أبريل 19, 2024

عبد الله الرحمون: الانتصار للإسلام الشعبي

يكاد يتفق الطرح المعاصر في دراسات تاريخ الفكر ومقارنة الأديان، على أن التنوّع الداخلي في الإسلام هو حالة مَرَضِية معاصرة أو انهيار للمنظومة التوحيدية الناظمة للإسلام، مغفلة -أي هذه الدراسات- أن الإسلام تاريخياً لم يكن واحداً متماثلاً مبنيِّاً على نسقٍ صارم، ومغفلةً أن الاختلاف أو حتى التناقض حالة عقلانية، أي مقبولة عقلاً، فالغزالي على سبيل المثال -ضمن مجموعة فقهاء آخرين في أزمنة متعددة- كان يرى في كتابه “المستصفى” أن تنوّع الوسائل في أصول الفقه يدل على إمكانية تعدد الحقائق في الإسلام، أو هو نتيجة لذلك التعدد، وتابعَه على ذلك طه عبد الرحمن من المعاصرين، ممن يرى أن الحق متغيِّر أو متجدد، وعليه فالتداول التجديدي في الوسائل والحقائق بنية ثابتة في الإسلام.

على الرغم من ظاهرة التنوُّع أو التناقض في النماذج الإسلامية، فهذا لم يمنع يوماً ما من الجدل والحوار حول أقرب النماذج لما يجب أن يكون في زمنٍ معيَّن أو حادثة محددة، ولم يمنع بالمقابل من وجود نماذج كارثية أضرّت المجتمعات الإسلامية وأضرّت أصالة فكرة التجدد في حقائق الإسلام، حيث أوقفت بعض النماذج الإسلامَ في زمنٍ تاريخي ما وبنت كل العطاء والاجتهاد على تلك اللحظة التاريخية. وضخَّمت نماذج أخرى جوانبَ من الإسلام على حساب جوانب لا تقلّ أهميَّة وحصرت الإسلام بها.

الحالة السلبية الأكثر حضوراً في تيارات العمل الإسلامي المعاصر، هي ضبابية أو أحياناً صدامية علاقتها مع المجتمع، فإما نرى انعزالاً عن المجتمع، وذلك في حالتي الطرح (أي الخطاب) أو الغياب الفعلي، كبعض السلفيات التي تحفظ سِيَر المتقدمين أكثر مما تعرف عن إشكاليات زمانها. أو في خطاب/مشاريع لا تتوافق مع الزمن لغةً أو قضايا أو نماذج عمل، غير مقنعة ولا مُرضِية. ونرى أيضاً الإسلاميات الجهادية إما في حالة صدام ووصائية حدِّيَّة مع المجتمع أو حالة استثمار في مشاريع انتحاريِّة تهدد تواجده وتفكك بُنيته، فقَلَبَت العلاقة بين المجتمع والتيار رأساً على عقب، وجعلت المجتمع تُرساً في آلة التيار، وإن تأذّى المجتمع فهو كبيضة كُسرت من أجل العجّة (مشروع التيار)، لا أكثر.

من تيارات العمل الإسلامي المعاصر، من ينقل حالة الأدلجة من داخل التيار، وهي خاصية طبيعية ومقبولة إن بقيت داخل حدود التيار، ويفرض هذه الأدلجة على المجتمع بل ويحاكم أفراد الناس عليها، مما يصنع ظاهرة حديثة من الممكن أن نسميها “جماعية المجتمع”، أي تحويل المجتمع كله إلى جماعة، مما يُلغي ظاهرة التنوع والاختلاف الأصيل، ويستبدل بدلاً عنها بظاهرة إحلالية توحيدية تسطيحية شمولية لا تقبل النشوز أو النتوءات. بل يحاكم على اعتبارِه لنفسه كمرجعية ويعاير القول الثقافي والنخبوي وقيادة العمل والرأي في الشأن العام على معايير الجماعة في ثنائية صواب وخطأ.

ترى المؤسسة الدينية التي تدور في فلك السلطة، وهي مؤسسة متأخرة تلازمت مع أزمنة الانحطاط والتغلُّب، أنها الممثل الحقيقي والوريث الشرعي للحالة المذهبية في الإسلام، والتي مثلتها تاريخياً المذاهب الأربعة ومذاهب مندثرة أخرى، كانت منفصلة ومنعزلة عن السلطة بل ومصادمة لها في أحيان كثيرة، أي حالة تاريخية تمحورت حول المجتمعي لا السياسي. فقلبت المؤسسة الدينية الحديثة هذا التمذهب الاجتماعي المقبول إلى حالة توحيد يحصر الحق والقوة والرمز ولا يقبل إنشاء مذاهب جديدة أو اختراع قول فقهي يصنع ظاهرة مذهبية اجتماعية حديثة.

ونرى شبيه ذلك في المؤسسات الدينية غير الرسمية كالمشيخات التقليدية، التي غرست التصوُّف أو العقل الصوفي في التدين والمذاهب معاً، وصنعت عقلاً جمعياً في المجتمعات المسلمة يعتمد على الخرافة والدجل، مما يُفيد في التوجيه والسيطرة، وهو تدُّين متحالف مع التجار الجشعين الذين استثمروا هذا التحالف بتوسيع الثروة، في اتفاق اغناء للطرفين، فيقوم هذا التحالف المشيخي-التجاري بحصر العمل الاجتماعي والديني فيه، مما يصنع منه قوّة يعتمد فيها التاجر على الشيخ ليدخل إلى باب السلطة بقوَّة مضاعَفَة، ليبدأ حلقة اغناء جديدة.

أعاد الإعلام الاجتماعي الجدل حول موضع المثقف والشيخ في المجتمع، وبدأت كفّة القوة والصوت ترجح إلى المجتمع، بعد غياب طويل عن المكانة والقول، وهي ظاهرة صحيَّة تترافق معها حمّى لا بدَّ منها، وهي حمّى ملازمة لأي عمليّة إحيائية. وبدأ المثقف والشيخ يقبلان بحالة برزخية بين الوصائية والانعزالية، حيث يقولان ما يجب دون أن يفرضاه عبر أدوات خلفية، وبدأنا نرى على واقع الأرض والنضال بأن لغة البسطاء تزخر بالحكمة كما يقول إمبرتوا إيكو، وأنه قد آن أوان الانتصار للإسلام الشعبي الذي يحمل روح الدين الفطري ويرفع من قيم الحيوية الاجتماعية والبساطة في الإيمان والعمل.

ضع تعليقاَ