مارس 28, 2024

محددات السياسة الخارجية التركية إزاء العراق

Iraqi Government Demand Turkey Withdraw Form Northern Iraq

سعيد الحاج

لا يمكن الحديث عن مستقبل العراق بدون التطرق للموقف التركي من مختلف التطورات فيه، سيما العلاقة بين إقليم شمال العراق والحكومة المركزية ومواجهة تنظيم الدولة – داعش ووحدة الأراضي العراقية في ظل سيناريوهات التقسيم الطروحة، فتركيا ليست فقط دولة جارة وقوية للعراق، وإنما أيضاً دولة كان لها دائماً تفاعل مؤثر في الملف العراقي إيجاباً وسلباً بهذه الدرجة أو تلك، فضلاً عن المصالح التركية المتعددة في العراق وفي مقدمتها أمن الطاقة ومكافحة حزب العمال الكردستاني.

تبحث هذه الورقة في أهمية العراق بالنسبة لتركيا كدولة جارة تتفاعل فيها معظم الملفات الإقليمية الساخنة من سيناريوهات التجزئة إلى ملف تنظيم الدولة ومواجهته إلى أمن الطاقة إلى الاحتقان الطائفي، وتمر على أهم مراحل العلاقات التركية – العراقية، في محاولة لتحرير أبرز السياقات المحددة لأطر السياسة الخارجية التركية إزاء العراق بما يساعد على استشراف أهم السيناريوهات المستقبلية الممكنة، بعرض يبتعد قليلاً عن التفاصيل الآنية والأحداث اليومية ويقترب من رسم خطوط عامة لسياسة أنقرة الخارجية تجاه بغداد (وأربيل) وممكنات الموقف التركي إزاء أي سيناريوهات مستقبلية مفترضة.

IdrakLogoFull720x720

استهلال

اتسمت العلاقات التركية – العراقية في معظمها بالتوتر وعدم التوافق، بدءاً من فترة الحرب الباردة التي تواجد الطرفان خلالها في المحورين المتواجهين، مروراً بفترة ما بعد نهاية الحرب الباردة التي استهلت بحرب الخليج الثانية ومشاركة تركيا فيها بفعالية وتميزت بتصاعد هجمات حزب العمال الكردستاني على الأراضي التركية انطلاقاً من شمال العراق، ثم مراحل تشكل إقليم شمال (كردستان) العراق على مدى سنوات طويلة تطوت معها المقاربة التركية إزاءه، وصولاً للوضع الحالي الذي يقف فيه الجانبان على طرفي نقيض من التطورات الإقليمية سيما فيما يتعلق بالأزمة السورية وسبل حلها مع تعقيدات كثيرة في مقدمتها معسكرات العمال الكردستاني في جبال قنديل وملف مكافحة تنظيم الدولة.

بيد، رغم هذا التاريخ الحافل بالاختلافات والتوترات، تجمع البلدين مصالح مشتركة لا يمكن الاستهانة بها على الصعيدين الاستراتيجي والتكتيكي. ذلك أن حالة الجوار الجغرافي والتنوع العرقي والمذهبي على طرفي الحدود بشكل متشابه، والخصوصية التركمانية في العراق، وإقليم كردستان العراق وغيرها من العوامل تجعل ثنائية التأثير والتأثير بين الطرفين حاضرة وبقوة على المدى البعيد. كما أن المصالح المشتركة كثيرة وعميقة، في مقدمتها النفط وأمن الطاقة والمياه والتجارة البرية ومكافحة “الإرهاب” ومختلف قضايا المنطقة، إضافة إلى الوجود العراقي الكبير في تركيا كمقيمين ولاجئين.

كل ذلك يجعل لتركيا دوراً مهماً تلعبه في توازنات العراق في البعدين المحلي والإقليمي، والأهم في صياغة مستقبله في ظل سيناريوهات التقسيم والتجزئة الجغرافية و/أو السياسية التي يتم تداولها في المنطقة خصوصاً حول سوريا والعراق، فضلاً عن تأثير التطورات على الساحة العراقية – خصوصاً شمال العراق – على الداخل التركي بعدة أبعاد أهمها الملف الكردي ومواجهة حزب العمال الكردستاني.

أهمية العراق بالنسبة لتركيا

ثمة عوامل عدة تساهم في صياغة أهمية دولة ما بالنسبة لأخرى، في مقدمتها التقارب الحضاري – الثقافي والمصالح الاقتصادية وحجم التبادل التجاري ومدى التوافق في رؤية السياسة الخارجية وملفات الاهتمام المشترك، بيد أن الجيوبوليتيك يبقى من أقوى العناصر التي تصوغ هذه الأهمية سيما في حالة الجوار الجغرافي المباشر، بكل ما يحمله من إمكانات التأثر والتأثير على طرفي الحدود على مختلف الصعد الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية والاجتماعية والاستراتيجية[1].

