مارس 28, 2024

جورج فريدمان: عقيدة ترامب

يعلن الرؤساء عن عقيدة خاصة بهم في إطار سياستهم الخارجية. وفي أحيان أخرى، يلاحظ المراقبون نمطًا معينا في السياسة الخارجية للرئيس

بقلم : جورج فريدمان     |    ترجمة: سحقي سمر

هذه المادة مترجمة عن موقع Geopolitical Futures

العقيدة هي الكيفية التي يكون فيها الرئيس مُلزما بالعمل في السياسة الخارجية في إطار الواقع الذي يجد نفسه فيه. ففي بعض الأحيان، يعلن الرؤساء عن عقيدة خاصة بهم في إطار سياستهم الخارجية. وفي أحيان أخرى، يلاحظ المراقبون نمطًا معينا في السياسة الخارجية للرئيس، وبالتالي يحددون العقيدة الخاصة به. وفي كلتا الحالتين يجب أن لا ينظر إلى العقائد على أنها ضربات عبقرية أو قرارات تتخذ بإرادة الرئيس ، وإنما هي إجراءات مفروضة عليه ويمليها الواقع.

لقد تم تحديد عقيدة ترومان في عام 1948 بالنظر إلى التهديد السوفييتي لتركيا واليونان، وعليه أعلن الرئيس هاري ترومان أنه كان ملتزمًا بدعم الدول الحرة ضد الشيوعية كمبدأ عام. فلم تستطع الولايات المتحدة قبول أوروبا تحت هيمنة السوفييت بسبب التهديد طويل الأمد الذي ستشكله هذه الهيمنة. فقد كانت الولايات المتحدة تفتقر إلى القدرة على شن حرب تقليدية ضد السوفييت، لذلك اضطرت إلى وضع استراتيجية احتواء. وبالتالي كانت تركيا على وجه الخصوص ذات أهمية بالغة في إطار هذه الاستراتيجية حيث أن البوسفور يسد على السوفييت الطريق للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. لذلك اضطرت الولايات المتحدة إلى الدفاع عن تركيا والموانئ اليونانية. وهنا فقد تم تحديد عقيدة ترومان بحكم الضرورة.

فيما تأسست عقيدة الرئيس ريتشارد نيكسون في عام 1969 ، عندما أعلن أن الولايات المتحدة ستقدم الدعم والحماية لحلفائها، لكن هؤلاء الحلفاء يجب أن يعتمدوا في المقام الأول على مواردهم الخاصة من أجل أمنهم. وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة أخفقت في الفيتنام آنذاك، فإن توافر القوات الأمريكية للدفاع عن الحلفاء -باستثناء الظروف القصوى -كان محدودا.

لم يحدد باراك أوباما عقيدته بنفسه، لكن المراقبين استخلصوا من تصرفاته سياسة متماسكة لتقليص التورط العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط وتقليل العداء بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي. فلم تكن الولايات المتحدة ناجحة عسكرياً في حروبها في العالم الإسلامي، وعليه بدا أن الحد من طموحات الولايات المتحدة هناك أمر ضروري.

جميع العقائد الرئاسية تمثل نهاية ثابتة تفرضها الضرورة. لكن هذا لا يعني أن الرئيس سيكون قادراً على تنفيذ العقيدة بنجاح. فبالنسبة لترومان فإنه نجح في ذلك، في حين أن نيكسون لم يختبر حدود عقيدته وآفاقها في أوروبا وشرق آسيا. أما عقيدة أوباما فقد واجهت كلّاً من الاحتكاك والجمود في الحروب عندما تم إطلاقها. كما أن بعض العقائد تُنتقد في الداخل والخارج. فقد كان ينظر إلى عقيدة ترومان على الصعيد المحلي على أنها تحمل الكثير من المسؤولية لتحقيق أمن الحلفاء، أما في الخارج فاعتبرت كإجراء إمبريالي أميركي. في حين تم انتقاد نيكسون لفرضه وعداً من جانب البعض، ومحاولة إخفاء حقيقة أنه كان يدمر الفيتنام من قبل الآخرين. وانتقدت سياسة أوباما الخارجية في الولايات المتحدة باعتبارها استسلامًا للعالم الإسلامي وللقوى الأجنبية باعتبارها دولة تفتقر إلى العلمانية وتفتقر إلى استراتيجية خاصة بالحلفاء الأساسيين.

