أبريل 19, 2024

روسيا المنبعثة : كيف هندس بوتين عودة روسيا كقوة عظمى مجدداً؟

كان من المفترض أن تكون روسيا قوة من الماضي ومنافساً قديماً للولايات المتحدة. لكن فلاديمير بوتين هندس طريق عودة بلاده إلى قوى العالم مجدداً، ماذا فعل وماذا ننتظر منه أن يفعل مستقبلاً؟

في 16 ديسمبر الماضي وخلال المؤتمر الصحفي الختامي لباراك أوباما كرئيس للولايات المتحدة قال أوباما :” لا يمكن للروس تغييرنا أو إضعافنا بشكل كبير”.

وأضاف أوباما :” إنهم دولة اصغر وبلد أضعف. وباستثناء النفط والغاز والأسلحة، لا تنتج روسيا أي منتج يحفز الآخر على اقتنائه. انهم أمة غير مبتكرة، لكن بإمكانهم التأثير بنا إن ضللنا المسار الخاص بنا، وفقدنا تعريفنا الصحيح لأنفسنا، يمكن أن يؤثروا بنا فقط إن تخلينا عن قيمنا”.

الشعار الذي اعتمده أوباما خلال فترة حكمه الأولى فيما يخص الموضوع الروسي كان في إطار “إعادة الضبط”. حيث حرص أوباما على محاولة تطبيع العلاقات بين الدولتين بعيداً عن التوتر المتصاعد الذي شهدته فترة حكم بوش والذي وصل ذروته إثر الغزو الروسي لجورجيا عام 2008. فيما يمكن وضع شعار ” المزيد من الاستهزاء” لوصف فترة حكم أوباما الثانية والتي شهدت تدهوراً للعلاقة بين واشنطن وموسكو بعد عودة بوتين عام 2012. ودوماً قال أوباما “الشيء الذي علينا ان نخشاه من روسيا هو حالة الخوف من روسيا نفسها”.

وطاف أوباما يخبر الكل بهذه الرسالة منذ أن أعلن عن إطلاق حملته الانتخابية الثانية، خاصة بعد أن قام “ميت رومني” في ذلك الوقت بإطلاق تصريح لا يمكن وصفه إلا بالزلة حين وصف روسيا على أنها العدو الجيوسياسي رقم 1 للولايات المتحدة. وفي حلقة مناظرة ونقاش في بوكا راتون، في فلوريدا وتحديداً في أكتوبر 2012 قال أوباما أن الثمانينات تتطلب منا العودة إلى السياسة الخارجية التي كانت متبعة حينها، لأنه كما تعملون فإن الحرب الباردة انتهت منذ 20 عاماً.

وحاول أوباما أن يستخدم عبارة ” روسيا لا تصنع شيئاً” في مقابلة مع مجلة “الإيكونومست” في 2014 في الوقت الذي كانت مناطق شرق أكرانيا تشهد حرباً أهلية مستعرة. وقال أوباما حينها :” أؤمن أن علينا الحفاظ على نظرة “روسيا لا تصنع شيئاً” فالمهاجرون لا يسارعون في الذهاب إلى موسكو بحثاً عن فرصة للعمل هناك، ومتوسط العمر للذكور في روسيا لا يتجاوز 60 عاماً، وسكانها آخذين في التقلص”.

ولم تكن أبداً حجة انعدام السلع او الصادرات والمنتجات غيرها من المنتجات حجة مقنعة تماماً، ولم يكن “النفط والغاز والسلاح” وحده من بنى واحدة من أعظم الإمبراطوريات في العالم. هل أوباما حقاً، الذي كان واحداً من الدعاة البلغاء في الحديث عن القيم السامية لدولته، يقيس عظمة أمة ما من خلال تنوع المنتجات التي تصدرها؟ وعندما تحدث أوباما عن روسيا بدأ الرئيس في السخرية من تفوق الروس بمثل ما كان يُستهزئ من الاتحاد السوفيتي في أربعينات القرن الماضي حال ذكر تفوقه في انتاج محاصيل الحبوب على غيره، أو مثل ما كانت ساشا بارون كوهين تسخر عبر وسائل الاعلام الغربية من مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتي في أغنية تتفاخر بـ ” امتلاك الدول الأخرى لمخزون أقل من البوتاسيوم”.

