أبريل 17, 2024

العلاقات السعودية الروسية وموقع إيران منها

مقدمة

أتت زيارة ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى موسكو في الثلاثين من أيار/مايو المنصرم؛ لتفتح الباب على مصراعيه أمام كثير من التكهنات حول مغزاها وما ترمي إليه من دلالات، ولا سيما مع ما تموج به المنطقة من أزمات كبرى ما تزال أحداثها معلقة لا تعرف الحل، وخصوصاً مع ما قدمته تلك الزيارة من وعد بزيارةٍ ما قريبةٍ للملك سلمان نفسه، والتي إن تمت فستكون أول زيارة لملك سعودي إلى روسيا.

تتباين وجهات النظر السعودية الروسية بشكل عميق حيال كثير من هذه الأزمات؛ خصوصاً الأزمة السورية وما يكتنفها من تعقيدات جمة وتداخلات إقليمية كثيرة تحول دون حدوث أي تقدم في حلحلتها، والسعودية وروسيا طرفان فاعلان في هذه الأزمة؛ لذا فإنه يؤمل كثيراً من تلك اللقاءات المباشرة بين قادة البلدين حدوث انفراجة ما.

وقد حاولنا من خلال هذا التقرير أن نتطرق إلى أهم القضايا والتفصيلات التي تعطينا كامل الصورة عن طبيعة العلاقات الروسية السعودية، بدءاً بالجانب التاريخي لهذه العلاقة وأهم محطاتها، ومروراً بكثير من الأفرع الأخرى للعلاقة، وانتهاء بالبحث في مستقبلها.

كما اهتممنا من خلال هذا التقرير بطرح كثير من الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها، بشأن التقارب السعودي الروسي المتوقع، ولماذا الآن ولماذا من الأساس. كما ألقينا من خلال هذا التقرير الضوء على أهم القضايا العالقة التي تمثل للطرفين حجر عثرة في سبيل الالتقاء والانطلاق معاً نحو تقارب ما.

كما لم يفت هذا التقرير إلقاء الضوء على الجانب الاقتصادي وأثره في الدفع قدماً بالعلاقات إلى الأمام، كما تطرقنا بتفصيل إلى مشكلة الطاقة، والإغراق الأخير لأسواق النفط الذي اعتمدته المملكة العربية السعودية مؤخراً، والذي أدى إلى تقهقر أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها، وأثر ذلك على روسيا وعلاقتها بالمملكة، وما وصل إليه الحال الآن من تطور في سبيل تنظيم ذلك الأمر.

محطات في تاريخ العلاقة بين السعودية وروسيا

ما قبل عام 2003

شهدت العلاقات بين السعودية وروسيا تقارباً في الآونة الأخيرة، محكومةً بمصالح واتفاقات جديدة أهمها اتفاق الأسلحة الأخير، لكن هذه العلاقة ليست رهينة اللحظة الحالية إنما تفاوتت خلال السنوات بين مد وجزر..

بدأت العلاقات مع مطلع 1979، والجدير بالذكر أن العلاقات بين البلدين كانت مقطوعة منذ الثلاثينيات، ولم تسنح الفرصة في ذلك الحين لإحيائها لأسباب كثيرة أهمها: الدعم العسكري السوفياتي للأنظمة الماركسية في إثيوبيا واليمن الجنوبي وأفغانستان، والذي كان يهدف في الأساس -بحسب مراقبين- إلى محاصرة المملكة الغنية بالنفط، ومن ثم التأميل في سقوط أسرتها الحاكمة المتحالفة مع الولايات المتحدة. وقد عمَّق هذا الافتراضَ أمران: أولهما الغزو السوڤياتي لأفغانستان، وثانيهما عدم اليقين إن كانت الثورة الإيرانية قد تتطور في اتجاه ماركسي.

وعلى الرغم من التحسن العام في علاقات موسكو مع الغرب والذي وقع في ظل حكم ميخائيل غورباتشوف، لم تستأنف المملكة العربية السعودية والاتحاد السوفياتي العلاقات الدبلوماسية إلا بعد غزو العراق للكويت في عام 1990، حيث مثّلت هذه الحرب أرضية ما مشتركة للبلدين كي تمر علاقتهما بانفراجة، لكن سرعان ما تدهورت العلاقات مرة أخرى وتحديداً في منتصف التسعينيات، وذلك إثر تعبير الرياض عن قلقها إزاء مبيعات الأسلحة الروسية لإيران، ودعم موسكو العلني لبرنامج طهران النووي والذى يخشى كثيرون أن يؤدي إلى امتلاك طهران أسلحة نووية. وفي إطار هذا الجو المشحون رد مسؤولون روس باتهام الرياض بدعم المتمردين الشيشان، والسعي إلى نشر “الوهابية” بين المسلمين في روسيا والجمهوريات السوفياتية السابقة. كما برز في خضم ذلك خلاف إضافي يندرج تحت التنافسية في إنتاج النفط؛ حيث سعت روسيا إلى زيادة إنتاجها وصادراتها، في حين أرادت المملكة العربية السعودية أن تلزم روسيا بحدود الإنتاج التي وضعتها منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك).

ومع بداية وقوع الهجمات الإرهابية ضد الولايات المتحدة في 11 أيلول/سبتمبر 2001، كانت العلاقات السعودية الروسية ما تزال على توترها السابق، بل إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ارتأى أن الوقت غير مناسب لتحسين العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية فحسب؛ بل تشجيعها كذلك على الدخول معه في شراكة ضد ما وصفه حينها بأنه إرهاب سُني مدعوم من السعودية. ورغم هذه الخطوة التي ربما عمقّت الخلافات وعززت مصادر التوتر والقلق، إلا أنه وبحلول عام 2003 تغير كل شيء بشكل مفاجئ؛ إذ بدأت العلاقات الروسية الأمريكية والأمريكية السعودية في التدهور؛ وذلك نتيجة الحرب على الإرهاب التي قادتها أمريكا، إذ عارضت موسكو والرياض اندلاع الحرب في العراق، وبناءً على هذا الاتفاق في وجهات النظر حيال الملف العراقي بدأت حِقبة جديدة من العلاقات بين السعودية وروسيا، حِقبة شهدت تحسناً ملحوظاً ومتنامياً بلغ الذروة أثناء زيارة ولي العهد السعودي -حينها- عبد الله بن عبد العزيز لموسكو في أيلول/سبتمبر من العام نفسه.