من هذا المنظور يحظى العراق بأهمية استثنائية بالنسبة لتركيا وسياستها الخارجية، تتجلى من خلال ما يلي:

أولاً، موقع العراق ضمن “المناطق البرية القريبة”، وهي مناطق الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز، التي نظــَّر مهندس السياسة الخارجية ورئيس الوزراء التركي السابق أحمد ادود أوغلو في كتابه الأشهر “العمق الاستراتيجي – موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية” لأهميتها وضرورة اهتمام تركيا بها بشكل استثنائي وذي أولوية إن أرادت رفع مكانتها الإقليمية والدولية[2].

ثانياً، تجمع بين البلدين حدود برية مشتركة تمتد على مدى 384 كلم، وهو ما يغذي ثنائية التأثر – التأثير على طرفي الحدود وفي الاتجاهين، سيما على مستوى العلاقات التجارية والروابط الاجتماعية – الثقافية والتأثيرات السياسية – الاستراتيجية. كما كان العراق جزءاً مهماً من أراضي الدولة العثمانية وحظي باهتمام خاص طوال تلك الفترة باعتباره عمقاً جغرافياً للأناضول وأرضاً لحضارة مدنية سابقة على الدولة العثمانية.

ثالثاً، التشابه الكبير في الفيسفساء العرقية (عرب وأكراد وترك/تركمان) والمذهبية (سنة وشيعة وعلويون) في البلدين، إضافة إلى التفاعل الثقافي – الحضاري – الاجتماعي بين شعبيهما على طرفي الحدود.

رابعاً، تعتبر تركيا تاريخياً الراعية لتركمان العراق سياسياً وثقافياً واجتماعياً وتربطها بهم علاقات خاصة جداً صاغتها حقائق التاريخ والعرق والثقافة، وقد أولاهم حزب العدالة والتنمية تحديداً اهتماماً خاصاً بهدف تقوية دورهم في صياغة مستقبل العراق من جهة ولتعميق علاقاتهم مع تركيا من جهة أخرى. وتحظى كركوك باهتمام تركي خاص للحفاظ على نسيجها العرقي المتنوع، وكذلك لأهميتها الاستثنائية في ملف الطاقة الحساس جداً بالنسبة لأنقرة[3].

خامساً، يحتفظ الشعب التركي بمكانة خاصة للموصل وما زال ينظر لها كعمق استراتيجي له خسره اضطراراً بعد الحرب العالمية الأولى، ويعتبرها بعض الاستراتيجيين والمحللين الأتراك “خط الدفاع الأول” عن بلادهم[4].

سادساً، يعتبر الملف الكردي أحد أهم ملفات الاهتمام المشترك الاستراتيجية بين تركيا والعراق وفي المنطقة، إذ يتوزع الأكراد فيهما إضافة إلى إيران وسوريا، وهو ملف شائك ومتقلب أدى تاريخياً إلى تعاون البلدين أحياناً وإلى الصدام بينهما في أحيان أخرى.

سابعاً، وفي إطار الملف الكردي يحتل حزب العمال الكردستاني الذي يمتلك معسكرات في جبال قنديل شمال العراق مكاناً خاصاً، ويعتبر أحد أهم العوامل التي تصوغ العلاقات التركية – العراقية إيجاباً وسلباً.

ثامناً، تصدر ملف المياه تاريخياً قائمة الملفات ذات الاهتمام المشترك وكان أحد أسباب توتر العلاقات الثنائية بين البلدين كما بين تركيا وسوريا، حيث ترى كل من بغداد ودمشق في مشاريع السدود التركية على نهري دجلة والفرات إجراءات تهدد أمنهما القومي.

تاسعاً، تربط البلدين علاقات اقتصادية قوية، إذ كان العراق في فترة قريبة يحتل المركز الثالث في قائمة شركاء أنقرة التجاريين، وهو المركز الذي خسره لاحقاً لأسباب عدة في مقدمتها هجمات حزب العمال الكردستاني وظهور تنظيم الدولة – داعش في الموصل وتوتر العلاقات السياسية بين تركيا وحكومة بغداد المركزية.

عاشراً، يعتبر العراق أحد أهم خيارات أمن الطاقة التركي كبديل لغاز روسيا وإيران الطبيعي، إضافة إلى النفط الذي يعتبر ركيزة أساسية في العلاقات التجارية بين البلدين عموماً وبين تركيا وإقليم شمال العراق خصوصاً.