في عام 2014 زاد أوباما من ثقته في طرحه حول هذا الموضوع.  وفي عام  2016 عندما كرر أوباما ذلك، كانت الطائرات الروسية تقوم بإلقاء قنابلها على حلب في سوريا، وهو ما قاد إلى إنهاء التمرد المدعوم دولياً ضد حكومة بشار الأسد وترك الولايات المتحدة وحلفائها أمام خيارات قليلة للعمل لم تتعدى إصدار البيانات التي تدين الحدث وتعرب عن القلق. (بعد ذلك بأسبوعين، أعلنت كل من روسيا وتركيا عن توصلهما لاتفاق لوقف إطلاق النار في سوريا، والذي يبدو أنه تم – وفق ما رشح حتى الآن- دون أي مساهمة من واشنطن).

مسؤولون في وكالات الاستخبارات الخاصة التي تتبع لأوباما أخبروا صحفيي واشنطن بوست ونيويورك تايمز عن احتمال وجود تدخل روسي متعمد في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لإفشال هيلاري كلينتون – خليفة أوباما المفضلة- وكذلك المساعدة في انتخاب مرشح غير مؤهل يثير الكثير من الريبة ويهدد بشكل مباشر الإرث الرئاسي الأمريكي. ومع توسع نفوذ روسيا في كل مكان من منطقة البحر الأسود إلى منطقة البحيرات العظمى يبدو أنها في طريقها لامتلاك صورة جديدة من جنون العظمة.

وباعتراف الجميع، لم يكن من المفترض أن يحدث هذا. فحين كان الكثير من الأمريكيين – بينهم أوباما نفسه على الأرجح- قد تقبلوا فكرة الحرب الباردة منذ فترة طويلة  نظروا إليها على اعتبار أن الولايات المتحدة تشكل القوة العظمى الوحيدة في العالم وأن هذه الحرب لن تستمر إلى ما لانهاية. فكان التحدي الأساسي للهيمنة الأمريكية ينبع من الدول الصناعية كثيفة الإنتاج مثل الصين أو ربما بعض القوى الصاعدة في العالم النامي مثل الهند أو البرازيل. روسيا كانت في الماضي نعم، الأرض التي تحتوي على المصانع الصدئة وتعاني من انخفاض متوسط العمر المتوقع ويتم غسل دماغ الناس عن طريق الدعاية المكثفة وتحت قيادة الرئيس القوي الكرتوني. لم يكن من المتوقع أن تكون روسيا دولة رئيسية لا غنى عنها في الشؤون العالمية في العام 2017.

وهكذا، رفض الرئيس الأمريكي ومستشاريه هذه الفكرة على مدى ولاية أوباما الثانية وأثبتت أحداث العام الماضي أن روسيا أصبحت قوة لا غنى عنها بشكل واضح. وعلى النقيض من كل التوقعات، هيمنت روسيا والعلاقة معها على أجندة السياسة الخارجية لإدارة أوباما وصولاً للأسبوع الماضي، عندما أصدر الرئيس باراك أوباما عقوبات واسعة ضد روسيا انتقاماً من التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهو ما يكذب ويتناقض مع سمة السخرية والابتهاج التي انتهجها أوباما في تصريحاته السابقة. ومن المتوقع أن تهيمن روسيا وما يربط الولايات المتحدة بها على أجندة أي رئيس مقبل يصل إلى البيت الأبيض – وهكذا يبدأ الأمريكيون فهم شكل العلاقة مع قوة عظمى ناشئة من جديد.