ما بعد عام 2003

مثلت هذه الزيارة نقلة كبرى في تاريخ العلاقات بين المملكة العربية السعودية وروسيا الاتحادية؛ إذ فتحت المجال على مصراعيه لتقارب مميز لم تعهده الدولتان معاً من قبل، فبدأت العلاقات بينهما في النمو وفي اتخاذ خط جديد مختلف من التكامل والتقارب، فتغير موقف المملكة من انتقاد سياسات روسيا في الشيشان إلى دعمها؛ خصوصاً بعد التفجيرات التي نالت من الأراضي السعودية حينها وتبناها تنظيم القاعدة، ومن هنا بدأت الدولتان في تعرف كل منهما الأخرى كحليفين في مواجهة عدو مشترك، كما عزز ارتفاع أسعار النفط في بدايات الألفية رأب الصدع فيما يخص النفط وحدود إنتاجه.

أوجد التقارب السعودي الروسي، في تلك الفترة، توجسات لدى البعض من إمكانية استغناء المملكة عن خدمات الولايات المتحدة في إطار التنسيقات الأمنية والعسكرية؛ والاستعاضة عنها بدور فاعل من قبل روسيا، غير أن تلك الشكوك لم تجد لها مكاناً في الواقع. هذا في الحقيقة يمكن إرجاعه إلى كون المملكة العربية السعودية ليس لديها هذا الاستطراد تجاه روسيا من حيث إمكانية حلولها كبديل للولايات المتحدة، كما أن روسيا كذلك لم تكن تسعى إلى مثل هذه المكانة؛ وذلك لأن وضعها حينئذ لم يكن ليسمح بذلك، فهي في نقطة وسط ترى فيها الأسرة الحاكمة السعودية شريكاً جيداً بالنسبة لما يمكن أن يكون عليه الحال لو تولت حكومة إسلامية متشددة مقاليد الحكم، وهو الاحتمال الأكثر وروداً في رأيها إن حدث أي تغيير في الحكم هناك.

على الرغم من حدوث تحسن كبير فى العلاقات السعودية الروسية منذ عام 2003، إلا أنه لا يمكن إنكار وجود بعض الخلافات والمشاكل العالقة؛ أبرزها بالتأكيد دعم موسكو لطهران المنافس الإقليمي للرياض، عن طريق صفقات الأسلحة وتوفير الدراية النووية لها من أجل السير قُدماً في برنامجها النووي، ووفقاً لبعض التقارير الصحفية الروسية الصادرة عام 2008 فقد ربطت المملكة مشترياتها من الأسلحة من روسيا ببُعد الأخيرة عن إيران وتقليص التعاون معها، غير أن بوتين ووفقاً للتقارير نفسها رفض تلك المساومة واختار عدم الإذعان لمثل هذه المطالب، وما تزال العلاقة تواجه تلك العقدة حتى الآن. هذا وقد برز في الإطار نفسه بعض العثرات في العلاقة بين روسيا والسعودية؛ إذ عبرت موسكو عن إحباطها حيال عدم منح السعودية مزيداً من العقود لشركاتها للعمل داخل المملكة.

وبالإضافة إلى ذلك، فقد أدى الانخفاض المفاجئ في أسعار النفط في منتصف عام 2008 إلى تجدد التوترات بشأن مستويات الإنتاج، إذ أشارت موسكو إلى أنها قد “تنضم إلى الأوبك” وهو ما لم يحدث.. ثم بعد ذلك وفي آذار/مارس 2009، صرح نائب رئيس الوزراء الروسي النافذ إيجور سيتشين، في اجتماع لوزراء في دول منظمة (أوبك)، بأن موسكو قد تُرسل ممثلاً دائماً إلى أمانة منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، وهي خطوة أقل بكثير من أن تُصبح روسيا عضواً وتلتزم بحدود إنتاج منظمة أوبك؛ ممَّا يجعل الخلاف على هذا الأمر قائماً.

كما برز في تلك الفترة مشكلة أخرى خلخلت قليلاً من مستويات العلاقة بين السعودية وروسيا، وتتمثل في التصاعد المستمر لنشاط المتمردين المسلمين في شمال القوقاز، وهو الأمر الذي أزعج موسكو بشدة، وجعلها بشكل غير مبرر تُلقي باللوم على “قوى خارجية” بمن فيهم المملكة العربية السعودية، متناسية سياستها القاسية تجاه المسلمين، والتي من الممكن أن تكون سبباً رئيساً في تأجيج الوضع.

وهكذا، ومن خلال العرض المتقدم نرى أنه وفي حين أن العلاقات بين المملكة العربية السعودية وروسيا منذ عام 2003 قد نمت وتطورت بشكل ودي مضطرد، إلا أنها لم تخلُ ممَّا يعكرها من اختلافات، اختلافات حدّت أو بالأحرى منعت تقدماً ما في اتجاه روابط أقوى وأمتن، فروسيا والسعودية حتى عام 2009 لا يمكن وصفهما بالأعداء، وكذلك لا يمكن وصفهما بالحلفاء، فقط نقطة وسط من الحذر والمصالح تجمعهما.

