أبريل 23, 2024

فورين أفيرز: ما هو طريق إيران نحو الديمقراطية .. الإصلاح أم الثورة؟

كثيراً ما يبدو أن إيران على شفا الديمقراطية، فخلال القرن العشرين شهدت البلاد ثلاثة اضطرابات سياسية رئيسية: الثورة الدستورية في 1905-1911، وحركة تأميم النفط في الفترة 1951-1953 والثورة الإسلامية 1978-1979. كل واحدة منها تختلف عن الأخرى ولكن جميعها كانت ردة فعل على الفساد، وسوء الحكم، والاستبداد. وعكست جميعها انتشار محو الأمية، وتوقعات متزايدة من الطبقة المتوسطة المتنامية، ونفاد صبر طبقة رجال الأعمال والأثرياء من سوء الإدارة الرسمي. وقد اتسمت جميعها بتطلع إلى شكل من أشكال الحكم الديمقراطي، ولكن كان هذا الطموح يخيب في كل مرة.

أنشأ دستور عام 1906 برلماناً للتحقق من قوة الشاه وإعطاء الشعب الإيراني حق السيطرة المطلقة على بلده. ولكن بعد عقدين من الزمن عاد الشاه إلى الحكم المطلق مرة أخرى، وتحول البرلمان إلى مجرد تابع للشاه، وتم تجاهل الدستور الجديد إلى حد كبير. وقد تأثرت حركة 1951-1953 أساساً بطلب تأميم صناعة النفط الإيرانية التي كانت تسيطر عليها الحكومة البريطانية. وكان زعيم الحركة رئيس الوزراء محمد مصدق شعبياً، ومصلحاً، وبطلاً للسلطة البرلمانية، بدلاً من السلطة الملكية. ولكن مرة أخرى، ما اعتقده البعض صعوداً للديمقراطية قد اختفى عندما تمت الإطاحة بمصدق في عام 1953 في انقلاب خططت له وكالة المخابرات المركزية والاستخبارات البريطانية. احتفظ الشاه بعرشه، وتبع ذلك حملة ملكية على النشاط السياسي.

في كتاب “الديمقراطية في إيران” يبحث ميساه بارسا السبب في أن قوى القمع قد اكتسبت دائماً اليد العليا على الدوافع الإيرانية الديمقراطية، وكيف يمكن أن تظهر الديمقراطية في نهاية المطاف في إيران. ويتطرق بإيجاز للثورة الدستورية وحركة تأميم النفط. ولكن تركيزه الرئيسي على ما يعتبره الوعد الديمقراطي الفاشل للثورة الإسلامية 1978-1979. ويخلص إلى أنه نظراً لطابع الجمهورية الإسلامية، فإن الديمقراطية إن جاءت إلى إيران فإنها ستكون من خلال الثورة وليس بالإصلاح التدريجي.

يعتقد بارسا أن الثورة الإسلامية كان من الممكن أن تؤدي إلى حكومة ديمقراطية. وكما أشار إلى ذلك، فإنها قد جاءت من قبل ائتلاف واسع: طلاب الثانويات والجامعات، وأصحاب المحلات التجارية، والتجار، والمثقفين، والعمال ذوي الياقات الزرقاء والبيضاء. وحشد رجال الدين حشوداً كبيرة ومتنوعة نقلوها إلى الشوارع. ولكن حتى أولئك الذين ساروا للثورة تحت راية الإسلام، والذين صوتوا فيما بعد لإنشاء جمهورية إسلامية، لم يتوقعوا الثيوقراطية (حكومة دينية) المتطرفة التي سيؤسسها رجال الدين فيما بعد. وقد قاد زعيم الحركة آية الله الخميني الكثيرين إلى الاعتقاد بأنه يؤيد شكلاً من أشكال الحكم الديمقراطي، وأنه ملتزم بحرية الصحافة وحرية التعبير، وليس له مصلحة في حكم البلاد بنفسه أو وجود رجال دين آخرين يديرون الحكومة.

