مارس 19, 2024

ستيفن والت: جمهورية الهيستيريا الإسلامية .. إستراتيجية ترامب تدور حول تهديد لا وجود له

ترجمة: جلال خشيب*

تمتلكُ إدارة ترامب إلى حدّ ما إستراتيجية واضحة في الشرق الأوسط، وهي احتواءُ إيران ومواجهتها. يستنكر كلٌّ من كاتب الدولة للخارجية ريكس تيلرسون، وزير الدفاع جيمس ماتيس، السفيرة الأمريكية للأمم المتحدة نيكي هالي وكذا الرئيس دونالد ترامب نفسهُ نشاطات إيران الإقليمية (في شهر فبراير، وبعد تجارب إيرانية للصواريخ الباليستية، غرّد ترامب على تويتر بأنّ هذا البلد “يعلب بالنار”). في شهر أكتوبر، أعلن البيت الأبيض المُضي قُدما وبأنّ السياسة الأمريكية الرسمية تهدف إلى “تحييدِ نفوذ إيران المزعزع للاستقرار وتقييد عدوانيتها أيضًا.

يبدو بأنّ ترامب ومساعدِيه قد تبنّؤوا رؤيةً مفادها بأنّ إيران تُعدُّ مهيمنًا محتملًا مُستعدًا للهمينةِ على الشرق الأوسط، وبالأخصّ السيطرة على الخليج الفارسي الغنيِّ بالنفط. قد يُساعدنا هذا المنطق على فهم المقصد من دعم ترامب الراسخ للسعودية، بما فيه موافقَته (الضمينة والصريحة) للهزّاتِ السياسية المُنظَّمة من طرف العاهل السعودي الأمير محمد بن سلمان في البيت الملكي وأيضًا جهوده الواضحةِ للتدخّل في الشؤون الداخلية للبنان. يُفسِّرُ ذلك أيضًا، رفض ترامب لإعادة المصداقية للاتفاق النووي الإيراني شهر أكتوبر الفارط.

لكن، يُعدُّ الضغطُ المستمر الكامل والمُحكَم على إيران أمرًا غير ذي معنى، لأنّ إيران ليست قريبة بأيّ وجهٍ لأن تصير مهيمنًا إقليميًا. إذا كان هناك ما يستحق الذكر، فإنّه يتعلّقُ برغبة النقادِ والسياسيين في تبنّي ذلك الخيالِ المرعب الذّي يقول الكثير عن الطبيعة الاستفزازية للخطاب الإستراتيجي الأمريكي، أكثر ممّا يتحدّث عن التحدّي الراهن الذّي يمكن لإيران أن تفرضه.

تفتقرُ إيران حاليا للقوة الصلبة التّي سوف تحتاجها دولة معيّنة للهيمنة على بلدان الشرق الأوسط الواسعة والمنقسمة بعمق. وِفقًا للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، تحوز إيران على 83 مليون نسمة. في سنة 2016، بلغ قدر الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 400 مليار دولار، كما بلغت ميزانية دفاعها السنويّة حوالي 16 مليار دولار. يتكوّن العدد الإجمالي لأفرادها العسكريين من 520 ألف جندي (بما فيهم قوّات الحرس الثوري الإسلامي)، منهم مجنّدين مدرّبين بشكلٍ سيءٍ جدّا. تعودُ كثير من دباباتها وغيرها من أنظمة الصواريخ الأساسية إلى حقبة الشاه محمد رضا بهلوي وهي في حالة صيانةٍ سيئةٍ للغاية أيضًا. ومثلما خَلَصَ المُحلّلُ العسكريُ المخضرمُ أنطوني كوردسمان سنة 2010 بأنّ: “الجيش العسكري التقليدي لإيران محدودٌ للغاية ومُعتمد بشِدّة على أسلحةٍ قديمةٍ منخفضة الجودة.. قُوّاتها ليست مُنظَّمة أو مُدرّبة لتصدير قوةٍ هائلةٍ عبر الخليج”.