تراجعت وتيرة العلاقات السعودية الروسية منذ أواخر عام 2009، وظهر ذلك جلياً في الكلمة التي وجهها دميتري ميدفيديف، الرئيس الروسي حينها، في لقاء مع المُفتين وقادة أقاليم شمال القوقاز، والتي تضمنت حديثاً عن أهمية التعليم الديني في روسيا كلّها، وعن أفضلية “المشاريع التنويرية” والمؤسسات التعليمية الدينية في “ليبيا وسوريا ومصر”، مؤكداً في الوقت ذاته أن الاتصالات مع الجانب السعودي في هذا الإطار لا يجب أن تتعدى أمور الحج وما يدور حولها من إجراءات.

من هنا نلاحظ أن العلاقة منذ ذلك الحين بدأت في أخذ خط هابط، وأضحت في عام 2010 لا تتعدى الأشكال البروتوكولية التقليدية، ثم تجددت الأجواء وازدادت سخونة من حيث تقاطعات الآراء في عام 2011 وبداية الربيع العربي، إذ رأت روسيا في السعودية مجرد شريك وممثل للسياسة الأمريكية في المنطقة، وأن هذه الثورات “فتن”، تستغل من قبل أمريكا في القضاء على الواجهات العلمانية لدول الربيع وإبدالها، بالتعاون مع السعودية، بالبديل الوهابي المتشدد. وانطلاقاً من تلك التخوفات تحركت روسيا بعد ذلك في إطار الملف السوري بدعم بدا سياسياً في البداية وتطور إلى تدخل عسكري شبه كامل.

زيارة وليّ ولي العهد لروسيا

مثلت الزيارة الأخيرة لولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع محمد بن سلمان إلى روسيا في 30 أيار/مايو الماضي، مثلت نوعاً من الإدراك لأهمية الدور الروسي الفاعل في المنطقة، كما عدت تنسيقاً ما مباشراً يُراد من ورائه رأب الصدع بالنسبة للخلافات القائمة حول عديد من القضايا الشائكة، أبرزها الاختلاف الحاد في وجهات النظر حيال الملف السوري.

وتأتي أهمية هذه الزيارة من كونها أعقبت بأيام معدودة القمة الإسلامية الأمريكية الموسعة التي تمت في الرياض منتصف أيار/مايو الماضي، والتي أسفرت عمَّا يراه مراقبون تقارباً كبيراً في وجهات النظر السعودية الأمريكية حيال عديد من الملفات، خصوصاً الملف السوري والملف الإيراني، حيث اتفق الجانبان على ضرورة عزل بشار الأسد واستبعاده من أي حل سياسي قادم في سوريا، كما اتفقت رؤى الجانبين كذلك بخصوص الملف الإيراني، ففي حين ارتأى ترامب ضرورة عزل إيران إقليمياً ودولياً، فقد وصفها الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز بأنها “رأس حربة بالنسبة للإرهاب العالمي”. هكذا أتت زيارة ولي ولي العهد لروسيا لتمثل محاولة جادة من الأمير الشاب للتنسيق مع روسيا حيال ما استُجد من مواقف صلبة مدعومة من كثير من القوى الإقليمية والعالمية، ولتمثل كذلك تدعيماً للعلاقات الثنائية وتخفيفاً لحدة التوتر الذي شهدته علاقة البلدين على مدار السنوات الخمس الماضية.

تُدرك السعودية وروسيا حقيقة الحدود التي تتأرجح فيها علاقتهما صعوداً وهبوطاً، ومن هذا المنطلق يحاول بن سلمان فتح أفق جديد في طبيعة هذه العلاقة، أملاً في حل الوضع الإقليمي بالنسبة للأزمتين السورية واليمنية، ومن ثم التفرغ شبه التام للملف الإيراني ومحاولة مواجهته عن كثب. فتقريب وجهات النظر مع روسيا حيال الشأن السوري واليمني من شأنه أن يدفع قُدماً باتجاه تطور في العلاقات بين البلدين، ومن ثم الاعتماد على هذا التطور في إثناء موسكو قليلاً عن دعم إيران عسكرياً وسياسياً.

عزل إيران دولياً وتحجيم خطرها السياسي والعقائدي، هو أكثر الأمور التي تشغل بال المملكة العربية السعودية والذي تُبذل في سبيله كل جهودها، بل إن معظم قرارات المملكة واتجاهاتها في سياساتها الخارجية تصدر عن هذا القلق وعن هذا التوجس؛ لذا فهي لا تكتفي في هذا الإطار بحليف أمريكي قوي وإنما تسعى كذلك إلى إحراز توافق ما مع روسيا من أجل الضغط على إيران، أو على الأقل عدم إبداء مساندة تامة كما هو الحال الآن.

وفي معرض لقاء بوتين وبن سلمان أشار الأخير في تصريحات مقتضبة إلى أنه: “لا توجد تناقضات بين موسكو والرياض في سياستهما، ونأمل أن نتمكن معاً من توجيهها في الاتجاه الصحيح لتخدم مصلحة البلدين”، وأضاف قائلاً: أن “العلاقات بين موسكو وروسيا في أفضل مراحلها”، وأكد الأمير الشاب كذلك “أن هناك الكثير من النقاط المشتركة بين البلدين، وأن هناك آلية واضحة لتجاوز كل الخلافات الموجودة”.

عبر هذه التصريحات نرى مدى الاعتماد الملاحظ على نتائج هذه الزيارة في تقريب وجهات النظر، وفي فتح آفاق جديدة من التعاون بين البلدين، كما نلحظ في تصريحات ولي ولي العهد تلك النبرة التصالحية التي تأمل أن تتجاوز كل الاختلافات، وتصل مع روسيا إلى أرضية حوار وتعاون مشترك تدفع بالمنطقة إلى “ساحات مأمولة من الاستقرار والهدوء المفتقد”.