إلا أن بارسا، في تأكيده التطلعات الديمقراطية للعديد من الذين ساروا في الفترة 1978-1979، فشل في نقل إلى أي مدى كان الخميني ملتزماً بفكرة الدولة الإسلامية التي يرأسها رجال الدين ولا تعطي وزناً كافياً لسلطة رجال الدين كهيئة. وقد برز الإسلام بشكل كبير في القيم والآراء السياسية للتجار وأصحاب المحلات التجارية والطلاب الذين أثبتوا أنفسهم في منابر الجماعات السياسية، مثل حركة حرية إيران، التي دعمت الثورة. ولم يذكر الشعار الرئيسي للمتظاهرين والذي هو “الاستقلال والحرية والجمهورية الإسلامية”، الديمقراطية. وكان الخميني، الذي دربه دون شك المستشارون العلمانيون الذين كانوا معه خلال نفيه القصير إلى باريس في عام 1978، غير صادق في تأييده للديمقراطية. ولكن الخميني أوضح  في مقالته الشهيرة عن الحكومة الإسلامية، التي كتبها في عام 1970 خلال فترة نفيه الطويل في العراق، أن رجال الدين يجب أن يحكموا في دولة إسلامية. وحتى في باريس أصر على أن الشريعة يجب أن تسود في حكومة إسلامية حقيقية. وبعد الإطاحة بالنظام الملكي صوت الإيرانيون بأغلبية كبيرة لجمهورية إسلامية صريحة وللدستور الذي وضع رجل الدين، الخميني، في السلطة.

تشكيل الحكومة الدينية:

كان محور ولاية الفقيه هو المحور الرئيسي للمشروع الثوري، وهو فكرة أن السلطة المطلقة في دولة إسلامية يجب أن تخول لأكبر فقيه إسلامي حي، مع تحديد رجال الدين الإطار الأساسي للقوانين، والنظام القضائي، وكيفية حكم البلاد. وكما كتب بارسا فإن النتيجة هي أن “الخميني وحلفاءه انتقلوا إلى تأسيس حكومة دينية. واعتمدوا على آليات أيديولوجية وسياسية وقمعية لكسب تأييد شعبي وقمع المعارضة المتزايدة”. وحتى مع تبني الزعيم الجديد لإيران سياسات العدالة التفضيلية لمصلحة الفقراء والمضطهدين، إلا أنه قام بالقضاء على منافسيه وإسكات المعارضة.

وكما يروي بارسا فقد نشر الخميني ومساعدوه في هذه الحملة الشرطة الدينية؛ قوات الحرس الثوري الإسلامي، القوة العسكرية الموازية بجانب الجيش النظامي، المسؤولة عن حماية الطابع الإسلامي الإيراني؛ والبلطجة التي تمارسها جماعة أنصار حزب الله. وأوقف أعضاء هذه الجماعات التجمعات المنشقة، في حين أغلق النظام الجديد الصحف التي تنتقد النظام الناشئ، وحظر منظمات المعارضة بما في ذلك الحزب الديمقراطي الكردي الذي وصفه الخميني بـ”حزب الشيطان”. وقتل  مئات الأكراد في مناوشات مع الحرس الثوري أو أعدموا بعد إدانتهم بجرائم مثل “محاربة الله”، أي بعبارة أخرى، التمرد. وتلقت حركات أخرى كانت قد قامت بحملات لمصلحة الأقليات الإثنية مصيراً مماثلاً. وأخيراً تحول رجال الدين حول الخميني ضد حلفائهم السابقين. وكانت الجماعات اليسارية الراديكالية مثل مجاهدي خلق، والأكثر اعتدالاً مثل الجبهة الوطنية وحركة حرية إيران، برئاسة مهدي بازرجان، أول رئيس وزراء للخميني، قد دعمت في البداية الخميني، ولكنهم وجدوا أنفسهم في غضون بضعة أشهر أهداف النظام.

كان أول رئيس للبلاد بعد الثورة هو أبوالحسن بني صدر، وهو مستقل حاول رسم مسار معتدل خلال الأزمة التي بدأت في تشرين الثاني/نوفمبر 1979 عندما احتجز الثوار 66 أمريكياً في السفارة الأمريكية في طهران (واحتجزوا 52 منهم كرهائن لأكثر من عام). لكن بني صدر خاض صراعاً مع كبار رجال الدين، وتمت الإطاحة به من قبل  البرلمان في حزيران/يونيو 1981؛ أي بعد 16 شهراً فقط من رئاسته. أما عن انتفاض أتباعه (بني صدر) بعد ذلك فكتب بارسا أن “حمام دم حقيقياً سرعان ما تبع ذلك”، حيث قام النظام الدينى بإعدام 2665 سجيناً سياسياً خلال ستة أشهر. يقول بارسا: “حتى أعلى الزعماء الدينيين لم يكونوا محصنين” فتم تهميش آية الله محمود طالقاني، رجل الدين الليبرالي الشعبي. وقد وضع آية الله العظمى كاظم شريعة مداري، الذي رفض عقيدة ولاية الفقيه، قيد الإقامة الجبرية.