هناك قصة معروفة عن فلاديمير بوتين الشاب والفئران المحشورة-  نشرت هذه القصة لأول مرة  عام 2000 في سيرة ذاتية قصيرة تتحدث عن بوتين إبان انتخابه للرئاسة لأول مرة-  تحدثت الرواية عن ذاك الشاب الذي يعيش في شقة صغيرة تعاني من تصدعات وآثار الحرب في سان بطرسبرج  وكان يطارد الفئران مع أصدقائه في درج المبنى :

” هناك في أعلى الدرج وأنا أهبط منه حصلت على درس سريع ودائم عن معنى كلمة “الحشر\ الحصار”. كانت هناك جحافل من الفئران في المدخل الأمامي. أنا وأصدقائي استخدمنا العصي لمطاردتهم. وفي إحدى المرات وجدت فأر ضخم وتابعته في القاعة حتى حاصرته في إحدى الزوايا. وهناك، قام الفأر بمهاجمتي وضربني في وجهي، فاجأني وأخافني والآن بات الفأر يطاردني. قفز عبر الدرج ولحق بي وكنت أسرع قليلاً منه فهربت وأغلقت الباب”.

في هذه القصة التي تبرز في السيرة الذاتية على اعتبار انها لحظة من الضعف على خلاف الطبيعية البارزة في السيرة التي تسعى إلى تسويق الانتصارات سواءً على الصعيد الشخصي أو المهني. يظهر مفهوم الضعيف الذي يحاصر في زاوية ما ويتمكن بعد ذلك من قلب الطاولة على جلاده. ولعله ليس من قبيل المصادفة أن الشاب هذا وجد غرضه في الجودو والتي تركز على الكثير من الانضباط وتقوم على أساس إيجاد السبل للفوز عبر استغلال نقاط الضعف المتواجدة لدى الخصم الأقوى.

الكثير من المقالات نقلت قصة الفئران كإشارة على طبيعة صنع القرار وفق النظرة الروسية. فروسيا بوتين وفق هذه النظرة هي مثل الفئران التي حاصرتها الجهود التي ترعاها الولايات المتحدة لتعزيز الديمقراطية في المنطقة (جهود رأها الروس على أنها محاولات مكشوفة لتغيير الأنظمة فقط) وفي حيثيات الموقف الغربي المتغطرس هذا طلب الغرب من روسيا أن تقبل بفرضية انتهاء أيامها كلاعب هام في الساحة العالمية، لكن الفئران بدلاً من قبول مصيرها وجهت الطعنات لخصومها.

هذا المثال مفيد جداً للنظر في كيفية ممارسة بوتين لسلطاته. فمقابل الأمريكيين الذين استهانوا به سابقاً، كثيرون بالغوا في تقديره ورأوا وعبر أحداث السنوات القليلة الماضية دليلاً على وجود شخص استراتيجي بارز عاش مرحلة مطولة من التفكير في تحركات خصومه المحتملة.

وسابقاً قدر الكثير من اليمينيين مثل تيد كروز بوتين للعبه الشطرنج مع أوباما في سوريا – في حين لعب أوباما هناك الضامة. إلا ان الكثير من الليبراليين يبدون صمنهم تجاه فوز ترامب وما يدور عن المؤامرة الروسية المدبرة. على أي حال، فروسيا بوتين تعمل عادة في إطار رد الفعل على الأحداث العالمية التقليدية بدلاً من صياغتها بنشاط.

بدءً بارسال قوات “لحماية” الأقليات الروسية في الجيوب الانفصالية في جورجيا عام 2008 بعد انتخاب حكومة معادة لروسيا هناك، مروراً بمنح اللجوء لإدوارد سنودن عام 2003 والاستغلال الروسي لتردد إدارة أوباما في مهاجمة النظام السوري بعد استخدامه الاسلحة الكيميائية والاستعاضة عن ذلك بدعم الأسد وتثبيته أو الاستفادة من الفوضى التي أعقبت الاطاحة بالرئيس الأوكراني “فيكتور يانوكوفيتش” من أجل ضم شبه جزيرة القرم. كل هذا يثبت أن بعض القادة أكثر مهارة في اغتنام الفرص المقدمة لهم مقارنة بآخرين. وغالباً ما يرفض العديد من صقور روسيا في الولايات المتحدة الاعتراف بأن هذه التحركات لا تتعدى المراوغات ولا تملك أي صبغة من الهجمات في شيء. وبالرجوع إلى قصة الفأر، فإذا لم تنظر كيف بدأ الحدث، فإن كل ما تراه سيكون فأر صغير وإن كان ضخم يطارد صبياً أشقر الشعر أسفل الدرج.

