هذه المشكلات بسبب خصخصة تدفق الأسلحة والمال للجماعات المتمردة في الأيام الحاسمة من أواخر عام 2012 وأوائل 2013، حيث قامت الشبكات السلفية في الخليج بصب الأموال للمتمردين. ما أدى إلى مزيد من التوتر وسحب مركز الثقل للتمرد وإنهاء دور الجهادية من الواجهة ومع اندلاع الحرب حولت دول الخليج وتركيا دعمها إلى تحالفات إسلامية متشددة على نحو متزايد في البحث عن مقاتلين فعالين. وخرج تنظيم الدولة الإسلامية من هذه البيئة، وليس كوكيل لأية دولة، وإنما كقوة متمردة تتكيف بشكل جيد مع ما أصبحت عليه سوريا.

بعد سنوات من محاولة تسليح المعارضة وضبطها وتشكيلها في وقت واحد، تدخلت الولايات المتحدة في نهاية المطاف في سوريا لمحاربة داعش وليس الأسد. نجح هذا التدخل بشروطه الخاصة حيث دمر داعش ككيان يشبه الدولة في كل من العراق وسوريا.
وفي الوقت نفسه، منع نطاق الحملة المحددة الولايات المتحدة من الانزلاق في صراع أوسع مع الأسد وروسيا. لكن تعقيدات إدارة هذا التدخل المحدود ضد داعش أثبتت أنها صعبة بحيث أنتجت التزامات جديدة غير مقصودة. فقد تميزت السنوات القليلة الماضية بالجهود الأمريكية والروسية لإدارة المنافسة في سوريا. في هذه الأثناء، استعاد النظام السوري المدعوم من إيران وروسيا الاستيلاء على الأراضي من حركة التمرد المتشددة والمدعومة من الخارج.

لكن حتى انهيار داعش ومكاسب نظام الأسد الكبير للأراضي لم يقرّبا الصراع من نهايته. تستمر دولة سوريا الفاشلة في ممارسة سحب مغناطيسي على دول أخرى في المنطقة. على سبيل المثال، أدت الحملة ضد داعش في النهاية إلى مشاركة تركية أكبر. وفي عام 2015 في إطار الحاجة الماسة إلى وكلاء محليين لمحاربة داعش، استقرت الولايات المتحدة على وحدات حماية الشعب التي يهيمن عليها الأكراد، أو التي كانت تسلحها جنباً إلى جنب مع الميليشيات الأخرى، تحت لواء القوات الديمقراطية السورية، أو قوات الدفاع الذاتي. أثار نجاح هذه القوات المخاوف التركية من النزعة الانفصالية الكردية والتي أدت في عام 2017 بتركيا إلى الاضطلاع بتدخلاتها العسكرية المتصاعدة في العديد من المناطق الرئيسية في شمال سوريا. في الوقت نفسه، بدأت إسرائيل في زيادة ضرباتها الجوية ضد أهداف إيران وحزب الله عبر سوريا. ويبدو أن معارضة النظام والحملة ضد داعش بدأت تنحسر، لكن الحرب السورية أصبحت أكثر تدويلًا من أي وقت مضى.

كل نظام عربي يعيش اليوم في ظل حالة من انعدام الأمن العميق.

على الرغم من أن سوريا هي الحالة الأكثر كارثية، فقد خلفت القوى الإقليمية أضراراً بشرية وسياسية هائلة في أماكن أخرى أيضاً، في سعيها من أجل النفوذ والمكانة. وقد أدت جهودهم إلى زعزعة استقرار البلدان التي لم تكن متورطة في حرب أهلية.
أسوأ مثال على ذلك هو مصر ففي عام 2013، دعمت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة انقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي العسكري، الذي أطاح بمحمد مرسي، الرئيس المنتخب ديمقراطياً والذي كان عضواً في جماعة الإخوان المسلمين والمدعوم من قطر. لكن على الرغم من عشرات المليارات من الدولارات التي تحصل عليها مصر كمساعدات خليجية، فإن نظام السيسي القمعي الوحشي فشل في استعادة الأوضاع الطبيعية أو الاستقرار في مصر وحتى في تونس، التي حققت نجاحًا نسبيًا، وعليه فإن المنافسة بين قطر والإمارات العربية المتحدة أدت إلى عدم الاستقرار. كما أدى ضخ الأموال الأجنبية والدعم السياسي للحلفاء المحليين إلى تلويث السياسات الديمقراطية الوليدة في البلاد.

