مارس 29, 2024

داعش الصدّامية: القصة الحقيقية لنشأة المجموعة المتطرفة

من السهل الجزم بهوية قادة داعش وأماكن انتشار وسيطرة التنظيم، لكن السؤال الذي ما يزال يخضع للكثير من النقاش متعلق بطريقة تطور وامتلاك التنظيم لهذا الزخم الكبير. ولعل أحد اهم الإجابات المنتشرة الآن تضع كامل اللوم على الرئيس العراقي السابق “صدام حسين”. وكما كتب “كايل ووكر أورتن” في صحيفة “نيويورك تايمز”:” أولئك الذين يتقلدون الأدوار القيادية في المجلس العسكري لداعش اشتهروا بالتطرف أيضاً في ظل نظام صدام حسين”. وتعتمد هذه الفرضية على حملة الإيمان التي أطلقها عام 1993،عدا عن اتهامه بالترويج للسلفية، وهو ما انعكس على صرامة وإجرام مقاتلي داعش. أما أماتزيا برعام، مؤلفة كتاب علاقة صدام بالإسلام بين 1968 و 2003، فقد أشارت إلى أن البغدادي “صنيعة صدام”.

تمتاز هذه الأوصاف عموماً بعدم الدقة واحتوائها على كم عالٍ من التضليل، فوثائق الأرشيف العراقية وسجلات حزب البعث المتوفرة في مؤسسة هوفر تكشف حقيقة الامر بوضوح. وعبر دراستنا فقد ظهر أن تلك السجلات لا تحتوي على أي دليل يثبت أن صدام أو النظام البعثي العراقي عرضا أي تعاطف مع الإسلام أو السلفية أو الوهابية. ولعل هذا يفسر ما حاوله بعض داعمي الرواية تلك من إظهار دعم صدام للسلفية وليس الوهابية. إلا أن السجلات ووفق هذه الدراسة تثبت أن حزب البعث استخدم هذين المصطلحين بشكل مترادف وأظهر الحزب عداءً مساوياً لكلا التوجهين.

صدام من جهته لم يشر إلى ” الحركة الوهابية” في تعليقاته إلا في حالة واحدة أثناء تعليقه على تقرير حول “دراسة ضاهرة السلفية الدينية”، خلال تعليقه، أظهر صدام نفوره العام من أي شكل من أشكال الإسلام أو نظمه ولا سيما في خطابه التاريخي عام 1996، حيث هاجم فيه الإسلامين ورجال الدين “أصحاب الوجهين”. بل إن صدام انتقد على وجه الخصوص الحجج الدينية التي كانت تساق لمواجهة الوحدة العربية والتي كانت تدعو إلى وحدة إسلامية عوضاً عنها.

رفض صدام بشكل قطعي فكرة “الوحدة الإسلامية” وأشار إلى ” أنه لا يجوز أن تنطلي هذه الحيلة عليه أو على نظامه” وأكد بأن النظام العراقي يرى نفسه متوافقاً بشكل أكبر مع الجيل الجديد من الناصريين في اليمن ومصر والتي تعتمد دعوتهم على “أساس صادق من القومية والقتال من أجلها” وفق صدام. وكما يظهر من تتبع سجلات حزب البعث، اعتمد صدام على ترويج القومية العربية وليس الإسلام في خطاباته وتوجهات نظامه، بل إن صدام كان يحرص على أن تصل هذه الخطابات إلى كل أعضاء حزبه من أجل نقل هذه الرسالة لهم.

وتأتي نتائج هذه الدراسة مع ما ينطوي عليه أرشيف حزب البعث العراقي، فعلي سبيل المثال، قام الباحثون “يوسف ساسون” و “هارون فاوست” بنفي وجود أي تعاطف لدى حزب البعث ونظامه مع السلفيين أو الإسلاميين، فوفق ساسون، قام وزير الأوقاف والشؤون الدينية العراقي بعقد اجتماع في 2001، حضره أكاديميون وزعماء دينيون وممثلين عن الأجهزة الأمنية المختلف لمناقشة كيفية محارب الوهابية وإظهار أن الأفكار الوهابية غير مرتبطة بشكل أو بآخر مع الإسلام الحقيقي، وبالمثل أشار فاوست إلى تسعينيات القرن الماضي شهدت حظر البعث للحركات الإسلامية السنية” حيث تم منع وإتلاف كتب الإسلاميين السنة ورفد الكثير من الأئمة الذين تم اكتشاف ميول اسلامية سياسية لديهم ولم يسمح للإسلاميين بالتدريس في المدارس الدينية أو الخدمة في الجيش أو التدريس ضمن اي من الأكاديميات العلمية”.