في المُقابل، تحوز كلٌّ من مصر، إسرائيل، السعودية، الأردن والإمارات العربية المتحدة مُجتمعةً على أكثر من 100 مليون نسمة، ومجموع دخلٍ محليٍ إجماليٍ يُقدّر بأكثر من 1 تريليون دولار، أي أربعة أضعافٍ ما تمتلكه إيران. قُدِّر إنفاقها الدفاعي مُجتمعةً على الأقل بخمسة أضعافٍ ما تنفقه إيران. تحوزُ هذه الدول على بعضٍ من أكثر الأسلحة تطوّرًا بإمكانها أن تقتنيها، بما فيها دبابات المعارك أدامز وطائرات أف 15 المقاتلة، كما تمتلكُ إسرائيل أسلحةً نوويةً أيضًا. إذا ما قامت إيران في حالةٍ غيرَ مرجّحةٍ بمهاجمتهم، فبإمكان هذه الدول أن تعتمدَ على الدعمِ القائم من الولايات المتحدة، ونظرًا لكلّ هذه القوى الكبيرة المُصطفة ضدّ إيران، فإنّ الإدّعاء بأنّ إيران تُعتبر مهيمنًا إقليميًا لهو ادّعاءٌ يتحدّى منطقَ العقل.

حينما يواجهون هذه الحقائق، فإنّ أعداءَ إيران يحذرون من استخدامها لوكلائها المحلّلين لنشر نفوذها والاستيلاء على المنطقة. لا يوجد شكّ في أنّ إيران تُدعّمُ عددا من الفواعل المحليّة في السنوات الأخيرة بما فيها حزب الله اللبناني، الرئيس السوري بشار الأسد، عددٌ من المقاتلين في العراق، وبدرجةٍ أقلّ الحوثيين في اليمن. فقد أدّت هذه الحركات إلى تعزيز قوة إيران بشكلٍ هامشيٍ لكن في أغلب الأحوال بسبب تمكنّها من الاستفادة من الأخطاءِ الفادحة لخصومها، على غرار قرار إدارة جورج دبليو بوش بإسقاط صدام حسين، إلاّ أنّ هذه الاستفادة لا تزالُ تُبقِي إيران بعيدةً أكثر عن الهيمنة الإقليمية.

لا تُسيطرُ إيران على هذه الجماعات أكثرَ من سيطرة الولايات المتحدة على وكلائها الشرق أوسطيين. لكلٍّ من هذه الفواعل مصالحهم الخاصة، كما لن يتّبِع حلفاء طهران الحاليين أوامرها إذا ما كان ذلك يؤدّي إلى تعريضِ مكانتهم للخطر. إنّ النظر إلى هذا التعاون على اعتبار أنّه إمبراطوريةٌ فارسيةٌ جديدة، مثلما يفعل كلٌّ من هينري كيسنجر وماكس بوت بشكلٍ واضحٍ، لهو أمرٌ مثيرٌ للضحك حقًّا.

علاوةً على ذلك، فقد عانى كثيرٌ من شركاء إيران الأساسيون في الأعوام الأخيرة من نكساتٍ كبيرةٍ بشكلٍ أجبر إيران على إنفاق مواردٍ إضافيةٍ لأجل مساندتهم. على سبيل المثال، فقد ساعد دعمُ الحرس الثوري الإسلامي بقاء الأسد في السلطة، إلاّ أنّ سوريا الآن صارت دولةً محطّمةً، وبالتالي أقلَّ بكثيرٍ من كونها حليفًا –قويّا- لإيران. وبعيدًا عن محاولةِ خلق إمبراطوريةٍ إيرانيةٍ مترامية القوة بشكلٍ متزايدٍ، فإنّ دعمَ إيران لهذه الجماعات المتعدّدة قد جنى على خزينتها وجرّ كلاًّ من إسرائيل وعرب الخليج إلى إصطفافٍ ضمنيٍ، وبالتالي تقويض مكانتها بشكل عام.