الإصلاح والقمع:

يظهر بارسا أن القمع ظل سمة بارزة من سمات الجمهورية الإسلامية منذ ذلك الحين، ولكن في المقابل لم يتم القضاء على المعارضة قط، وظلت أفكار الإصلاح وسيادة القانون والحكومة الديمقراطية الخاضعة للمساءلة موجودة. كانت هناك دائماً انشقاقات داخل النخبة الحاكمة، ويلاحظ بارسا أن الأصوات المخالفة كانت تثبت نفسها دائماً خاصة في مواضيع مثل قتل السجناء السياسيين، ومنع الصحف، والعبث في الانتخابات. في عام 1981 قال أحد أحفاد الخميني لهيئة الإذاعة البريطانية إن الحكومة الإسلامية “أسوأ من حكومة الشاه والمغول”، واتهم النظام بـ”قتل الناس أو سجنهم بلا سبب”.

وكانت هذه الاتجاهات الخفية تصعد بين الحين والآخر إلى السطح. في عام 1997 انتخب محمد خاتمي رئيساً بأغلبية كبيرة، بعد وعود تطرقت إلى زيادة الحريات الاجتماعية والسياسية والصحفية واحترام سيادة القانون وحقوق الخصوصية. وكما يشير بارسي فإن خاتمي لم يكن ثورياً؛ لم يكن يريد الإطاحة بالجمهورية الإسلامية أو الطعن في أسس النظام، ولكنه حاول تخفيف الضوابط على الصحافة والنشاط السياسي، ومواجهة الأجهزة الأمنية، والنهوض بجدول أعمال اقتصادي موجه نحو السوق.

وأضاف بارسا أن القوى المحافظة رغم ذلك كثفت تكتيكاتها القمعية، ولم تدم لحظة خاتمي الإصلاحية طويلاً. بدأت ردود الفعل العنيفة عام 1998 مع سلسلة من الانتقام من المعتدلين القياديين. وفي تلك السنة قتل اثنان من الزعماء الإصلاحيين في منزليهما، وتم اكتشاف جثتي اثنين من الكتاب الإصلاحيين في أجزاء مختلفة من طهران. ويعتقد على نطاق واسع أنهما قتلا من قبل الأجهزة الأمنية. وقد تم سجن  عبد الله نوري، وهو رجل دين بارز ووزير داخلية خاتمي، وغلام حسين كرباشي، رئيس بلدية طهران ومؤيد لخاتمي، بعد الحكم عليهما بتهم ملفقة.

في العام التالي مرت إيران بإحدى أكثر اللحظات عنفاً وانفجاراً في تاريخها الحديث. فبعد أن أغلقت المحاكم الصحيفة ذات الميول الليبرالية “سلام”، في تموز/يوليو، اندلعت احتجاجات في جامعة طهران. وقد رد النظام بقسوة، فأرسل قوات الأمن إلى المهاجع قبل الفجر لضرب التلاميذ في أسرتهم، ولتخريب أماكن سكنهم.

وقد سبب الحادث مشكلة بالنسبة للمؤسسة. وكما يلاحظ بارسا فإن عدد الطلاب الجامعيين، في العقدين المنقضيين منذ الثورة، زاد عشرة أضعاف تقريباً، من نحو 160.000 في أوائل الثمانينات إلى 1.5 مليون في عام 2000. وأقلية منهم فقط كانت تشارك عادة في النشاط السياسي، ولكن لم يستغرق تسييس البقية وقتاً طويلاً.

كان الاحتجاج الأولي والقمع في جامعة طهران شرارة البداية. وخلال الأيام الستة التالية انتشرت الاضطرابات في الجامعات والمدن في جميع أنحاء البلاد. وزاد قادة الطلاب مطالبهم، ودعوا إلى حرية الصحافة، والإفراج عن السجناء السياسيين، ومساءلة الحكومة. وهتفوا بشعارات مثل “يسقط الديكتاتوريين” و “الموت للطغاة”، و دعوا المرشد الأعلى علي خامنئي إلى الاستقالة.

