مارس 28, 2024

اتلانتك: الجواسيس المغرمون ببوتين

كيف ساهم ولاء جهاز الأمن القومي الروسي لبوتين في جعله أقوى جهاز استخباراتي في الدولة

من المثير للغاية النظر في كتيب ودليل إرشادات عمل الاتحاد السوفيتي لشرح جرأة نشاط المخابرات الروسية هذه الأيام، بدءً من تدخلها في الانتخابات الأمريكية وصولاً إلى استهدافها جميع معارضي الكرملين خارج روسيا. ومع ذلك، لا يمكن اعتبار هذه الانشطة أنها منتجات للطرق القديمة او للجغرافيا السياسية الجديدة لروسيا، بل إنها تنبع أيضاً وبشكل مركزي من تحول في أنشطة الشرطة السياسية الروسية ودائرة الأمن الفيدرالية سيئة السمعة (FSB). وأنشئت دائرة الأمن الفيدرالي لحماية حكم الكرملين في روسيا، ونقلت عملياتها إلى الخارج على نحو متزايد. وضمت على نحو متزايد مجموعة جديدة من رجال الشرطة السرية الذين يجهلون تقاليد “سباي كرافت” والمتخصصين في حماية بوتين وهو ما أدى إلى تغيير طبيعة المخابرات الروسية بشكل جذري.

ويتهم (FSB) أيضاً بالوقوف وراء التسريبات التي استهدفت حملة هيلاري كلنتون الانتخابية، بالإضافة إلى دعم الأحزاب المتطرفة في أوروبا وإثار استياء الأقليات الناطقة بالروسية في مناطق بحر البلطيق، علاوة على فقد اتهم الجهاز بالوقوف وراء قتل زعماء المعارضة الشيشانية المتواجدين في تركيا والنمسا ونشر معلومات مضللة واختطاف ضابط أمن استوني على الحدود عام 2014. ووفقاً للمعلومات التي نشرها (Buzzfeed) في 10 يناير الحالي – لم يتسن التأكد من صحتها-  فإن دائرة الأمن الفيدرالي تقف وراء جمع معلومات فاضحة بشأن ترامب بهدف تحويله إلى دمية بيد بوتين، ولمزيد من الفهم فإن على المرء العودة إلى الحقبة السوفيتية لفهم هذه المجموعة الغنية من المغامرات السرية التي تقوم بها وحدات الأمن الروسية في الخارج.

ويبدو أن بوتين – من غير قصد – قد أطلق العنان لوحش ضار عبر السماح لدائرة الأمن الفيدرالي بالانتقال للعمل في مجال الاستخبارات الأجنبية والعمليات السرية. ولعبت هذه الدائرة دوراً مركزياً في العديد من التطورات الراهنة ليس لامتلاكها قدرات فنية أكبر من باقي الأجهزة الأمنية الروسية، بل لأنها لا تعترف او تحترم أي قيود قد تلتزم بها باقي أجهزة الأمن الروسية. وبشكل واضح، تقدم دائرة الأمن على تنفيذ مخططات تحتوي على مخاطرة كبيرة جداً وقد تساهم في إحداث التهابات سياسية ضخمة او قد تمتلك نتائج عكسية على روسيا.

ويمثل FSB أحدث امتداد لجهاز الكي جي بي السوفياتي السابق. ففي واحدة من موروثاته السامة تجاهل الرئيس الروسي السابق “بوريس يلتسين” الدعوات إلى حل هذه المؤسسة التي ظهرت على أنها غير قابلة للإصلاح وإعادة بنائها من الصفر. ولكنه بدلاً من ذلك، أشار في عام 1991 إلى جنوحه إلى خيار تقسيم كي جي بي. وتم تحويل أول مؤسساته الإدارية والتي كانت مسؤولة عن التجسس إلى جهاز الاستخبارات الخارجي (SVR) فيما تم جمع جميع الأجهزة المتخصصة بالأمن الداخلي معاً تحت مظلة وزارة الأمن ثم دائرة مكافحة التجسس الاتحادية وفي عام 1995 انتقلت جميعها للعمل ضمن FSB.

ومنذ ذلك الحين لم ينظر جهاز الأمن الفيدرالي إلى الوراء، خاصة بعد العام 1998 عندما رأسه لفترة وجيزة ضابط الكي جي بي السابق المعروف – والذي كان على وشك خوض تجربة غير متوقعة أبداً –  فلاديمير بوتين. وخلال السنوات اللاحقة، كان جهاز FSB واحداً من أبرز حلفاء بوتين، حيث ساهم في مطاردة وتشويه سمعة منافسيه، والبحث عن موظفين للعمل في إدارة بوتين وتضييق الخناق على أي موجات من الاحتجاج الشعبي. في المقابل، وفر بوتين الحماية والتمكين للجهاز وغض النظر عن أي حالة فساد داخل صفوفه وسمح له بتجاوز وكالات بارزة في روسيا مثل دائرة مكافحة المخدرات الاتحادية (وهو ما يعادل دائرة مكافحة المخدرات الامريكية – DEA- وألغيت عام 2016) وسلم موظفي الدائرة المناصب الرئيسية في روسيا.