معضلات أمنية في كل مكان

هذه الديناميكيات الإقليمية المضطربة هي نتاج “معضلات أمنية” كلاسيكية: فعندما تحاول الدول زيادة أمنها، فإنها تتجه لاتخاذ تدابير مضادة تجعلها أقل أمانًا مما كانت عليه من قبل. كل نظام عربي يعيش اليوم في ظل حالة من انعدام الأمن العميق. ورغم كل محاولات التباهي، فإن الأنظمة العربية تشعر بالرعب من اندلاع موجة أخرى من الاحتجاجات الشعبية. فقد أدى الانتشار السريع للاحتجاجات في عام 2011 إلى إقناع الدول بأن الانتفاضة في أي مكان في المنطقة يمكن أن تشعل الانتفاضات في الداخل. فعندما هزت الاحتجاجات الاقتصادية الأردن في مايو الماضي، قامت قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على الفور بتجديد المساعدة الاقتصادية إلى عمان من أجل وقف الاضطرابات.

ولكن عندما تحاول الدول قمع المنافسين المحتملين من خلال ممارسة سيطرة أكبر على مجتمعاتهم فإنها عادة ما تجعل الوضع أكثر سوءًا. وكلما صعبوا ذلك، ازداد الغضب والاستياء الذي يولدونه وبالتالي المزيد من احتمالات التضمين الديمقراطي. ويمكن رؤية هذه الديناميكية بشكل أوضح في مصر حيث وسع السيسي حملته ضد الإسلاميين لتشمل النشطاء العلمانيين والصحفيين والأكاديميين. ونتيجة لذلك قام بتغريب قطاعات كبيرة متزايدة من الائتلاف الذي دعم الانقلاب.

هذه المعضلات الأمنية الداخلية تفسر قرارات السياسة الخارجية التي لا يمكن تفسيرها. خذ بعين الاعتبار ولي العهد السعودي الجديد محمد بن سلمان. بعد توحيد السلطة بسرعة قام ولي العهد المعروف أيضا باسم MBS، بإحداث تحولات جذرية في السياسة المحلية. فأدخل الإصلاحات الاجتماعية مثل السماح للنساء بالقيادة وفتح دور السينما. وفي الوقت نفسه، قام بقمع النشطاء في مجال حقوق المرأة واعتقل ورهب قسما كبيرا من نخب البلد، كما قام بتهميش أجزاء رئيسية من المؤسسة الدينية. لكن لا يمكن النظر إلى الترسيخ السلطوي الناجح لولي العهد السعودي في الداخل بمعزل عن تدخلاته الكارثية والتجاوزية في الخارج. فحتى قبل استلامه السلطة المحلية قرر التدخل في الحرب الأهلية في اليمن  بافتراض أن النصر السريع هناك سيؤدي إلى التعبئة الجماهيرية. بدلا من ذلك، أصبحت القوات السعودية محاصرة في مستنقع مدمر. وبالمثل كان من المتوقع أن يؤدي حصار ومقاطعة قطر لعام 2017 إلى هيمنة السعودية على مجلس التعاون الخليجي وتقويض أي تحد محلي من جماعة الإخوان المسلمين وبدلاً من ذلك ، كانت النتيجة عكسية: أثبتت قطر قدرًا أكبر من المرونة مما توقعه معظم الناس. كما قوض الحصار العلاقات مع واشنطن، وألحق أضراراً بمحاولات احتواء إيران، وأضعف مجلس التعاون الخليجي بشكل قاتل. وفي كل من اليمن وقطر، وجدت المملكة العربية السعودية نفسها عالقة، غير قادرة على التصعيد بما فيه الكفاية للفوز ولكن أيضا غير قادرة على التراجع خوفا من العواقب السياسية الداخلية.

تقدم المنافسة بين الدول العربية وإيران مثالاً آخر على المعضلة الأمنية. على الرغم من أن مخاوف العرب من التوسع الإيراني ترتكز على الواقع، إلا أن هذه المخاوف كانت دائماً بعيدة كل البعد عن القوة الإيرانية الفعلية. ومع ذلك، كلما زادت أفعال الدول العربية لمواجهة إيران، كلما أصبحت إيران أقوى.

 وفي اليمن، حولت الحملة الإماراتية والسعودية ما كان في الأصل موطئ قدم إيراني ثانوي إلى تحالف استراتيجي أقوى مع المتمردين الحوثيين وأدى ذلك إلى اختراق أكبر من قبل وكلاء مدعومين من إيران.

 في سوريا، أعطى التمرد المدعوم من دول الخليج وتركيا لإيران دورا قياديا أكبر في سوريا، وفي لبنان أثار المشهد الغريب لحكومة السعودية التي تحتجز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري رهينة في الرياض لعدة أسابيع أزمة سياسية داخلية أضعفت في النهاية الائتلاف السني الموالي للسعودية في البرلمان اللبناني.