في الواقع، يحمل الأمريكيون والروس وجهات نظر مختلفة بشكل عميق في التاريخ فيما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ففي كتابه “اختراع روسيا” والذي نشر في  عام 2016 أظهر الصحفي “اركادي اوستروفسكي” النشوة التي شعر بها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي :” بالنسبة لي، فإن شعوري بانهيار الاتحاد السوفيتي عوض غضبي تجاه نقص البضائع في المتاجر. شعوري هذا تبلور أكثر عند إدراكي ان التاريخ كان يصنع مجدداً في موسكو وكنت انا في خضم كل هذا. وإن عدنا بالذاكرة إلى الوراء سندرك أن هذا الشعور بالإثارة كان لدى دائرة ضيقة من الناس ذوي الخبرة. أما بالنسبة لغالبية السكان، فقد ارتبط انهيار الاتحاد السوفييتي بمرحلة من عدم اليقين وانخفاض حاد في مستويات المعيشة”.

وفي هذه الفترة ايضاً تشكلت الانطباعات الأمريكية بشكل غير متناسب إلى حد ما، وفق ردات فعل الليبراليين الناطقين باللغة الانجليزية والذين يحظون بتواصل مع الغرب أكثر مما جاءت مرتبطة بتجربة باقي الروس. فتصريحات بوتين الشهيرة عام  2005 والتي وصف فيها انهيار الاتحاد السوفيتي بأنه “أكبر كارثة جيوسياسية” في القرن العشرين، لفقها الصقور الأمريكيون على أنها دليل على النبضات الوحدوية التي تنبع من ضيق الأفق المتأثر بالتاريخ المأساوي لروسيا. ولم ينظر إليها أحد على أنها  تمثل وجهة نظر العديد من الروس بغض النظر عن استبداد قائلها.

ولفهم الموقف الروسي الحالي من المهم جداً فهم كيفية جريان الأحداث في السنوات الـ25 الماضية من وجهة نظر الدولة. فالانتقال السريع لرأسمالية السوق الحرة التي ينادي بها علماء الاقتصاد الغربيين، و”الثورات الملونة” التي دافعت عنها الحكومات الغربية وتوسيع حلف شمال الأطلسي في الدول الشيوعية السابقة في مناطق أوروبا الشرقية، بالإضافة إلى تدخل حلف شمال الأطلسي في البلقان والمحاضرات حول حقوق الإنسان والديمقراطية التي تقدمها مؤسسات غير حكومية تحظى بدعم أجنبي، ينظر إليها كلها على انها محاولات لتقويض النفوذ الروسي وإحباط مصالحها.

وهذا بلا شك لا يبرر سياسات روسيا تحت زعامة بوتين سواءً على الصعيد الداخلي او الخارجي. فيجب على الدول المجاورة لروسيا أن تملك الحق في تقرير ما إذا كانت تريد ان تملك علاقة اقتصاد أو عسكرية وثيقة مع أوروبا أو الولايات المتحدة. وتقديم الدعم لجمعيات المجتمع المدني لا يوازي تغيير النظام. وينبغي أن يكون لنشطاء ووسائل الإعلام وأحزاب المعارضة في روسيا الحق في العمل بحرية ولا يجب على الولايات المتحدة أن تخشى من تأكيد هذا الأمر. ومن منطق فهم أن روسيا كانت تعمل من موقف دفاعي طوال السنوات الـ 25 الماضية فمن الضروري الحديث عن الكيفية التي سوف تعمل بها بعد أن تعافت روسيا من بعض الاختلال الذي حدث إبان الحقبة السوفيتية.

لا يمكن اعتبار روسيا قضية مختلة بحد ذاتها ولا يمكن النظر إليها على أنها مشكلة قوية للأحداث العالمية. وعلى الأقل حتى وقت قريب، كانت روسيا دولة ذات شعور قوي بأن مصالحها كانت معرضة للخطر من الغرب ومارست مهارتها في الحذر واستغلت موهبتها الحذرة في استغلال الفرص من أجل استعادة صلاحياتها السابقة. ففي السنوات القليلة الماضية تمكنت روسيا من الاشتراك في حربين في كل من أوكرانيا وسوريا على الرغم من شدة التنافس في هذه الحروب والتي بدت كمستنقعات لا يمكن الانتصار بها مع نقص حاد في المال والقوى العاملة لتؤكد قوتها في مجالات قوتها القديمة عبر إحداث التأثير وامتلاك النفوذ.