في البداية، كان العديد من كبار رجال الدين والمسؤولين الحكوميين، بمن فيهم خامنئي نفسه، قد أعربوا علناً على الأقل عن تعاطفهم ودعمهم الحذر للطلاب، و شجبوا أعمال العنف ضدهم. ولكن مع انتشار الاحتجاجات وتزايد جذرية نغمة الاحتجاج، تغير الموقف الرسمي بسرعة. أرسلت قوات شبه عسكرية من الحرس الثوري لتضرب المتظاهرين، واعتقلت الشرطة عدداً كبيراً منهم واختفى بعضهم ببساطة. وصنف مسؤولون رفيعو المستوى الطلاب كـ”مفتعلي شغب وعصابات”. وادعى خامنئي أنهم مدعومون “من قبل مجموعات سياسية مفلسة، ويشجعهم أعداء أجانب”. ونظمت مظاهرة  ضخمة لدعم الحكومة. وفي الوقت الذي انتشرت فيه الاحتجاجات أرسل 24 من قادة الحرس الثوري رسالة مفتوحة إلى خاتمي يحذرون من أنهم ضاقوا ذرعاً بـ”الديمقراطية”، التي كانت تقود إلى “الفوضى”. وكانت الرسالة واضحة: إن تسامح المؤسسة المحافظة مع المعارضة كان محدوداً للغاية . وإذا تمادت الأحداث أكثر فإنها لن تتردد في استخدام القوة.

استمرت هذه الحملة حتى نهاية فترة حكم خاتمي عام 2005. أغلقت الصحف الإصلاحية، وألقي القبض على العشرات من النشطاء المؤيدين للإصلاح، وكذلك 60 عضواً في حركة حرية إيران. وقد استخدم مجلس الأوصياء، وهو مجموعة رقابة دستورية يسيطر عليها المحافظون، حق النقض ضد العديد من القوانين التقدمية التي سنها البرلمان، بما فى ذلك مشروعات القوانين التى من شأنها توسيع نطاق حقوق المرأة والحقوق المدنية، ومنع قوات الأمن من دخول الجامعات. وظهر أن خاتمي ليس له سيطرة على قوات الأمن أو أجهزة الاستخبارات أو القضاء أو المحاكم. وكانت النتيجة، كما كتب بارسا، “صعود المحافظين والقمع المكثف”.

فاز المحافظون بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية عام 2004، بعد أن تم استبعاد عشرات المرشحين الإصلاحيين من قبل مجلس الأوصياء. وكان المنتصر في الانتخابات الرئاسية في العام التالي محمود أحمدي نجاد، وهو شعبوي، وبحسب  بارسا فقد “انتهج سياسات أدت إلى تفاقم الطابع الاستبدادي المتزايد للدولة، وخيبت الآمال في  الإصلاح السياسي”. الرئيس الجديد “لم يضيع الوقت في إدخال تغييرات رئيسية، ممَّا يعكس اهتمام الدولة بمزيد من السيطرة والتسييس وعسكرة المجتمع “.

آمال محطمة:

مع ذلك ففي فترة حكم أحمدي نجاد شهدت ايران أخطر تحد للمؤسسة المحافظة منذ عام 1979. في عام 2009 ترشح أحمدي نجاد الذي تدعمه المؤسسة الحاكمة بما في ذلك المرشد الأعلى وكثير من قادة الحرس الثوري، لولاية ثانية. وقد تحداه اثنان من السياسيين البارزين هما مير حسين موسوى رئيس الوزراء السابق ومهدى كروبى رجل الدين البارز ورئيس البرلمان السابق. وكلاهما كانا شخصيات مؤسسة، ولكن كلاهما شن حملة من على منصات الإصلاح ولوضع حد لعزلة إيران الدولية، وحظيت هذه الرغبة في التغيير بتأييد واسع النطاق. كانت مسيرات حملة موسوي كبيرة ومتحمسة بشكل خاص. وأصبح موسوي وكروبي، بتشجيع من الجمهور، أكثر جرأة في انتقادهما للحكومة ودعوتهما للإصلاح.

وعشية التصويت أشارت جميع العلامات -حجم التجمعات المعارضة، وحماس أنصار موسوي، والحضور الكبير في يوم التصويت نفسه- إلى فوز موسوي. ولكن عندما تم الإعلان عن النتائج، في وقت مبكر بشكل يثير الشبهات، بفوز أحمدي نجاد بهامش واسع على نحو لا يحتمل، اندلعت الاحتجاجات في اليوم التالي. تدفقت حشود ضخمة إلى شوارع طهران هاتفة “أين صوتي؟”. وخلال الأيام التالية، نمت الحركة الخضراء التي أصابت النظام بالذعر، والتي سميت تيمناً باللون الذي اعتمده مؤيدو موسوي خلال الحملة، وبدأت تدعو إلى تغيير جذري يتجاوز الإصلاحات المعتدلة التي تبناها زعيما المعارضة.