تقليدياً، تمكن بوتين من السيطرة على روسيا البيروقراطية المترامية الأطراف من خلال خلق وكالات متعددة ومتداخلة والتي سيحولها للعمل ضد بعضها البعض لاحقاً. وبرز الأمر بشكل خاص من خلال مجمع الاستخبارات. ففي أوكرانيا على سبيل المثال، تنافست أجهزة SVR و FSB و GRU ووكالة الاستخبارات العسكرية خلال جميع العمليات الميدانية على الأرض. وعندما أسقط الرئيس الأوكراني السابق “فيكتور يانوكوفيتش” عبر ثورة “الميدان الأوروبي” عام 2014، واصطيدت موسكو حينها على حين غزة كانت النتيجة حينها لعبة متسارعة بين الأطراف الروسية في أوكرانيا. فقد كانت وكالة FSB صاحبة الارتباط الأكبر بيانوكوفيتش حينها، وجادلت بشدة حول قدرته على الصمود في الحكم وفي ظل تمتع الجهاز بدعم بوتين تحمل جهاز SVR اللوم على الفشل الاستخباراتي الواقع هناك.

وكان من أبرز نتائج التنافس بين أجهزة المخابرات الروسية في نفس الميدان زيادة قدرة FSB على تنفيذ العمليات الخارجية. ففي عام 2003، تمكنت الوكالة (FSB) من السيطرة على معظم القدرات الالكترونية الخاصة بالتجسس والتنصت من وكالة FABSI – وكالة الأمن القومي الروسية. وفي عام 2005 بدأت في العمل داخل الدول المجاورة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وفي عام 2006 مررت روسيا قانوناً يسمح باستخدام القوة العسكرية “لقمع النشاط الإرهابي خارج دول الاتحاد الروسي” وهو ما حدث تماماً قبل قتل المنشق الكسندر ليتفينيكو في لندن حينها.

وفي الوقت الذي صعدت فيه مكانة FSB، شهد منافسوا هذه الدائرة سقوطاً حاداً. فبحلول أواخر الألفينات وصل حالة جهاز GRU إلى حالة شديدة من التراجع والعار بسبب الأخطاء التي حدثت في حرب جورجيا عام 2008 والتي أدت إلى استهداف بعض المطارات المهجورة بعمليات القصف وحصول حالات من الالتفاف على القوات الروسية. وشعر بوتين في الوقت نفسه أن جهاز SVR عانى من التحفظ الشديد وقلة القدرة على جمع المعلومات بنفسه – وهو العمل الاعتيادي المناط به بكل بساطة. وفشل الجهاز (SVR) في تقديم واشنطن على أنها عدوانية كما يعتقد بوتين. فقد آمن بوتين بشكل متزايد أن الولايات المتحدة تميل إلى عزل روسيا وحرمانها من الوصول الى مرتبة القوة العظمى التي تستحقها. ورأى بوتين أيضاً أن “الثورات الملونة” على سبيل المثال، كانت مؤامرة لإسقاط الحكومات الصديقة لموسكو (جورجيا عام 2003 وأوكرانيا عام 2004 وقيرغيزستان عام 2005) هذا بالإضافة إلى النظر إلى تشكيل حلف الناتو وتدخله في ليبيا عام 2011 على أن واشنطن ما تزال ملتزمة بتغيير الأنظمة المعادية لها. وكلما رأى بوتين تهديد الغرب له، كلما كان يشعر بحاجته إلى الأجهزة العاملة معه لجمع المعلومات وخدمة طموحاته ونشاطاته الجيوسياسية. ويبدو أن هذا المنظور قد تبلور أثناء الفترة الوجيزة التي قضاها كرئيس للوزراء بين أعوام 2008 و2012.

سارع جهاز FSB إلى ملء الفجوة التي شكلها تراجع أجهزة GRU و SVR، وفجأة بدأ FSB في إطلاع بوتين على ملخص السياسة الخارجية متفوقاً على عمل SVR التقليدي لوزارة الخارجية الروسية. ضغط FSB بقوة ونجح في التكتل بقوة وراء بعض العمليات السياسية ثم ساهم لأول مرة في أوروبا في تحويل الموارد نحو الأحزاب الشعبوية والجماعات الانفصالية ووصل أخيراً إلى اختراق أجهزة الكمبيوتر التابعة للجنة الوطنية للحزب الجمهوري الأمريكي. وعندما ظهرت للعلن محادثة طائشة بين مساعدة وزير الخارجية الأمريكي “فيكتوريا نولاند” والسفير الأمريكي في أوكرانيا “جيفري بيات” عام 2014، كان من شبه المؤكد أن من قام بتسريبها واعتراضها هو جهاز FSB.