تتجاهلُ أيضا الآراء المتخوّفة من طموحات إيران العقبات الأساسية الأخرى التّي يمكنُ أن يواجهها البلدُ إذا ما سعى إلى الهيمنة على المنطقة. غالبيةُ سكانِ إيران هُم شيعة، إلاّ أنّ المسلمين السنّة أكثرُ عددًا ويسيطرون على بقية البلدان المهمّة في المنطقة. يُعمّق اختيار القتال ضدّ البلدان ذاتِ الأغلبية السنيّة من الانقسام بين الفرعين الأساسيين للإسلام، ويُصعّب ذلك على إيران الفوز بتحصيلِ نفوذٍ عند جيرانها. تُعدُّ إيران أيضا فارسيةَ العرقِ في الأغلب، لا عربيةً، ولا يوجدُ أيّ بلدٍ عربيٍ سوف يؤيّدُ السُلطانَ الفارسيَّ على المنطقة.

يتذّكرُ كلٌّ من صقور إيران والجنرالات المتواجدين في الدائرة الداخلية لترامب، دور المتمردين المدعومين من إيران في مقتل الجنود الأمريكيين في العراق. غضبهمُ هذا غضبٌ مفهوم، لكن سلوك إيران كان مفهومًا أيضًا. فعلى مدى أكثر من 20 سنة ماضية، استمرت واشنطن في فرض عقوبات اقتصادية على إيران ومهاجمتها بأسلحةٍ سيبرناتيكية وتأسيسها لجماعاتٍ معارضةٍ للنظام، فحينما أسقطت الولايات المتحدة صدّام سنة 2003، أوضح المحافظون الجدد داخل وخارج إدارة بوش بأنّ آيات الله سوف يكونون على القائمة التالية لضرباتهم. تحت هذه الظروف، كان على إيران أن تقوم بما في وُسعها لإحباط هذا الهدف. هل توقعنا حقّا بأن يجلس قادة إيران مكتوفي الأيدي في الوقت الذّي يستعد أقوى بلدٍ في العالم للإطاحة بهم؟

لحسنِ الحظّ، لا توجد دولةٌ داخل أو خارج الشرق الأوسط كانت –أو تُعدُّ اليوم- في موضعٍ ومكانةٍ تخوّلها إمكانية السيطرة عليه. كنتيجة لذلك، لا يتعيّنُ على الولايات المتحدة أن تقوم بالكثير حتّى تحافظ على توازن القوى الإقليمي. وبدلاً من إعطاء السعودية وإسرائيل شِيكًا على بياضٍ لمواجهة بعض من الهيمنة الإيرانية الأسطورية، ينبغي على واشنطن بأن تسعى لموازنة العلاقات أكثر مع جميع الدول في المنطقة بما فيها إيران.

سوف تُسهّلُ هذه المقاربة الأكثرُ إعتدالاً مسألة التعاون في القضايا التّي تصطفُ فيها المصالح الأمريكية والإيرانية جنبًا إلى جنب على غرار أفغانستان. سوف تمنحُ آفاقُ وجودِ علاقاتٍ أحسنَ مع الولايات المتحدة لإيران حافزًا لجعل سلوكها أكثر اعتدالاً. بدلاً من ذلك، فقد شجّعت الجهود السابقة لعزل نظام الملالي الولايات المتحدة على لعب دورٍ سلبيٍ مع بعض درجات النجاح.