رد النظام على هذه المظاهرات بقسوة، ويصف بارسا الحملة في تفاصيل حية؛ فقد  تم إرسال عدد كبير من شرطة مكافحة الشغب والقوات شبه العسكرية إلى الشوارع، فاعتقلوا المتظاهرين وقادة متعاطفين مع حركة الإصلاح. أغلقت الحكومة المنظمات السياسية المعارضة، وحظرت المظاهرات (لكنها حدثت على أي حال)، وأصدرت وابلاً من الدعايات ضد المتظاهرين. وقتل العديد من المتظاهرين في معارك مع قوات الأمن في الشوارع، أو من قبل القناصة من على أسطح المنازل. وبمجرد قمع الاحتجاجات بدأت أعمال الانتقام. وفي إحدى الحالات تمت محاكمة العديد من المسؤولين البارزين السابقين ونواب برلمان معاً، ممَّا كشف عن انقسامات عميقة داخل النخبة الحاكمة.

يقول بارسا: إن “الحركة الخضراء هزت أساس الجمهورية الإسلامية أكثر من أي حدث آخر في ثلاثين عاماً منذ الثورة. قد انتشرت الحركة بسرعة كبيرة حيث شابهت المرحلة الأخيرة من ثورة عام 1979”. مع ذلك فإن فشلها يعود جزئياً، بحسب بارسا، إلى أن قائديها موسوي وكروبي كانا يؤمنان بالإصلاح التدريجي، ولم يكونا مطالبين بالتغيير الجذري الذي تسعى إليه الحشود، حتى إن موسوي حاول كبح جماح المتظاهرين في عدة مناسبات. وأدت هذه الفجوة بين القادة والمتظاهرين إلى إضعاف الحملة. علاوة على ذلك، لم يكن لدى موسوي وكروبي أي خطط للتعامل مع حملة النظام، كما لم يكن المتظاهرون أنفسهم منظمين بما فيه الكفاية للحفاظ على الحركة في مواجهة الضغط الحكومي.

كما فشل الزعماء في حشد الفئات الاجتماعية من الطلاب والنساء والمهنيين من الطبقة المتوسطة خارج قاعدة المعارضة. ونتيجة لذلك، وخلافاً لثورة 1978-1979، بقيت الغالبية العظمى من رجال الدين، وخطباء صلاة الجمعة، والتجار، وأصحاب المحلات، والعمال خارج الصورة. لم يقم موظفو المصانع بالإضرابات، ولم يعطل التجار وأصحاب المحلات شبكات التوزيع، ولم يمنع العمال إنتاج النفط وتصديره. ويرجع بارسا هذه العيوب إلى فشل القيادة، أو ضعف أو غياب هياكل الدعم مثل النقابات العمالية والجمعيات المهنية، وبالطبع للقمع الشديد من قبل النظام.

اللطف يفي بالغرض:

على خلفية الإصلاح الفاشل والاحتجاجات والقمع، يجيب بارسا عن السؤال الذي يبدأ به كتابه: “أي طريق يمكن أن تتخذه الديمقراطية في إيران: الإصلاح أو الثورة؟”. وللمقارنة يقوم بارسا بدراسة تاريخ بلدين لهما تاريخ ديمقراطي خاص: كوريا الجنوبية وإندونيسيا. في كوريا الجنوبية  أنشأ الجيش، بعد انتفاضة طلابية في عام 1960، ديكتاتورية وفرض دستوراً يميز الجيش كنخبة حاكمة. لكنها لم ترفض الديمقراطية من حيث المبدأ أو تحاول القضاء على معارضة الطبقة الوسطى. في الوقت المناسب، أعادت القوى المعتدلة تنظيم صفوفها ودفعت مرة أخرى من أجل الإصلاح الديمقراطي. وعلاوة على ذلك، سمحت كوريا الجنوبية الدكتاتورية لقطاع خاص نشط بالسيطرة على الاقتصاد، وترك الطريق مفتوحاً أمام التصنيع والازدهار.