وفي الواقع تمكن جهاز الأمن الفيدرالي من القيام بكل هذا لأنه حظي بثقة بوتين في المقام الأول، وأدرك أن بوتين يريد أن يسمع من جواسيسه ما يريد ان يسمعه. وكما قال أحد ضباط جهاز SVR لكاتب المقالة ” لقد كنا مخطئين عندما واصلنا الحديث عن العالم كما كنا في السابق، وليس كما يريد بوتين له أن يكون”. وهكذا تمكن ضباط FSB من الوصول إلى منازل مرموقة في العمل عبر الكثير من الإطراء والنجاح في عمليات التلاعب بالانتخابات والتودد للناخبين والضغط على السياسيين في جميع أنحاء الغرب.

وهكذا لم يعمل جواسيس جهاز الأمن الفيدرالي تحت مسى مختلف فحسب، بل إن معظمهم لم يكن يعرف أو يحترم آداب حرب الظلال. وخلفيات عملهم في الشرطة السرية داخل الدول الاستبدادية جعلهم متخصصين في البلطجة والاستبداد والإفساد والقتل. هذا عدا عن عملهم في ظل قيود أقل بكثير من نظرائهم في أجهزة المخابرات التقليدية. وطالما أن هذه الأجهزة ما تزال تعمل في صالح بوتين فإنها – حرفياً- تنجو من عواقب القتل. وحتى في ظل وجود وزير الخارجية الروسي القوي – سيرخي لافروف- فإن عمله يقتصر على تنظيف عبث الجواسيس عوضاً عن تحديهم ومحاولة إيقاف مسارهم.

هذا كله ساهم في اتخاذ العمل الاستخباراتي الروسي منعطفاً جديداً ووقحاً تحت رئاسة فريق FSB. فهم كانوا وراء عملية اختطاف ضابط الأمن الاستوني “كوهفر” عبد الحدود عام 2014 وفقاً للمصادر في موسكو، وكانوا وراء تسريب المحادثات بين السفير الأمريكي في أوكرانيا وسكرتيرة وزير الخارجية الأمريكي عام 2014 على الرغم من أن جهاز GRU هو من تمكن من جمع الرسائل بداية. وهم كذلك متخصصون في دعم وتمويل المتطرفين والانقسامات والقادة الشعبويين في مختلف أنحاء أوروبا. هذا على الرغم من حقيقة أن أجهزة SVR و GRU تملك المزيد من الخبرة في العمل الاستخباراتي الخارجي.

وهنا يظهر أن أعظم مصادر قوة FSB كان الاستعداد الكبير لاغتنام الفرص. وفي هذا المضمار تحديداً فإن الجهاز يعكس حقيقة بوتين نفسه، الذي لعب تقنية اليد الضعيفة بذكاء شديد – على الأقل في الفترة فيما قبل قدوم ترامب إلى حكم الولايات المتحدة-  وكان غير متوقع أبداً في التصرف ولا يمكن التنبؤ بطبيعة مواجهته أكثر من أي طرف آخر.

وكيف سيكون العمل هنا على المدى الطويل؟ عندما اختطف جهاز FSB الضابط كوهفر نجح في لفت الانتباه إلى هذه القضية التي سعى أكثر من غيره للمحافظة على سريتها: حيث تكشفت الروابط الخفية التي تربط الجهاز مع الجريمة المنظمة والتي أصبحت لاحقاً محور للمزيد من التحقيقات المكثفة في استونيا وأوروبا ككل. وعلى سبيل المثال، يقول أحد ضباط مكافحة التجسس الايطاليين الذي عمل لسنوات للتحذير من هذه المشكلة أنه تحصل في غضون أشهر قليلة على الضوء الأخضر لفتح تحقيقات جديدة بشأن الفساد في صفوف مسؤولي الأمن الروسي.

وبالمثل، تبدو قدرة الوكالة على قرصنة تفاصيل السياسة الغربية فعالة بشكل مثير للقلق، وهي في ذات الوقت تثير رد فعل عنيف في الغرب ضد التدخل والتضليل الروسي. فقد انتشرت التحذيرات على جانبي المحيط الأطلسي ورفعت أجهزة الأمن الألمانية والفرنسية من استعداداتها وتحذيراتها للتعامل مع الانتخابات القادمة في كلا البلدين. وبنفس درجة الخطورة فقد اتبعت باقي أجهزة الاستخبارات الروسية خطى FSB أملاً في الحصول على دعم بوتين والتملق له.

وكنتيجة لذلك، أصبح الرجل الذي يقرر الاستراتيجية الروسية ينعم في شبكة واسعة أكثر من أي وقت مضى في وسط أنصاف الحقائق والتفسيرات المشكوك بها والتفاؤل المثير للسخرية والتي قد تجعله عرضة للمغامرات الخطرة التي قد تجعله عرضة لمغامرات أكثر خطورة كالانخراط في المستنقع السوري أو غزو أوكرانيا على نطاق واسع او الدخول في صراع مباشر مع حلف شمال الأطلسي او الصين. وعلى المدى البعيد، قد يشكل جهاز FSB خطراً على بوتين بقدر ما يشكل خطراً على الغرب الآن.

ضع تعليقاَ