سوف تُثبّط هذه المقاربة أيضًا حلفاء أمريكا الحاليين من الإستفادة من دعم الولايات المتحدة لمنحهم وتشجيعهم على بذل المزيد من الجهود للمحافظة على مصالحها. سوف يحتّجُ حلفاءُ أمريكا الإقليميين الراهنين (ولوبياتهم الداخلية) بشكلٍ مؤكّدٍ وشديدٍ إذا ما توقّفت واشنطن عن دعمهم إلى أقصى درجة أو سعت حتّى نحو انفراجٍ معتدلٍ مع إيران. لكن في نهاية المطاف، هذه مشكلتهم وليست مشكلةَ أمريكا. يُشجّعُ التأييد الأمريكيُ الحصريُ الحلفاءَ على التصرّفِ بتهوّرٍ، مثلما فعلت إسرائيل حينما وسّعت مستوطناتها غير الشرعية أو مثلما فعلت السعودية أثناء حملتها العسكرية على اليمن، وفي خصامها الدبلوماسي مع قطر أو أثناء محاولتها الفاشلة لإعادة تشكيل الوضع السياسي داخل لبنان. لكن، إذا ما فَهِم حلفاء الولايات المتحدة بأنّ واشنطن كانت تتحدّث مع الكلّ، فسوف يصير لهم سببٌ أكبرٌ للإستماع لنصيحة أمريكا خشيةَ من أن تُقلّصَ دعمها وتتوجّه للبحث –عن حلفاء- في أماكن أخرى. إنّ امتلاك العديد من الخيارات يُعدُّ المصدرَ الأساسيَ للنفوذ.

لا تتطلّبُ لعبةُ سياسة توازن القوى في الشرق الأوسط من واشنطن أن تتخلّى عن حلفاءها الحاليين بشكلٍ كاملٍ أو أن تميل نحو إيران. بدلاًَ من ذلك، فإنّها تعني استخدام القوة الأمريكية للمحافظة على توازنٍ صلبٍ وتثبيط الجهود العلنية لقلب الوضع القائم ومنعِ أيِّ دولةٍ من أن تهيمن على المنطقة في الوقت الذّي تعمل على مساعدة القوى المحليّة لتسوية خلافاتها. بهذه الطريقة، فإنّ التخفيض من درجة التوتر أمرٌ من شأنه أن يحمي منافذَ الوصولِ إلى النفط ويحدُّ من رغبة –الفواعل- في المنطقة لأجل تحصيل أسلحةِ الدمار الشامل، كما يمنح هذه الدول سببًا أقلّ لتمويل المتطرفين وغيرهم من الوكلاء.

خُلاصة القولِ، فإنّ الحملةَ الشاملة لمواجهة إيران المهيمنة أمرٌ غيرُ ضروريٍ. لسوءِ الحظِّ، هناك سببٌ ضئيلٌ للتفكير في أن تُدرك إدارةُ ترامب هذا الأمر وأن تتبنّى المسارَ المعقول المذكور هنا. إذا لم تفعل ذلك، فسوف تكون سياسةُ ترامب الشرق أوسطية ناجحةً بقدر نجاح إستراتيجية بيل كلينتون، جورج دبليو بوش وباراك أوباما، الأمرُ الذّي يعني بأنّها سوف تكون فشلاً مُكلفًا آخر.

المصدر: فورين بوليسي

الكاتب: ستيفن والت، أستاذ الشؤون الدولية بمدرسة جون كيندي التابعة لجامعة هارفرد الأمريكية، من أشهر كتبه كتاب: “أصول الأحلاف” 1987، “الثورة والحرب” 1996، “ترويض القوة الأمريكية: الإستجابة الكونية للريادة الأمريكية” 2005، “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية” مع البروفيسور جون ميرشايمر سنة 2007. يُعتبر البروفيسور تسيفن والت من أشهر المنظرّين الأمريكيين المعاصرين في السياسة الدولية ورائد تيار الواقعية الكلاسيكية الجديدة في شقّها الدفاعي.

الرابط:  https://goo.gl/dPctGF

________________________

*جلال خشيب: باحث في مركز إدراك للدراسات والاستشارات – إسطنبول-تركيا، شارك في عدد من المؤتمرات العلمية الدولية، وله العديد من الكتب، المقالات، الترجمات والدراسات الأكاديمية المنشورة.

ضع تعليقاَ