في حين يتم تحديد العقائد حسب الضرورة الخارجية، هذا لا يعني أن جميع الإجراءات الرئاسية مدفوعة فقط بالظروف. فهناك درجة من العشوائية في جميع الإجراءات، وليس فقط تلك التي يتخذها الرئيس. ومع ذلك، فإن هذا يعني أن الدافع الرئيسي لسياسات الرئيس يتم تحديدها بالظروف التي يجد نفسه فيها، وكلما كان الإجراء أقل أهمية، كلما كان من المرجح أن يكون الرئيس غير مقيد.

من هذا المنطلق، أود أن أعتبر أن أجندة ترامب للسياسة الخارجية يمكن أن تلخص كسياسة تشتيت للمواقف التي قد تتطلب تصرفات عسكرية وبدلاً من ذلك فإنه يتجه إلى الدخول في سياسة اقتصادية هجومية مع تجاهل الآراء الخارجية بأوسع معانيها.

ومثل باقي عقائد الرؤساء السابقين، فقد تم توجيه ترامب بما تواجهه الولايات المتحدة في الوقت الحالي. فلدى الولايات المتحدة قوات منتشرة على نطاق واسع تشارك في القتال في الشرق الأوسط وأخرى قد تم نشرها في بولندا ورومانيا لمواجهة التحركات الروسية المحتملة. كما تشارك البحرية الأمريكية في عمليات غير قتالية في بحر الصين الجنوبي. وتبقى القوات الأمريكية في وضع يمكنها من ضرب كوريا الشمالية إذا لزم الأمر. وبالتالي، فإن القدرات العسكرية للولايات المتحدة محدودة للغاية، ومنتشرة على مساحة واسعة من الأراضي، وهذا ما يخلق مشكلة. فلا يمكن للولايات المتحدة الاستمرار في القتال المكثف في جميع هذه المسارح في وقت واحد. إن اندلاع حرب في أي مسرح سيقلل من قدرة الولايات المتحدة في مسرح آخر، مما يزيد من احتمال استفادة قوة أخرى من هذا الضعف. ونظراً لتعدد حالات القتال المحتملة، وتشتت القوى على نطاق واسع، فإن تجنب القتال أمر ضروري.

لذا فإن الاستجابة الفعالة الوحيدة لهذه الأزمات هي الدبلوماسية. فبالنظر لأزمة كوريا الشمالية كان بوسع الولايات المتحدة أن ترد على تطوير بيونغ يونغ للأسلحة النووية من خلال ثلاث طرق: إطلاق حرب، قبول الموقف بشكل سلبي أو التفاوض. اختار ترامب الخيار الوحيد الذي يمكنه فعله، وهو محاولة الوصول إلى نوع من التفاهم مع كوريا الشمالية. أما فيما يتعلق بروسيا، كان لدى ترامب قائمة مماثلة من الخيارات: العدوانية، السلبية أو الدبلوماسية. لكن نظراً لتورط روسيا في سوريا، وهي منطقة تنخرط فيها الولايات المتحدة، فضلاً عن التهديد المحتمل لأوروبا الشرقية والقوقاز، كان على ترامب أن يسلك الطريق الدبلوماسي، وهو ما يفسر سبب اجتماعه مع الرئيس فلاديمير بوتين الأسبوع المقبل.

في هذه المرحلة، يعتبر الذهاب إلى الحرب خيارًا خطيرًا بالنسبة للولايات المتحدة كون التهديد الصريح غير مقبول أيضًا، لأن نوايا خصومه لا يمكن التنبؤ بها إلى حد ما. الحل هو الحفاظ على الوجود الأمريكي وتجنب القتال من خلال الانخراط في مفاوضات موسعة قد تؤدي إلى شيء أو لا شيء، لكن ذلك من شأنه أن يقلل من التهديد العسكري.