أحد عشر، ترى تركيا في العراق نموذجاً مهماً للعلاقات السنية – الشيعية في عموم المنطقة، ولذلك فهي حريصة على أمنه واستقراره كضمانة لعدم تدحرج الأوضاع فيه إلى مواجهة طائفية تدمره وتدمر المنطقة برمتها.

اثنا عشر، إثر رفض تركيا السماح للقوات الأمريكية باستخدام أراضيها لغزو العراق عام 2003، خسرت أنقرة الكثير من إمكانات التأثير في المشهد العراقي، وتحول الأخير عبر السنوات اللاحقة إلى ساحة نفوذ إيرانية، ثم أصبح بعد الأزمة السورية أحد أركان محور موسكو – طهران – بغداد – دمشق وأحد مساحات التنافس الإقليمي بين تركيا والسعودية من جهة وإيران من جهة أخرى.

أهم محطات العلاقات التركية – العراقية

تمتد العلاقات بين البلدين الجارين على مدى مئات السنين منذ دخول الدولة العثمانية للمنطقة العربية في القرن السادس عشر، وقد تبدلت العلاقات وتحولت بشكل كبير وفق المتغيرات على طرفي المعادلة. وإذا ما استثنينا الفترة العثمانية وركزنا على العلاقات في العهد الحديث، لأمكننا القول إنه قبل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا وعلى مدى عشرات السنين، تركزت النظرة التركية للعلاقات مع العراق على الهواجس الأمنية المتعلقة بالخوف من التدخلات الخارجية واستثمارها لبعض التناقضات والملفات الداخلية للتأثير على وحدة البلاد، وهي ما يسميه بعض المؤرخين “عقدة النشأة” للجمهورية التركية والتي ما زالت تحملها معها حتى اليوم[5].

فقد بنيت العلاقات البينية مع العراق لعقود طويلة على محددات وأسس تتعلق بقضايا أمنية، في مقدمتها ضبط الحدود وتقليل خطر حزب العمال الكردستاني الذي خاض منذ 1984 حرباً انفصالية ضد الدولة التركية من ناحية، والخلافات حول حصص المياه من نهري دجلة والفرات تحديداً باعتبارها مسألة أمن قومي للطرفين من ناحية أخرى، إضافة إلى أرضية الخصومة والعداء بين الطرفين باعتبار انتماء كل منهما إلى أحد المحورين المتصارعين على الساحة الدولية في فترة الحرب الباردة.

السمة البارزة في سياسات تركيا ما قبل العدالة والتنمية تجاه العالم العربي هي التجاهل أو إدارة الوجه بالكلية نحو الغرب اهتماماً وسياسة واقتصاداً. بيده أن العلاقة مع العراق تخللتها في تلك السنوات – التي يقع أغلبها خلال فترة الحرب الباردة –  ثلاث محطات مهمة اختلفت عن هذا السياق وقاربت فيها تركيا المشهد العراقي واشتبكت معه مباشرة، أولاها إنشاء حلف بغداد عام 1953 بعضوية كل من تركيا والعراق وبريطانيا وإيران وباكستان بفكرة من الولايات المتحدة الأمريكية لصد التمدد الشيوعي في منطقة الشرق الأوسط والذي لم يكتب له النجاح أو الاستمرار طويلاً[6]. وثانيها الحرب العراقية – الإيرانية 1980- 1988 التي انتجهت فيها أنقرة سياسة الاحتواء المزدوج لكلا الطرفين بالتنسيق مع الولايات المتحدة[7].

وأما الثالثة فهي حرب الخليج الثانية 1990 – 1991، التي استثمرتها تركيا بقيادة تورغوت أوزال لإعاد تأكيد أهميتها للمنظومة الغربية حتى بعد انتهاء الحرب الباردة رغم المعارضة الداخلية الشديدة التي أدت لاستقالة بعض الوزراء[8]. سمحت أنقرة باستخدام قوات التحالف الدولي لأراضيها كما شاركت قوات تركية في العمليات العسكرية، إلى جانب الدعم اللوجستي الذي قدمته تركيا ودعمها لعملية “توفير الراحة” المتعلقة بحماية أكراد شمال العراق رغم انعكاساتها السلبية عليها بسبب ضعف سيطرة الحكومة المركزية على أطراف البلاد وما نتج عن ذلك من هجمات حزب العمال الكردستاني على تركيا وقيام إقليم كردستان العراق رغماً عنها، وهو ما دفعها في بعض المراحل إلى التعاون مع صدام حسين لمواجهة حزب العمال[9].