وعلى النقيض من ذلك، رفضت الدكتاتورية التي أنشأها الجنرال سوهارتو، في إندونيسيا، عام 1967 فكرة الديمقراطية ذاتها، وأغلقت الباب أمام السياسة التنافسية. استولت الدولة على جزء كبير من الاقتصاد المزدهر بفضل عائدات صناعة تصدير النفط فى البلاد. وقد تم منح  الجيش دوراً كبيراً في السياسة والشؤون الاقتصادية. وفي عام 1997 نتج عن غرق  إندونيسيا في الأزمة المالية الآسيوية، إثر عقود سوهارتو من القمع والفساد، ثورة. في أوائل العام الذي تلاه، بدأت الاحتجاجات الجماهيرية وأعمال الشغب. وفي غضون خمسة أشهر دفع سوهارتو ثمن دعم الجيش له وتم إجباره على الاستقالة.

يحدد بارسا، بالاحتكام إلى المعايير، إن كانت الدول الاستبدادية ستحظى بالديمقراطية من خلال الإصلاح أو الثورة، ويخلص إلى أن إيران يناسبها النموذج الإندونيسي على أفضل وجه. فالجمهورية الإسلامية هي “دولة استبدادية”، تتركز السلطة في أيدي نخبة ضيقة، وهم رجال الدين. حتى المعارضة الإصلاحية المعتدلة قد استبعدت إلى حد كبير من النفوذ. أيديولوجية الدولة ترفض الديمقراطية من حيث المبدأ، وتتدخل الدولة بشكل مكثف في المجالات الاجتماعية والثقافية؛ ممَّا يضطر السكان إلى مقاومة سلبية أو معارضة صريحة، ويزيد من حدة التوتر بين الحكومة والمجتمع.

كما تحتكر الدولة الاقتصاد، والنتائج هي ضعف القطاع الخاص، وغياب المنافسة، ودور كبير للجيش في الاقتصاد والسياسة، وعدم المساواة على نطاق واسع في الثروة والدخل، وارتفاع مستويات الفساد والمحسوبية، الأمر الذي وسع الفجوة بين الشعب الإيراني وحكامه. يقول بارسا: “إن رجال الدين الحاكمين ليس لديهم مصلحة في التحول الديمقراطي “، لأن “التحول الديمقراطي سيقوض امتيازاتهم الاقتصادية وقوتهم السياسية”. وبحسب  بارسا فإن “صراعات متعددة لا يمكن التوفيق بينها، متجذرة في جوهر الحكم الديني”. وخلص بارسا إلى أن “الطريق إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على إيران من خلال الإصلاح غير متاح”، و”إذا استمرت هذه الظروف والصراعات، فإن الإيرانيين قد يكون لديهم خيار واحد فقط لإضفاء الطابع الديمقراطي على نظامهم السياسي” وهو ” الثورة” .

بغض النظر عن ما يعتقد بارسا أنه احتمالات للثورة، إلا أن العقود الثلاثة الماضية أظهرت مراراً وتكراراً أن الشعب الإيراني، بشكل عام، يفضل التغيير السلمي على الاضطرابات. لقد صوتوا مرتين بأعداد كبيرة للرئيس الإصلاحي خاتمي، وفي الانتخابات الرئاسية الأخيرة اختاروا مرة أخرى الإصلاحي المعتدل حسن روحاني. وكما أشار بارسا فإنه خلال الاحتجاجات الجماهيرية في عام 2009، بقي العمال والتجار وأصحاب المحلات التجارية والغالبية العظمى من رجال الدين بعيدين عن الاحتجاجات. هذا يشير إلى أن هذه المجتمعات الرئيسية غير مستعدة لاضطراب آخر من النوع الذي شهدته السنوات الأولى للجمهورية الإسلامية، وأن جروح الماضي من القمع لم تلتئم بعد.

يبدو أن النظام قد تعلم من تجربته في عام 2009. فقد سمح بانتخاب روحاني في عام 2013 وتجنب التدخل الصارخ في الاقتراع. هذا الحذر من جانب النظام، والاضطراب الذي كان الإيرانيون شهوداً عليه في بلدان الربيع العربي مصر وسوريا واليمن، وفي الدول المجاورة لإيران، أفغانستان والعراق، عزز تفضيلهم للتغيير من خلال الإصلاح التدريجي، ولتحقيق ذلك اختاروا صندوق الاقتراع، وليس الرصاصة… الثوار ليسوا على البوابة بعد.

المصدر: فورين أفيرز

الكاتب: هاليه اسفندياري

الرابط: https://www.foreignaffairs.com/reviews/review-essay/2017-12-12/reform-or-revolution

ضع تعليقاَ