يأمل بن سلمان من خلال زيارته تلطيف الأجواء بين البلدين خصوصاً قُبيل الزيارة التاريخية المرتقبة للملك سلمان إلى روسيا، والتي يأمل من خلالها الجانب السعودي في إنجاز كثير من الأمور العالقة؛ ولا سيما الوصول إلى حل للقضية السورية. وقد بدر عن الرئيس الروسي في هذا الشأن ترحيب كبير بالزيارة حيث صرح قائلاً: “طبعاً نحن ننتظر زيارة ملك المملكة العربية السعودية”، وأضاف قائلًا: “واثق من أن هذه الزيارة الأولى في تاريخ علاقاتنا ستكون إشارة جيدة وحافزاً جيداً لتطوير العلاقات”، كما لم يفت الرئيس الروسي الإشارة إلى موضع الخلافات الكائن بين البلدين حيث قال: “نحن نُجري اتصالات على المستوى السياسي وبين العسكريين، ونتعاون في مسائل تسوية الأزمات، بما في ذلك الشأن السوري”.

نتائج اقتصادية

كما لم يغب الجانب الاقتصادي عن طاولة المباحثات، حيث ملف الطاقة وحفظ إنتاج النفط عند مستويات مُتفق عليها؛ وتعول السياسة السعودية على الجانب الاقتصادي كثيراً في إحداث نقلة نوعية في مستوى العلاقات. غير أنه ليس من المعقول أبداً -كما عبر مراقبون-  تعميق التعاون الاقتصادي المشترك دون أرضية سياسية جيدة تطمئن الطرفين على مستقبل الاستثمارات والمشاريع الاقتصادية المنوي تنفيذها.

وفي هذا الإطار سعت الرياض، على مدى علاقتها مع روسيا، إلى الدفع باتجاه توطيد المناحي الاقتصادية بين البلدين؛ أملاً في دفع موسكو نحو خيارات المملكة وانحيازاتها في القضايا السياسية المختلفة؛ لذا فقد رافق زيارة ولي ولي العهد السعودي ووزير الدفاع محمد بن سلمان إلى روسيا توقيع عدة اتفاقيات وتفاهمات اقتصادية مختلفة؛ كان أبرزها اعتزام المملكة المساهمة في تطوير موقع مطار “توشينو” السابق في روسيا، حيث أصدر صندوق الاستثمارات المباشرة الروسي بياناً جاء فيه أنه قد “تم توقيع مذكرة نوايا حول الانضمام إلى مجموعة من المستثمرين من أجل المشاركة في تطوير منطقة مطار ‘توشينو’، الذي يقع شمال غرب موسكو.

ويواصل الصندوق الروسي والصندوق السيادي السعودي العمل على الدفع بفرص الاستثمار في قطاعات، مثل تجارة التجزئة والعقارات ومصادر الطاقة البديلة والبنية التحتية اللوجستية والنقل”، حسبما نقلت “RT” الروسية المملوكة للدولة.

الناتو العربي وروسيا

تشير كثير من التقارير إلى أن السبب الرئيس الذي دفع محمد بن سلمان إلى زيارة روسيا هو محاولة إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بضرورة الانضمام إلى الناتو العربي، أو على الأقل تفهمه. الأمر الذي قوبل من الرئيس الروسي بالرفض، وقد عبر وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف عن معارضة روسيا لهذا الحلف، مضيفًا أنه “لن يساهم أبداً في استقرار المنطقة”.

يذكر أن “الناتو العربي” دعوة لإنشاء تحالف عسكري عربي سني في مواجهة إيران، يتكون من الدول الإسلامية السنية التي تستشعر خطر التمدد الإيراني في المنطقة، وهذا الحلف قد دعت له مصر سابقاً على لسان المشير حسين طنطاوي، أثناء توليه رئاسة المجلس العسكري الذي حكم مصر -بشكل مؤقت- في أعقاب الثورة التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك، ثم جدد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الدعوة إلي هذا الحلف في عام 2015، وقد اصطفت الولايات المتحدة الأمريكية داعمةً الجهود المبذولة لتكوينه، ونوقش الأمر بشكل مستفيض خلال القمة الإسلامية الأمريكية بالرياض.

وتأمل المملكة من خلال هذا الحلف مواجهة إيران والحد من أطماعها وتمددها في المنطقة، وذلك من خلال قوة إسلامية سنية عسكرية يكون لها ثقلها على الأرض، توفر غطاءً عسكرياً قوياً للتحركات الرامية إلى تحقيق انفراجة ما مرضية بشأن ملفات عدة قائمة في المنطقة، أبرزها بالتأكيد الملف السوري والملف اليمني، واللذان تتدخل فيهما إيران بشكل عسكري صريح يعطل مسارات إيجاد أية فرصة لتسوية الموقف.

التقارب السعودي الروسي والموقف الدولي حياله

ما يزال طرق الأبواب مستمراً من قبل السعودية للباب الروسي، وقد تمثل هذا الطرق في زيارتين لولي ولي العهد محمد بن سلمان إلى روسيا؛ الأولى كانت في حزيران/يونيو 2015 والثانية في أيار/مايو من هذا العام. الإصرار ملاحظ من قبل الأسرة الحاكمة السعودية على التقارب مع روسيا، والإرادة السياسية وحدها لكلا البلدين هي الحكم، ومجرد المحاولة في هذا الإطار يُبِين عن نيات كثيرة للملكة وكذا لروسيا في تقليص الفوارق تجاه المواقف المختلفة، ومن ثم الانطلاق سريعاً تجاه علاقات قوية تضمن لكلا البلدين والمملكة خصوصاً توازناً ما مأمولاً في العلاقات، وقوة ما تستطيع بها النفاذ تجاه ما تريده للمنطقة من استقرار وهدنة بعد اشتعال.