الذي تغير فعلياً في روسيا العام الماضي أنها لم تعد مجرد دولة تسعى للدفاع عن مصالحها بل باتت تسعى لتوسيعها. ولا تقتصر أمثلة النفوذ الروسي المتزايد على المناطق القريبة من الحدود الخارجية للاتحاد السوفيتي او حتى الدولة الموالية له سابقاً. وكمثال انظر إلى اجتماع أوبك الأخير، حيث لعب فيه بوتين دور الوسيط بين إيران والسعودية للتوصل إلى اتفاق لخفض انتاج النفط.  انظر إلى اليابان أيضاً، التي قضت سنوات تشكك في المزاعم الروسية في جزر الكوريل – شيء من بقايا الخلافات في الحرب العالمية الثانية-  لكنها وافقت هذا العام ( يقصد 2016)على معظم المطالب الروسية وأقامت “نظاماً خاصاً” للنشاط الاقتصادي المشترك على الجزر هذه. وحتى بنيامين نتنياهو الذي لا يمكن بأي حال وصفه بالصديق التقليدي الحميم لموسكو قام برفع وتيرة الزيارات والصداقة في الآونة الأخيرة.

وتمر القوات العسكرية الروسية حالياً بمرحلة تحديث سريع، وفي المنطقة القطبية الشمالية المتنازع عليها بشكل متزايد، أصبح الوجود الروسي يعادل تقريباً وجود منافسيه الغربيين. على الصعيد السياسي، فازت روسيا بموطئ قدم لها في الاتحاد الاوروبي عبر دعم عدد من الأحزاب اليمينية المتطرفة بما في ذلك حزب الحرية النمساوي والذي وقع زعيمه اتفاقاً للتعاون في الكرملين الأسبوع الماضي.

وتحدث تقرير صادر عن مركز بلغاري لدراسات الديمقراطية في أكتوبر الماضي أنه وفي العديد من بلدان أوروبا الشرقية بما في ذلك هنغاريا ولاتفيا وصربيا وسلوفاكيا فإن “النفوذ الروسي بات منتشراً للغاية ووصل لدرجة تحدي الاستقرار الوطني فضلاً عن توجه هذه البلدان نحو الغرب وحلف شمال الأطلسي”. وبطبيعة الحال فقد حقق بوتين شيءً لم يسبق للاتحاد السوفيتي تحقيقه وهو التأثير – إن لم يكن تغيير- نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية لصالح روسيا.

وعلى الرغم من كل هذه المكاسب، إلا أنه من الخطأ المبالغة في الحديث عن القوة والسلطة الروسية، فهناك عقبات لم تتخطها روسيا بعد. فعلى الرغم من ضمها لشبه جزيرة القرم وتمكنها من جعل منطقة دونباس في شرق أوكرانيا منطقة عصية على التحكم من قبل أي طرف في المستقبل المنظور، إلا أن هدف بوتين الأصلي لجذب أوكرانيا مجدداً تحت الوصاية الروسية يبدو ميؤوساً منه خاصة مع بروز نخب في كييف تكن عداءً أكبر تجاه روسيا أكثر من أي وقت مضى. هذا بالإضافة إلى أن خطته القديمة للاتحاد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي ضعفت بشدة بعد غياب أوكرانيا، فيما بدأت معاهدة الأمن الجماعي – التي أريد لها أن تكون منافسة لحلف الناتو- في الانهيار. وكما أظهرت حادثة اغتيال السفير الروسي في تركيا الشهر الماضي أن العمليات العسكرية الروسية في سوريا لم تحفظ روسيا في مأمن من الإرهاب. قد تتحكم روسيا في القرم ولكن الدول الأخرى لا تعترف بهذه السيطرة. وحتى الانظمة التي دعمتها روسيا في جورجيا وأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا لم تحظى باعتراف سوى من قبل تحالفات ضعيفة بين فنزويلا ونيكاراغوا وناروا. وبشكل عام يمكن القول أن الاحتياط الروسي من القوة الناعمة ما يزال مفقوداً بشكل واضح.