كثيرون يحتجون بأن صدام دعم داعش عبر إظهار أن عدداً من قدامى المحاربين من الخدمات العسكرية ومخابرات صدام يعملون الآن ضمن صفوف داعش. حسناً، هذا لا ينبغي أن يكون مفاجئاً، فمنذ 2003 انضم الكثير من البعثيين السابقين إلى العديد من المجموعات المتفرقة وليس داعش فقط. لقد تحولت ولاءات هؤلاء على مر الزمن وفقاً للمناخ السياسي بشكل أساسي، وجميعها سارت باتجاه من ينجح بالاستيلاء على السلطة. ومثل الآخرين على مر التاريخ، أظهر العراقيون قدرة هائلة على التكيف مع الظروف الحالية والسكوت على الأيديولوجية السائدة. فالدكتاتور الإيطالي السابق بنيتو موسوليني، كان اشتراكياً قبل أن يصبح فاشياً، وبعض النازيين تحولوا نحو الشيوعية في ألمانيا الشرقية أو الرأسمالية الديمقراطية في ألمانيا الغربية، بل  إن سيد قطب أحد أكثر المنظرين الإسلاميين إثارة للجدل في القرن العشرين تأثر بخلفية السابقة “الاشتراكية الماركسية”.

الحجة القائلة بأن صدام دمج في مرحلة ما بين سياساته البعثية والإسلامية أو السلفية في مرحلة غير صحيحة أيضاً. يستند مؤيدوا هذا السرد عادة إلى لقاء حدث بين صدام وكبار قادة نظامه عام 1986، أعلن صدام خلال هذا اللقاء وقفاً لإطلاق النار وأشهر تحالفاً تكتيكياً مع بعض الإسلاميين خارج العراق وفي مقدمتهم، فرعي الإخوان المسلمين في كل من السودان ومصر. يجادل الكثيرون بأن هذا الحدث يمثل توجهاً واضحاً من صدام نحو تحالف مع الإسلاميين بعيداً عن أفكاره السابقة. وصحيح أن صدام خلال الاجتماعات أكد أن هذا التحالف هو تحالف تكتيكي، إلا أن سجلات حزب البعث تكشف أن هذا التحالف لا يعد شيءً جديداً على سياسات صدام.

شكل البعثيون العراقيون تحالفاً تكتيكياً شبيهاً مع الاخوان المسلمين في سوريا أوائل الثمانينات، إن لم يكن قبل ذلك، وفي نفس الوقت استمر حزب البعث العراقي في قمع الجناح العراقي من الإخوان المسلمين. وبالمثل تحالف النظام العراقي مع الاحزاب الشيوعية خارج العراق بينما استمر في قمع الحزب الشيوعي العراقي. وبالنظر إلى هذه الخلفية، فإن قرار حزب البعث العراقي بدعم الاخوان المسلمين في السودان ومصر لا يمثل تغيراً كبيراً في الايديولوجيا. وكما ذكر، فإنه وعلى الرغم من هذا التحالف التكتيكي ، إلا أن عقيدته البعثية تتعارض مع الإسلام بالنظر إلى أن رؤيته تقوم على “دول قومية اشتراكية” بينما يدعو الإسلاميون إلى قيام “دولة إسلامية”. و علاوة على ذلك، فإن ميشيل عفلق المسيحي، مؤسس حزب البعث، كان قد دعم سابقاً تحالفاً تكتيكياً مع الإسلاميين – غير العراقيين. وعلى الرغم من أن البعثيين يدعون اعتناق عفلق للإسلام وهو على فراش الموت، إلا أنه ما جرى تصويره على أنه ساهم في بناء ” حصن ضد الأسلمة” خلال حياته.

وعلى الرغم من دعم النظام أيضاً لجماعات اسلامية أجنبية اخرى مثل حركة حماس الفلسطينية والجهاد الإسلامي المصرية كان موثقاً للغاية، إلا أنه كان بدافع استراتيجي أيضاً. حيث قام صدام بدعوة المقاتلين الإسلاميين للقتال ضد الغزو الأمريكي لبلاده عام 2003. وعلى الرغم من قيام الكثير من المجموعات الإسلامية بدعم صدام بصخب كبير، كما هو الحال في السودان، إلا أن تقارير المخابرات العراقية تظهر امتعاض الطرف السوداني الإسلامي من استمرار دعم بغداد بدعم القومية العربية العلمانية. وفي وقت متأخر من عام 2000 أشار تقرير استخباراتي عراقي إلى غضب الإسلاميين السودانيين بعد أن قام النظام العراقي بدعم حزب البعث السوداني لتمويل ” القومية العربية العلمانية”.

محلياً، عارض صدام الإسلاميين دوماً بمجرد إظهارهم فهماً آخر للإسلام غير فهمه، وفي الواقع، احتوت سجلات النظام العراقي على آلاف الصفحات المتعلقة بطريقة تعامل النظام مع الإسلاميين ابتداءً من عام 1990 وحتى سقوطه، توضح طريقة تعامل النظام وسياساته تجاه الزعماء الدينيين في العراق.