ولا شك أن تلك المحاولات الجارية والتي يتمثل أقصاها في تلك الزيارة المزمعة للملك سلمان قريباً لروسيا؛ لا شك أنها مثيرة للقلق أو الفضول من قِبل كثير من الدول صاحبة المصالح في المنطقة، تأتي الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بعمومه في مقدمة تلك الدول التي تنظر إلى تلك المحاولات بقلق بالغ، فالتنافسية بين الغرب وروسيا لم تتوقف يوماً، ولجوء الحليف القوي للغرب وهي المملكة العربية السعودية لروسيا يثير لتلك الدول كثيراً من علامات الاستفهام، ويدفعها تلقائياً إلى تحسس مواضع الخلل القائمة في علاقتها مع السعودية، ويجعلها كذلك حريصة أشد الحرص على إحراز سبق ما في علاقتها مع المملكة الغنية بالنفط، وصاحبة الدور الأكثر فاعلية حالياً في منطقة الشرق الأوسط.

أمريكا متيقنة من البراعة السياسية التي يتمتع بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ لذا فهي بالتأكيد تراقب عن كثب ما يجري، أو بالأحرى ما يَلُوح من نيات معبأة بالتقارب بين روسيا والسعودية، يأتي ذلك في ظل إدارة أمريكية جديدة قدمت نفسها خلال حملتها الانتخابية كمعادٍ قوي للإسلام الراديكالي، كما سبق توليها صدور كثير من التشريعات والقوانين الجديدة المثيرة للقلق تجاه المسلمين وتجاه بلدانهم، كقانون جاستا الذي اعتبره مراقبون استهدافاً مباشراً للسعودية، لذا فقد ارتأى الساسة السعوديون أن لا انفكاك أبداً بين علاقات جيدة متينة مع أمريكا وكذلك علاقات جيدة مع روسيا، وبذلك تضمن المملكة توازناً ما في سياستها يجعلها أقوى وأرسخ أرضاً في مواجهة أية مفاجأة يمكن أن تحدث من قبل حليفها الأمريكي القوي.

وفي إطار مشابه تخشى كذلك إيرانُ المنافسُ التقليدي للمملكة في المنطقة، تخشى من تلك المحاولات الدؤوبة التي تقوم بها المملكة من أجل التقارب مع روسيا حليفها الاستراتيجي القوي، فإذابة جبل الجليد في العلاقات السعودية الروسية من شأنه أن يمثل تهديداً مباشراً ووجودياً لإيران، التي تعتمد اعتماداً كاملاً في كل مواقفها المعلنة والسرية على الدعم الروسي المباشر لها. نلاحظ ذلك كأبلغ ما يكون في الملف السوري وكذلك في الملف اليمني، والذي تتخذ فيه روسيا موقفاً عسكرياً مباشراً يساهم بشكل كبير في تعطيل فرص الوصول إلى حل مرضٍ للسعودية وحلفائها.

محاصرة إيران والوقوف في مواجهة أطماعها وتمددها القوي في المنطقة يدفع السعودية إلى بذل كل الجهود التي تضمن لها ذلك، والارتماء في حيز العلاقات الاستراتيجية لإيران، وبالتحديد علاقتها مع روسيا، من شأنه أن يصيب السياسة الإيرانية في المنطقة بالارتباك، ويدفع باتجاه إيجاد تسويات مقبولة تضمن للمملكة استقراراً ما في المنطقة، ومن ثم قطع الطريق على إيران وتمددها الذي لم ينشط إلى ذلك الحد الصارخ إلا وسط هذه الأجواء التناحرية والعبثية التي تموج بها المنطقة.

في حين ترى القاهرة التي تشكل حلفاً نامياً مع السعودية؛ ترى في التقارب الروسي السعودي أمراً تكاملياً مع سياساتها الرامية إلى خلق توازن ما في المنطقة تستفيد منه في ترسيخ شرعيتها وحكمها الذي لا يزال في طور التكون وفرض السيطرة، وتستفيد منه كذلك في قوة ما تضاف إلى حليفها السعودي الذي تستند عليه في حل كثير من أمورها الداخلية خاصة الاقتصادية منها.

القضايا العالقة بين روسيا والسعودية

أولاً: إيران كحجر عثرة

لطالما كانت إيران بالنسبة للملكة العربية السعودية منافساً إقليمياً شرساً بل عدواً لدوداً؛ تتوقاه الأخيرة في سياساتها كافة وتدفع دفعاً كبيراً باتجاه محاصرته ووضعه في حيز ضيق لا تتفرع عنه تهديدات ولا مطامع، وتعتبر روسيا في هذا الإطار عائقاً رئيساً للمملكة في سبيل إحراز ذلك، بما تمثله روسيا من حاضنة قوية للنظام الإيراني ومدافع استراتيجي عن كثير من سياساته، بل متبنٍ لكثير من تصوراته وآرائه بالنسبة للعديد من القضايا.

تنامى الخطر الإيراني بالنسبة للملكة العربية السعودية ودول الخليج بالتوازي مع تقدمها في برنامجها النووي، والذي يعتمد في كل مراحله وخطواته على الخبرة الروسية الضخمة في هذا المجال، ففي حين ترى روسيا في إيران جارة استراتيجية لها وبوابتها إلى الشرق، ترى السعودية في إيران مصدراً للقلق والتوتر؛ وذلك لما يمثله طموحها النووي وكذلك طموحها التوسعي من خطر محدق عليها وعلى المعالم الحدودية التي تنتظم فيها المنطقة.