وكما رأينا كثيراً في الأشهر الأخيرة فإن الولايات المتحدة لا تستطيع فرض إرادتها أينما تشاء وكيفما تشاء. ولا تظهر روسيا هنا كدولة قاهرة هنا – لا يمكن لأي بلد أن تفعل ذلك- لكنها تتصرف في سياستها الخارجية وكأنها تتصرف على أنها وسيط عالمي ناجح بين القوى العظمى وتقوم بذلك على نحو فعال. فروسيا تملك ركيزة أيديولوجية تتمحور حول “الأوروأسيوية” وهي ما تؤكد على أن مكانة روسيا كقوة امبريالية تأتي كنتيجة طبيعة لموقعها الجغرافي بين أوروبا وآسيا. وتملك أيضاً طريقة عمل تكتيكية في تقنيات “الحرب الهجينة” والتي تشمل العسكري السري والتلاعب الإعلامي والضغط السياسي والنفوذ الدبلوماسي. حتى أنها تلعب دوراً مؤثراً على نحو متزايد في الأمم المتحدة في جميع الجوانب من تغيرات المناخ وصولاً إلى أعقد تفاصيل السياسة. وإن لم ننظر إلى روسيا كدولة عظمى اليوم فمن هي الدولة التي يمكن أن ننظر إليها كذلك الآن؟

وبشكل واضح، تدرك إدارة أوباما وحلفاؤها الأوروبيين بيئة النفوذ الروسي المتزايد، لكنهم ما زالوا يتوقعون انهيار بوتين في أي لحظة. وبشكل غير معقول فإن تقييمات أوباما للوضع الداخلي الروسي ليست خاطئة تماماً. فقد تم بناء اقتصاد روسيا على أسس واهية تعتمد بشكل كبير على صادرات الطاقة. وما زال اقتصاد روسيا غارقاً في أطول فترة ركود له منذ عقدين، ومعدل الفقر في البلاد لا يزال في أعلى مستوياته على الإطلاق ويبدو أن المستهلكين في طريقهم لتقليص نفقات الغذاء والدواء. وتعاني روسيا أيضاً من انخفاض أسعار النفط العالمية وهذا كله قبل أن تفرض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا بسبب الأحداث في أوكرانيا. وفي مثال على اليأس الشديد، قتل ما يصل إلى 50 شخص في سيبيريا الشهر الماضي بعد أن شربوا زيت الاستحمام في أمل لإحداث ضجة رخيصة فقط. وأنا – الكاتب- نفسي أقول أن روسيا لا تقوى على الاستمرار في مواجهة عزلة دولية طويلة.

قال أوباما في شهر يونيو 2014:” أفعال روسيا في أوكرانيا والعقوبات التي قمنا بفرضها جعلت الاقتصاد الروسي ضعيفاً جداً” وأضاف:” المستثمرون الأجانب بالفعل يبتعدون بشكل متزايد.. وتوقعات نمو الاقتصاد الروسي انخفضت إلى الصفر تقريباً”. وفي ديسمبر عندما عايش الروبل أكبر انخفاض له منذ العام 1998، كتب “بول كروغمان” في نيويورك تايمز “الحديث عن الحرب الباردة الجديدة، والمقارنة بين الاتحاد السوفيتي سابقاً وروسيا الآن تبدو سخيفة بعض الشي الآن، أليس كذلك؟”

وبعد ان كتب عموده هذا بعامين، ألا يبدو أن عمود سخيفاً بعض الشيء الآن؟  وهل سيكون من الانصاف أن نقول ان العقوبات كانت “ناجحة” إذا حددت معايير النجاح وفق قوة الاقتصاد او انهياره. لكن الهدف هنا هو تغيير سلوك بوتين و”تغيير حساباته” كما قال أوباما نفسه وهكذا فإن الفشل بات واضحاً هنا. وردت الحكومة المنتهية ولايتها في الولايات المتحدة على القرصنة الروسية المزعومة بتصرفات واضحة الاستفزاز: وكانت الامور وفق فرض المزيد من العقوبات وهذه المرة مع طرد أكثر من 35 دبلوماسي جديد. ومن غير المرجح – على ما يبدو – أن تغير هذه العقوبات من تصرفات الروس كثيراً أسوة بالعقوبات القديمة التي فرضتها الإدارة الامريكية عليها.