هذه الديناميكيات الجديدة ليست نتيجة منافسة بين الدول فقط. وإنما نتاج لظاهرة الدول الضعيفة والهشة التي أنتجت معضلات أمنية من خلال خلق فراغات في السلطة. وحتى إذا لم تنظر قوة إقليمية معينة إلى الفراغ السلطوي كفرصة جيدة لتوسيع نفوذها، فإنها تخشى أن يقوم منافسوها بفعل ذلك. وحالما تتدخل الدولة، فإنها تعتقد أن تخفيض الدعم لوكلائها المحليين لن يؤدي إلا إلى تعزيز وكلاء منافسيها الإقليميين. هذا الخوف يجعل من الصعب خفض التوتر في الحروب الأهلية في ليبيا وسوريا واليمن حتى لو أدركت الجهات الفاعلة أن تدخلاتها قد فشلت، فإنها تبقى محاصرة بالمنطق التنافسي للمعضلة الأمنية وغير قادرة على الفوز كما أنها غير قادرة على المغادرة.

الوضع الجديد طبيعي

في منطقة مشبعة بالمعضلات الأمنية، لا يمكن لأي قدر من التطمينات من جانب الولايات المتحدة أن يكون كافياً. إن الحجم غير المسبوق لمبيعات الأسلحة الأمريكية إلى السعودية والإمارات العربية المتحدة خلال السنوات الخمس الماضية (التي وافقت عليها إدارة أوباما لحشد الدعم للصفقة النووية الإيرانية) لم يجعل أيًا من تلك الدولتين أكثر أمانًا. حتى مع تخلي واشنطن عن أي حديث عن الدمقرطة أو الامتثال لحقوق الإنسان، لم يكن لدى الأنظمة الأوتوقراطية وقت لمعالجة تحدياتها الداخلية. فلم يؤد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني إلا إلى زيادة المخاوف بين دول الخليج العربي من إيران التي تزداد قوة.
كما أدى دعم واشنطن الأحادي الجانب لإسرائيل وسط أحداث العنف في غزة إلى تعميق العزلة الدولية لهذا البلد وسرعان ما ساهم في إحداث صراع آخر. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة دفعت دول الخليج السنية إلى مزيد من الانفتاح مع إسرائيل، إلا أن هذا الجهد تقوضه المواجهة الإماراتية والسعودية مع قطر.

حتى مع وجود رئيس أمريكي يتخذ موقفًا متشددًا تجاه إيران، فيبدو أنه لا يملك أية مشكلة مع الحكم الاستبدادي، وعليه فالأنظمة العربية لم تعد ترى الولايات المتحدة كضامن موثوق لبقاء النظام أو لمصالح سياستها الخارجية. في ظل هذه البيئة الجديدة، من المنطقي أن يقوم حتى حلفاء الولايات المتحدة المقربون ببناء علاقات مع الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي -كما تفعل مصر والسعودية وتركيا والإمارات العربية المتحدة وحتى الأردن. مثل هذه الجهود هي احتياط عقلاني ضد عدم القدرة على التنبؤ بأفعال الولايات المتحدة، ولكن يمكن بسهولة أن تتصاعد إلى شيء آخر من خلال نفس ديناميكيات المعضلة الأمنية التي قوضت جميع الأبعاد الأخرى للسياسة الإقليمية.

لقد كافحت إدارة ترامب لإدارة هذه الحقائق الجديدة. إن التغييرات المفاجئة في سياسة ترامب والمراسلة غير المترابطة التي تأتي من أجزاء مختلفة من الحكومة الأمريكية تربك الحلفاء والخصوم على حد سواء. قد تؤيد السعودية والإمارات العربية المتحدة موقف ترامب الأصعب تجاه إيران ودعمه للحرب في اليمن، لكن بخصوص سياسات أخرى مثل ضغوط واشنطن عليهم لإنهاء حصار قطر ومطالبها لهم بزيادة إنتاج النفط، و إشارات عزمها على الانسحاب من سوريا، ولدت إحباطات جديدة.

ومع ذلك، لا يجب على إدارة ترامب الفوضوية أن تصرف الانتباه عن الحقائق البنيوية الأعمق والتي كانت ستشكل تحديًا لأي رئيس أمريكي. لم تعد الولايات المتحدة تملك القوة أو الموقف لفرض نظام إقليمي وفق شروطها الخاصة. في جميع الاحتمالات، لن يتم استعادة الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط لأن المنطقة تغيرت بشكل جذري. إن تجاوز الحروب والفشل السياسي الذي أعقب الانتفاضات العربية لن يكون سهلاً. فالضرر عميق جدا.

ضع تعليقاَ