هذا وقد برز هذا التهديد وهذا الخطر كأشد ما يكونان عبر التدخلات الأخيرة المباشرة وغير المباشرة التي انتهجتها طهران في ملفات شائكة كسوريا واليمن ومن قبلهما العراق؛ لذا فالسعودية تقف حالياً بشكل غير مسبوق أمام هذا الطموح الإيراني بشتى سبلها المتاحة، حتى إنها لا ترى مشكلة في محاولاتها الحالية مع روسيا تحسين العلاقات رغم تورط الأخيرة بشكل مباشر، من وجهة نظرها، في الفوضى العارمة والدماء الكثيرة التي سالت في سوريا.

وتتجلى تلك النظرة الاتهامية التي تنظر بها المملكة لروسيا في ذلك الموقف الذي جاء على لسان وزير خارجيتها السابق سعود الفيصل، حين قال مقاطعاً رسالة توجه بها بوتين للقمة العربية التي عقدت في شرم الشيخ في مطلع 2015: “روسيا سلحت النظام السوري الذي يفتك بشعبه، وهذا النظام فقد شرعيته، وروسيا تتحمل مسؤولية كبيرة في مصاب الشعب السوري”. موضحاً أن “روسيا تقترح حلولاً سلمية وهي مستمرة بتسليح النظام السوري”. حيث نرى من هذا الرد المباشر مدى الاحتقان الذي كان عليه الوضع مع نظام الملك عبد الله بن عبد العزيز، والذي يحاول حالياً نظام المملكة الجديد الحيدة عنه إلى أطر أخرى أكثر مرونة وتناقشية.

لم تتطور علاقة روسيا وإيران إلى هذا الحد من القوة والتطابق شبه الكامل في وجهات النظر إلا من خلال عُزلة دولية استهدفتهما معاً، عزلة دفعتهما دفعاً إلى التلاقي تحت أصدائها، وحثتهما على توثيق روابط الصلات بينهما سواء أكان ذلك من الناحية الاقتصادية أم من الناحية السياسية، فالضغط الغربي على إيران لإثنائها عن برنامجها النووي لا يزيدها إلا ارتماءً في الظل الروسي، والحصار والعزلة الغربية لروسيا لا يزيدانها إلا بحثاً عن منفذ لها لا تجده إلا لدى جارتها إيران.

ربما تبدو العلاقة وطيدة بين روسيا وإيران، من حيث دعم موسكو اللا مشروط لبرنامج طهران النووي، وكذلك من حيث تبني روسيا كثيراً من وجهات النظر التي تعتمدها طهران حيال كثير من القضايا؛ لكن هذا ظاهر العلاقة، والحق أن هناك كثيراً من الخلافات غير الظاهرة بين البلدين، والتي تُعزز فرضية مفادها أن هذه العلاقة ليست استراتيجية على المدى البعيد، بقدر ما هي مؤقتة فرضتها الظروف المحيطة ووطدتها.

ومن هذه الاختلافات نأتي على ذكر المردود الاقتصادي الضعيف الذي خصصته إيران للشركات الروسية بعد توقيع اتفاقها الأخير مع الغرب، ممَّا يدل على العمق الحقيقي للعلاقة، فضلاً عن توجس ما لا بد موجود في نفس الدولة الروسية حيال الطموح الفائق لإيران عسكرياً وتأثيراً في الجوار، كما تبرز علاقة إيران بإسرائيل وتركيا وكيفية إدارة ذلك من قِبل الجانب الروسي كمشكلة أخرى تضاف إلى سجل التصدعات في العلاقات الروسية الإيرانية.

وهذا الجانب الأخير هو ما تحاول المملكة العربية السعودية بقيادة ملكها وولي ولي عهده النفاذ من خلاله إلى تحسين العلاقات وتطويرها مع روسيا، وهذا التحسن يمكن بالفعل أن يتم حين تتغير نظرة الدولتين بالنسبة للأساس الذي يجب أن تبنى عليه العلاقات؛ من مجرد ظروف مؤقتة محيطة تموج بها المنطقة، إلى نظرة بعيدة مُشرفة على ما يمكن أن يستفيده الجانبان إذا تمت بينهما شراكة ما.

ثانياً: الأزمة السورية

تمثل الأزمة السورية وما تحتويه من تعقيدات جمة وتدخلات كثيرة مبلغ الاختلاف في وجهات النظر بين روسيا الاتحادية والمملكة العربية السعودية؛ إذ ترى الرياض حتمية رحيل الأسد وإبعاده نهائياً عن مستقبل سوريا من أجل إتمام تسوية مرضية في هذه الأزمة؛ وتساند الرياض في تلك الوجهة كثير من الدول كالولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وقطر، في حين ترى روسيا ضرورة بقاء الأسد بالنسبة لأي حل سياسي قادم، وتساند روسيا في ذلك الأمر إيران.

لم تكتفِ روسيا والسعودية بمجرد تبني هذين الرأيين؛ بل تعدته إلى تدخل وانخراط تام في مجريات الأحداث في تلك الأزمة، ما أكسب وجهات نظرهما صلابةً وتجذراً؛ فروسيا منخرطة تمام الانخراط في الحرب الأهلية الدائرة في سوريا، وذلك عبر دعم غير مشروط لنظام بشار الأسد، بدا في البداية سياسياً بحتاً تستخدم فيه أدواتها الدبلوماسية وحق النقض (الفيتو) ضد قرارات ما تستهدف بشار الأسد في مجلس الأمن، وانتهى الأمر بتدخل عسكري شبه كامل في الأزمة، حيث الطيران الروسي ينطلق من قاعدة طرطوس للقيام بتغطيات جوية لقوات الجيش السوري التابع لبشار، وكذلك للقوات البرية الإيرانية المشاركة في القتال، وقد أدت تلك التدخلات إلى قلب مُجريات الأحداث خصوصاً في الفترة الأخيرة التي تمكنت فيها قوات بشار الأسد، مدعومة من ميلشيات حزب الله وقوات إيرانية، من السيطرة على مدينة حلب؛ ما أكسبها أفضلية كُبرى في هذه الأزمة، وذلك بعد فترة من التقهقر والضعف.