ما فشل أوباما في تقديره هو ان روسيا تثمن الموقف الجيوسياسي أكثر من الاقتصادي. وهذا الموقف ليس موقف الزعيم الروسي وحده. فوفقاً لمركز ليفادا المستقل فإن نسبة التأييد التي يحظى بها بوتين في روسيا تتجاوز 80%. وأظهر الاستطلاع الذي أجرى العام الماضي أن الروس يدركون جيداً أن السياسات الروسية في أوكرانيا أثرت سلباً على الرأي العام العالمي وآذت الاقتصاد لكن 83% من الروس ما زالوا يؤيدون تلك السياسات.

معظم الأمريكيون غير مستعدين أبداً لتقبل أوضاع اقتصادية قريبة إلى الاوضاع الاقتصادية في روسيا في مقابل امتلاك فعالية أكبر للتأثير في الشرق الأوسط على سبيل المثال. وكان أوباما قد قدم وعوداً في حملته الانتخابية من ضمنها خفض البصمة العالمية لبلاده من أجل التركيز على الأولويات المحلية. وهكذا مرت الحكومة الأمريكية بأوقات عصيبة لاستيعاب سعي وقدرة الروس على امتلاك بصمة عالمية أكبر في مقابل الحصول على ازدهار محلي.

ما الذي يفسر الفرق؟ لقد لاحظ علماء السياسة أن الروس يظهرون التزاماً أكبر بمبدأ “التجمع حول العلم”  في الحروب والأزمات مقارنة بمواطني الدول الأخرى. وفي هذا الصدد يقول أوستروفسكي أن روسيا هي باختصار “بلد ذا فكرة مركزية”. حيث تصبح المفاهيم المجردة مثل المصير التاريخي والهوية الثقافية لروسيا تلعب دوراً هاماً في الحياة السياسية، حتى ولو كان ذلك على حساب سياسة الخبز والزبدة.

احتضان بوتين للخطاب الديني المحافظ منذ عودته للرئاسة وخطاب سياسته الخارجية في التقليد التاريخي الذي يصل إلى ما هو أبعد من الاتحاد السوفيتي وصولاً إلى الأيام الأولى من الإمبراطورية الروسية أعطت الناس سرداً مقنعا للإيمان ببلدهم مجدداً. وأيا كانت الأسباب، فقد شجع بوتين الروس على تأييد التوسعية والسياسة الخارجية العدوانية على الرغم من تكاليفها الباهظة. لقد وعد بوتين بجعل روسيا عظيمة مجدداً، ووفق مجموعة من المعايير يمكننا القول أن سياسته بدأت بإعطاء النتائج.

توابع ذلك ما تزال غير واضحة. فعلى المدى القريب يبدو أن روسيا – في طريقها- للاستمرار في النجاح على صعيد السياسة الخارجية. وبعد سقوط حلب، وانتخاب رئيس أمريكي ينظر إلى الصراع السوري بهذه الطريقة ويسعى لتحسين العلاقات مع تركيا، فإن روسيا ستستمر في فرض نفوذها المفرط على الصراع الدائر في سوريا. وإذا ما افترضنا أن ترامب سيواصل بالفعل اتباع سياسة خارجة أكثر موالاة لروسيا فإن هذا قد يشجع الدول السوفيتية السابقة وخاصة في آسيا الوسطى على الاقتراب أكثر من الفلك الروسي نظراً لعدم تقارب الولايات المتحدة معهم.