انتهج البعثيون منهجاً ثابتاً بلا رحمة في محاولة تعقب أو “تحييد” أي شخص لديه أدني تلميح من السلفية أو تعاطف مع الإسلاميين. في الواقع، امتلك النظام سجلات بيانات منذ بداية التسعينات تحوي اسم كل زعيم اسلامي في كل مسجد على حدة. ولم تكتفي الجداول تلك بالأسماء بل صنفعت الأئمة إلى “سلفي وهابي، اخواني …”. وعلى مدار التسعينات أيضاً، قام النظام بتنظيم وضبط أجهزته الأمنية للتعامل مع الإسلاميين، وقام بخلق أقسام خاصة للتعامل مع الوهابيين والإخوان المسلمين و مختلف الأئمة الشيعة أيضاً.

ولعل قيام صدام برجم المومسات وقطع أيدي اللصوص ورمي المثليين جنسياً من فوق المنازل يعطي حجة أخرى للمحتجين بدعم صدام لنشأة داعش، لكن سجلات نظام البعث العراقي لا تظهر أي دليل على لجوء النظام العراقي إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في العراق. بل إن هذه الأفعال الإجرامية والبشعة كانت تنفذ من قبل فدائي صدام، ووفق سجلات حزب البعث فإن كثيراً منهم كانوا شيعة فقراء بالأساس، وهم في نظر داعش “زنادقة”. وعلى الرغم من تشابه الأفعال الوحشية هذه بأفعال داعش، إلا أن ذلك يمكن اعتباره كناتج ضمن قسوة وبطش الفترة التي حكم فيها البعث العراق، والتي لم تكن تستند إلى أي دافع إسلامي بالأساس.

وحتى حين قام البعثيون بتعزيز الإسلام عبر حملتهم الوطنية ” الإيمان”، أشار معظمهم إلى صيغة مخففة من الإسلام كانت جزءً دائماً من النظام الأيديولوجي للبعث وتتوافق مع أجندتهم القومية عموماً. فعلى سبيل المثال، أورد تقرير لحزب البعث عام 1997 حمل عنوان ” خطة لتلقين أعضاء الحزب الممارسات الدينية الثقافية” سرد التقرير ما كان مخطط له من استخدام الدورات داخل التعريفية داخل أطر حزب البعث للتعريف بالإسلام. أربعة من الكتب الخمسة التي اعتمدت عليها هذه الخطة كانت من تأليف ميشيل عفلق، فيما كان الكتاب الخامس من تأليف صدام حسين نفسه، عام 1977، وهو الكتاب الذي نشره صدام قبل وقت طويل من تحوله المفترض نحو الإسلاموية عام 1986. ويشير التقرير أيضاً إلى أن أهداف الخطة تشمل تعزيز الحركة القومية والتركيز على أثر القومية في التخفيف من الإنقسام والطائفية وفضح زيف وبهتان من يدعو إلى استخدام الإسلام كغطاء لثورة بشرية.

بعيداً عن ما تمثله التحدولات الأيديولوجية، فإن المدارس الدينية التي نشأت وتموضعت خلال حملة ” الإيمان” العراقية أعادت التأكيد ببساطة على السياسات البعثية القديمة الخاصة بالدين، وكان صدام قد أعرب عن تثبيت هذه الآراء البعثية المتعلقة بالإسلام بدءً من السبعينات. ولكن لم يتمكن نظامه من تطوير القدرات المؤسسية لتعليم نسخة قومية من “الإسلام العروبي” وكأن الأمر كان برمته نضوج قدرات أمنية ومؤسساتية بعثية على التعامل مع الحركات الدينية المعادية أكثر من التحولات الأيديولجية – وفق ما يروج متبني وجهة نظر تحولات حملة “الإيمان” البعثية.

تصوير داعش على أنها نتاج لسياسات صدام فقط أمر غير صحيح، ويقلل بشكل خطير من الدور الأساسي الذي لعبته حرب العراق عام 2003 في تشكيل وتطوير الجماعات المسلحة في العراق. فالغزو الأمريكي وما تبعه من سياسات أمريكية أدت إلى تدمير الدولة العراقية ونظامها السياسي وإشعال الحرب الأهلية وتعزيز سيادة الطائفية التقسيمية بالإضافة إلى الطموحات السلطوية للرئيس العراقي السابق نوري المالكي وغيرها أدت إلى الوصول إلى هكذا نتيجة.

حرص المالكي على توسيع دائرة الاتهام لتشمل القسم السني بأكلمه في المجتمع العراقي، متهماً إياه بجرائم وإشكاليات نظام البعث وحقبتها في تلك الفترة. داعش باختصار هي عرض من أعراض دولة مكسورة ونظام سياسي عقيم كسر منذ عام 2003.

ضع تعليقاَ