وعلى الضفة الأخرى كثفت السعودية جهودها في دعم المعارضة السورية، المتمثلة في جماعات عديدة مُنخرطة في عمليات عسكرية على الأرض، وقد نجحت جهودها في البداية في مساعدة المعارضة، من خلال العتاد والمال المقدمين، على إحراز انتصارات كبرى على قوات بشار، لكن التدخل الإيراني الروسي في خريطة الأحداث أودى بتلك الجهود، وأدى إلى تقهقر المعارضة وإصابتها في مقتل.

تحاول روسيا من خلال هذا الدعم الكبير لنظام بشار إثبات نفسها كقوة عظمى يمكنها أن تتحكم في مسار الأحداث، كما تسعى من خلال هذا الدعم كذلك إلى المحافظة على نظام بشار الأسد الذي يمثل بالنسبة لها عمقاً استراتيجياً كبيراً لا غنى عنه في المنطقة، حيث قاعدتها العسكرية في طرطوس شاهدة على مصالحها القوية في هذه الأرض وفي الإبقاء على هذا النظام المتعاون، كما يمثل جانب الطاقة وصادرات الغاز جزءاً مهما في مسارات الأسباب التي تدفع روسيا إلى رفض أي خطة مصالحة بين الأطراف المتنازعة تتضمن رحيل الأسد. في حين ترى السعودية في الأزمة السورية مواجهة مباشرة مع النفوذ الإيراني في المنطقة، والذي يسعى إلى إحداث القلاقل في شبه الجزيرة العربية والمشرق عامة من أجل القفز إلى طموحات التمدد والهيمنة، التي تسيطر عليه في كل تحركاته السياسية والعسكرية.

ونظام بشار الأسد بالنسبة لإيران هو البوابة الرئيسة التي تتيح لها التوغل في الدول المحيطة كخلايا نائمة تظهر في الوقت المخطط له، فحزب الله في سوريا وتسبب نظام الأسد في تضخمه ليس ببعيد، وكذلك الحوثيين في اليمن والمعارضة الشيعية في البحرين، من أجل هذا كله تسعى السعودية جاهدةً لتثبيت وجهة نظرها بضرورة رحيل الأسد عن الواجهة السياسية في سوريا، في حين تخشى روسيا على نفوذها ووجودها المستقبلي في سوريا حال حدوث ذلك.

وبالرغم من التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الساسة الروس والسعوديون حول الأزمة وتخوفهم منها، إلا أن الجهود تتكثف في سبيل الوصول إلى حل يُرضي جميع الأطراف، والأشهر القليلة القادمة ربما تخبرنا بالكثير حول هذا الأمر.

تبرز مشكلة اليمن كذلك كنقطة ضبابية في تفاصيل العلاقة بين روسيا والسعودية، ففي حين أن السعودية تدخلت في اليمن عبر حلف عربي بقيادتها؛ وذلك من أجل مواجهة تطلعات الحوثي للسيطرة على الحكم، التزمت روسيا بموقف لا ينطق بترجيح للمساعي ولا ينطق بمعارضة؛ لذا فهذا الملف بالنسبة لعلاقة الدولتين ملف غير مؤثر بشكل يذكر.

ثالثاً: الطاقة

ولم يكن هبوط أسعار النفط الذي شهدته نهاية عام 2014 أمراً عرضياً، وإنما كان خطوة محسوبة العواقب ومتفقاً عليها من قبل الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية؛ الغرض الرئيس منها هو الضغط على روسيا وإيران ومحاصرتهما، وذلك أملاً في أن يوفي ذلك بالمطلوب السياسي، وهو حلحلة الوضع المتأزم في الشرق الأوسط وخصوصاً في سوريا التي تؤدي فيها روسيا وإيران دوراً محورياً يعطل على التحالف السعودي الأمريكي إرادتهما في إنهاء الوضع بخروج بشار الأسد من المعادلة المستقبلية للحكم في سوريا.

تأزم الوضع الاقتصادي بالفعل لروسيا وإيران من جراء هذا الإغراق في إنتاجية النفط الذي اعتمدته السعودية من خلال منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، غير أن الوضع السياسي في هذا الإطار لم يتغير كثيراً؛ بل استمرت روسيا وإيران متمسكتين بآرائهما دون أي تغيير.

وفي مرحلة ما تالية من هذا التفاهم ومع النتائج غير المرضية له، طلبت الولايات المتحدة من السعوديين عكس مسار الخطة والعودة إلى مستويات الإنتاج السابقة، غير أن الرياض رفضت الأمر وذهبت في اتجاه الإبقاء على رفع إنتاجيتها من النفط، وكان الهدف هذه المرة بجانب الضغط على روسيا وإيران هو محاربة وجود النفط الصخري والتأثير على تنافسيته للنفط الخام، ومن ثم انسحابه بشكل كامل من معادلة الإنتاج، ليعود بعدئذ النفط الخام وقد تحكم مجدداً في سوق النفط والأسعار.

وهنا يجب أن نُعرّف قليلاً بالنفط الصخري الذي لم يكن له سوق ظاهرة قبل العام 2009؛ وذلك نظراً لتكاليف إنتاجه وفصله العالية، ولكن مع ارتفاع أسعار النفط الخام في الأسواق إلى أرقام فلكية بلغت في بعض الأعوام 100 دولار للبرميل، قامت الولايات المتحدة بخطة طموحة لإنتاج النفط الصخري؛ حيث إن الأسعار العالية للنفط ستغطي تكاليف إنتاج النفط الصخري الباهظة، تطور الأمر بشكل متسارع وازدادت حصيلة إنتاج النفط الصخري إلى مستويات غير مسبوقة، حذت بالولايات المتحدة إلى القول بأنها ستصبح الدولة الأولى عالمياً في إنتاج النفط عام 2017، أحدثت تنافسية الصخري للخام هبوطاً جلياً في الأسعار؛ حيث هبطت أسعار النفط في حزيران/يونيو 2014 بما يقارب 10 دولارات للبرميل.