وفي الوقت الذي ترفض فيه الكثير من الدول ضم روسيا لجزيرة شبه القرم، لا تسعى أي من هذه الدول لتحدي الأمر الواقع أو أخذ الأمر على محمل الجد، وهكذا تمكنت روسيا على نحو متزايد من التعامل مع شبه جزيرة القرم كأنها قطعة من روسيا. وحتى التحالف المعادي لروسيا والذي أنشأه الاتحاد الاوروبي كرد على الأزمة في أوكرانيا يبدو أنه يواجه مصيراً مجهولاً، فالانتخابات الفرنسية المقبلة ستشهد إما فوز فرانسوا فيون الموالي لروسيا أو مارين لوبان الأكثر موالاة لها أيضا. فالتدخل الروسي منخفض التكاليف وذا التأثير الواضح في الانتخابات الأمريكية هو نموذج لما حدث ولا يمكن تكراره في السباقات الانتخابية الهامة حول العالم.

وهناك مخاطر جديدة لبوتين كذلك. فزخم ودفع المشروع الوطني الروسي إلى الأمام يتطلب مزيداً من الحروب الصغيرة للانتصار بها. وتشكل دول البلطيق – الأعضاء في حلف الناتو- رهانات صعبة على روسيا على الرغم من خطاب ترامب المثير للقلق والمتعلق بالتنصل من التزامات الدفاع. وربما يوفر التحسن الذي تشهده علاقات بيلاروسيا مع الغرب ذريعة للتدخل الروسي، وربما تكون هناك فرصة لروسيا تستغلها بحجة توفير “الحماية” للسكان الناطقين بالروسية في مناطق ترانسنيستريا في مولدوفا، ولكن هذا يتعارض مع الأهمية الرمزية التي احتلتها شبه جزية القرم أو الرهانات الجيوسياسية التي تمثلها سوريا وهو ما سيضعف من قيمة التدخلات الجديدة بلا شك. وبكل تأكيد سيواجه بوتين عند نقطة معينة ضغطاً حقيقياً متعلقاً بالأوضاع في الداخل الروسي، لكنه حينها سيكون قد قضم من الخارج أكثر مما مضغه في الداخل وسيطلق مسرحية كبيرة للتجمع حول العلم مجدداً.

قد يحمل انتخاب ترامب في طياته نعمة ونقمة في آن معاً. وما زال الأمر قابلاً للنقاش حول مدى استمرار الرومانسية الحالية بين الزعيمين (ترامب وبوتين). وكان الرئيس المنتخب “بوتين” قد أبدى تأييداً غريباً لسباق التسلح الشهر الماضي في إحدى المناطق التي لا تزال تشهد تواجداً للقوتين العالميتين. وبفرض حدوث التوقعات على المدى القريب فالولايات المتحدة ستمتلك رئيساً أكثر موالاة لروسيا وربما يحدث الأمر نفسه في العديد من الدول الأوروبية الغربية، هذا وحده سيحرم بوتين من عنصر هام وأساسي في سرده الذي يكرره دوماً وهو: العودة للقتال ضد الزحف الغربي. فقد تخلى الروس عن محلات البقالة لدعم حروب بوتين عندما تعلق الأمر ببقاء بلادهم على قيد الحياة. فهل ستجد دعوة بوتين هذه المرة آذاناً صاغية إذا كان البيت الأبيض قد أعطى تفويضاً منقطع النظير للكرملين – عن أي زحف غربي نتحدث هنا إذا؟

على مدى السنوات الماضية، رأينا حكومة بوتين تنجح بشكل ملحوظ وهي تعمل من موقف دفاعي بحت، وتقاتل من أجل حماية ما اعتبرته مصالح لها وللحفاظ على أهميتها ومكانتها على الساحة العالمية. والآن فنحن في طريقنا لاختبار روسيا وهي تتصرف من موقع القوة والنفوذ الواضح. صحيح أن هذا الموقف خطير وغير مألوف بالنسبة للولايات المتحدة لكن الأمر نفسه ينطبق على بوتين. وبعد كل شيء قد لا تصيب الفئران المنتفضة هذه وجه الشاب فلاديمير، إن تمكن من إغلاق الباب في وجهها.

جوشوا كيتين: كاتب متخصص في الشؤون الدولية لدى موقع سلايت 

هذا المقال مترجم من موقع “سلايت” للإطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا

ضع تعليقاَ