على الصعيد الاقتصادي والتجاري، فإنه يمثل وضعا مختلفا تمامًا. فبالنسبة للولايات المتحدة، تمثل الصادرات نسبة مئوية صغيرة نسبيًا من إجمالي الناتج المحلي. ورغم أن هناك بعض القطاعات التي تعتمد على التجارة أكثر من غيرها، إلا أن اقتصاد الولايات المتحدة لا يعتمد بشكل كبير على الصادرات. في حين تعتمد بلدان أخرى اعتمادًا كبيرًا على الصادرات. وبالتالي لا يرى ترامب في نظام التجارة الحرة الذي نشأ منذ الحرب العالمية الثانية ميزة للولايات المتحدة. كما أن هذا النظام مقيد بمصالح دائرته الأساسية، التي صوتت له جزئياً في مقابل وعده بالتشديد في التجارة. وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة مقيدة عسكريًا في هذه المرحلة، فإن الأدوات الاقتصادية يمكن أن تساعد في تشكيل العلاقات مع القوى المناوئة مثل الصين .

وبطبيعة الحال، أدت سياسة تطبيق الضغط الاقتصادي إلى تفاقم التوترات مع البلدان الأخرى وتسبب ذلك في تدهور سمعة الولايات المتحدة في الخارج. هذا الأمر ليس جديدا فمنذ حرب الفيتنام إلى الحرب العالمية الثانية تمت إدانة الولايات المتحدة بمجموعة من السياسات. لكن ليس من الواضح أن الرأي العام العالمي له أي تأثير دائم. لذلك، اختار ترامب أن يكون غير مبالٍ بالرأي العام العالمي، والذي قد يكون مجرد تفضيل شخصي له. ولكن إذا كان يحاول الحد من الضغط العسكري من خلال ممارسة الضغوط الاقتصادية ، فيجب أن يتوقع أن تصرفاته ستثير العداء على الأقل بنفس القدر الذي كانت فيه الأعمال العسكرية في الماضي.

لا يجب أن تعمل العقيدة لتكون مجرد عقيدة. كما لا يجب على الرئيس أن يكون على دراية باتساق ومنطق موقفه. فقد تكون سياساته مدفوعة باستراتيجية معينة، لكن الحاجة إلى تلك الاستراتيجية تكون مستمدة من الواقع. فعندما تولى ترامب منصبه، من المحتمل أنه لم يتوقع أنه سيزور كيم جونغ أون في أقل من عام على رئاسته. لكن الأحداث أجبرته على ذلك. ربما أراد ترامب فرض تعريفات جمركية على الصين حتى قبل توليه منصبه. لكن انتهى به الأمر بسبب الحقيقة التي قُدمت إليه. سواء كان أو لم يكن أي من هذه الأعمال الفردية قد خطط لها الرئيس نفسه، فهناك منطق في تعامل ترامب مع السياسة الخارجية.

لكن هذا الأمر ليس مختلفًا تمامًا عن باقي الرؤساء أو قادة العالم. فهم يدخلون إلى المكتب بسياسات هي مجرد أشياء يرغبون في القيام بها. ثم يصطدمون بالواقع فيتم تجاهل هذه السياسات ويبدأ التصرف تكتيكيا. وبما أن العالم مترابط، فإن الإجراءات في الوقت المناسب تأخذ طابعا متشابكا أيضًا. من خلال هذه الحقيقة ظهر مايعرف بالعقيدة. وفي حالة ترامب، ينطوي ذلك المبدأ على تقليل المخاطر العسكرية، واستخدام الاقتصاد كرافعة وتجاهل آراء الحكومات الأجنبية والجمهور العالمي. وعليه يمكن للرئيس أن يتفاعل فقط مع الوضع التي يواجهها ومن هنا يتم تأسيس عقيدته الخاصة.

ضع تعليقاَ