نتيجة تراكم المعروض وانخفاض الأسعار كان متوقعاً من الدول المنتجة للنفط وعلى رأسها السعودية خفض الإنتاج؛ نظراً لأن هذا الانخفاض راجع في الأساس إلى زيادة المعروض، لكن السعودية وفي خطوة مفاجئة ثبتت الإنتاجية عند حدودها الزائدة، ولم تفلح المحاولات الدؤوبة من قبل روسيا وإيران في إثنائها عن ذلك، نعم السعودية ستكون متضررة من أسعار النفط التي تتناقص يوماً بعد يوم، لكن احتياطاتها النقدية الضخمة التي تبلغ نحو 800 مليار دولار في ذلك الوقت كانت ستوفر لها مساحة حرة في أداء تلك المناورة، والتي فسرها بعضهم بأنها نوع من الضغط على روسيا وإيران، وفسرها آخرون بأنها محاولة من السعودية للوصول بأسعار النفط إلى مستويات أقل من تكلفة الإنتاج، ومن ثم التأثير المباشر في إنتاج النفط الصخري، والذي ما أثبت ذاته إلا في ظل الارتفاع الملحوظ في أسعار النفط.

انخفضت بالتأكيد فرص الشركات الأمريكية العاملة في مجال إنتاج النفط الصخري في إكمال المسير ومنافسة النفط الخام في الأسواق، فانخفضت نسبة إنتاجهم بما يعادل 17 في المئة، كان التراجع متوقعاً بشدة في إنتاج النفط الصخري، من ثم عزوفه في النهاية عن المنافسة بشكل تام، لكن الأيام أثبتت عكس ذلك، فكما يقولون “الحاجة أم الاختراع” فقد انطلقت الشركات العاملة في مجال النفط الصخري إلى الاستثمار بشكل ضخم لا في الإنتاج، وإنما في الابتكارات والأدوات اللازمة للإنتاج، وعلى مدى فترة زمنية ليست بالقصيرة، استطاعت تلك الشركات خفض معدلات التكلفة اللازمة لإنتاج الصخري؛ ممَّا كان  ضربة قاصمة لجهود المملكة العربية السعودية في إنهاء وجود تلك المنافسة الصخرية لنفطها الخام.

وعززت تلك النتائج ودللت على صدقها إقدام السعودية مع منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، على طلب التفاوض مع منتجي النفط الصخري لأول مرة، وهذا يمثل اعترافاً ضمنياً بفشل الخطة التي انتهجتها السعودية في إغراق السوق بالنفط من أجل القضاء على المنافسة الصخرية. وانقياداً وتناغماً مع تلك النتائج خفضت أوبك مؤخراً معدلات إنتاجها من النفط، واتفقت في هذا الإطار مع روسيا على هذا التخفيض، فزادت بذلك معدلات الأسعار للبرميل الواحد، وتعافت قليلاً اقتصاديات الدول المصدرة للنفط والمنتجة له من آثار سابقة لانخفاض أسعاره. ومن تلك اللحظة ومن هذا الاتفاق، بدأت روسيا والسعودية تستعيدان علاقة قوية في مجالات الطاقة والانتاج، وزالت رويداً رويداً الآثار السيئة التي واجهتها روسيا وبالتبعية العلاقات بين البلدين من جراء انخفاض أسعار النفط.

آفاق التعاون المطروحة أو قضايا مشتركة

حظيت زيارة ولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع  الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز إلى روسيا والمشاركة في منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي باهتمام الصحافة؛ لما لها من دلالات مهمة جداً، من حيث التوقيت والتمثيل. إذ جاءت في وقت تمر فيه المنطقة بأصعب مراحل الصراع المحتدم فيها، سواءً سياسياً أم عسكرياً، فالأزمات تتصاعد في سوريا واليمن والعراق وليبيا عسكرياً، مهدِّدَةً المنطقة ببركان مدمر، وكذلك الاحتدام السياسي بين القوى الإقليمية الرئيسة في المنطقة، لا سيما السعودية المدافعة عن المصالح العربية، وإيران الطامعة والمتدخلة في الشؤون الداخلية للعديد من الدول العربية، لتصب النار في المنطقة، لذلك تكتسب تلك الزيارة أهمية كبيرة جداً، فالوفد السعودي الذي وصل إلى سان بطرسبرغ من أكبر الوفود تعداداً في المنتدى، كذلك لقاء الأمير محمد مع الرئيس بوتين الذي عقد بينهما على هامش المنتدى، حيث تم بحث بعض المشاريع الاستثمارية المهمة، إضافة إلى أنهما بحثا مسألة التنسيق في بعض القضايا السياسية الساخنة والعسكرية أيضاً.

يعتقد العديد من الخبراء أن زيارة ولي ولي العهد السعودي إلى روسيا تأتي مقدمة لاستئناف العلاقات الثنائية الاستراتيجية الحقيقية وتطويرها بين البلدين؛ وذلك لما يملكه البلدان من إمكانات ومصالح مشتركة، فروسيا تواجه عقوبات اقتصادية من الغرب، إضافة إلى الضغوط السياسية، بسبب الأزمة الأوكرانية، والسعودية تشهد علاقاتها فتوراً مع إدارة أوباما، بسبب الملف النووي الإيراني؛ لذلك من المصلحة البحث عن خيارات سياسية واقتصادية أخرى، وهذا ما أكسب اللقاء والزيارة أهمية قصوى، لتكون نقطة تحول بين البلدين.

 

ضع تعليقاَ