يعتبر ملف المياه أحد أهم أسباب التوتر في العلاقات بين تركيا والعراق تاريخياً، ورغم خفوت حدة الخلاف حوله مؤخراً إلا أنه يبقى عامل توتير قائم يتفاعل مع الأحداث الأخرى أو يفعّلها، باعتباره يتعلق بالأمن القومي للمنطقة وللدول الثلاث المشتركة بها كلا على حدة: تركيا والعراق وسوريا. أنشأت البلاد الثلاثة عام 1980 لجنة فنية ثلاثية مشتركة بغرض بلورة حل توافقي يرضي ثلاثتها فيما يتعلق بحصص المياه اعتماداً على مواد القانون الدولي ذات الصلة، بيد أن الواقع العملي يبدو أبعد ما يكون عن الحل التوافقي ورضى الأطراف إذ ما زالت قضية المياه مدار نزاع وخلاف بين العراق وسوريا من جهة وتركيا من جهة أخرى[10].

وقد كان لمشروع جنوب شرق الأناضول (GAP) الذي يشمل مشاريع وسدوداً عدة على دجلة والفرات تأثيرات سلبية على كل من العراق وسوريا، أهمها تراجع نسبيتهما من مياه دجلة والفرات وتأثر جودة هذه المياه من ارتفاع نسبة ملوحتها والاستخدام الزائد للكيماويات فيها فضلاً عن تعلق الأمر بالأمن القومي للبلدين العربيين[11].

يمكن اعتبار استلام حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا عام 2002 نقطة تحول في العلاقات التركية – العراقية، وإن كان الحزب لم يقم بثورة جذرية على مجمل السياسة الخارجية السابقة لبلاده تجاه المنطقة ككل والعراق بخاصة. وقد اعتمدت السياسة التركية تجاه العراق على مبدأين أساسيين هما مواجهة تهديد حزب العمال الكردستاني لها وانطلاق عملياته من شمال العراق حيث معسكراته في جبال قنديل، وتأكيدها على أهمية التوازنات الديمغرافية والسياسية في العراق وحمايتها سيما في ما يتعلق بالأقلية الكردية[12].

ولكن التحدي الأكبر للعلاقات التركية – العراقية في عهد العدالة والتنمية لم يتأخر كثيراً، فكان الغزو الأمريكي للعراق في آذار/مارس 2003 أي بعد أشهر قليلة فقط من تشكيله الحكومة. وقد قدم الحزب الحاكم للبرلمان التركي مسودة قرار للسماح للقوات الأمريكية باستخدام أراضيه في العمليات العسكرية لكن البرلمان رفض مشروع القرار[13]، وهي الحادثة التي ظلت القيادة التركية تعتبرها خطأ أخرجها من إمكانية المشاركة في رسم مستقبل العراق وتركها خارج دائرة التأثير منذ ذلك الحين[14].

ورغم ذلك فقد بذلت الحكومة التركية جهوداً كبيرة قبل وبعد الحرب لدعم أمن الجار العراقي واستقراره ووحدة أراضيه، حيث اقترحت تأسيس مجموعة “دول الجوار العراقي” التي شكلت في كانون الثاني/يناير 2003، كما نسجت علاقات متوازنة وودية مع الأطراف العراقية المختلفة، إلا أن المتغيرات في المشهد العراقي – سيما السياسات الإقصائية من الحكومات العراقية المتتالية – جعلتها أقرب لسنة العراق من غيرهم، فتواصلت معهم وطورت العلاقات الثنائية مع رموزهم وتياراتهم وشاركت في محاولات إشراكهم في العملية السياسية ودمجهم فيها[15].

حرصت تركيا على مدى السنوات الماضية في علاقاتها مع جارها العراقي على التأكيد على أهمية وحدة أراضيه ورفض سيناريهات التقسيم لئلا تتأثر هي أيضاً بها، وعلى الالتزام بأمنه واستقراره كمصلحة استراتيجية للطرفين وحافزاً لتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما[16]. إلا أن العلاقات البينية لم تسر دائماً بسلاسة بل تخللتها بعض الأزمات مثل هجمات حزب العمال الكردستاني عامي 2006 – 2007 ضد الأراضي التركية، ورد أنقرة بعمليات عسكرية في الشمال العراقي[17]، فضلاً عن الخلافات بين الطرفين في فترة حكومة المالكي في بغداد بسبب ما وصفتها تركيا بـ”سياسات طائفية إقصائية”.

حاولت أنقرة تجاوز هذه الأزمة مع العراق من خلال دعم حكومة العبادي التي خلفت المالكي، أملاً في تغير السياسات الحاكمة في العراق، لكن أزمة معسكر “بعشيقة” أظهرت أن شيئاً كثيراً لم يتغير على مستوى الارتهان للسياسات الإيرانية في المنطقة واستمرار السياسات الإقصائية في العراق[18].

ومما تجدر ملاحظته بخصوص سياسة أنقرة إزاء العراق في عهد العدالة والتنمية تغير موقفها من إقليم شمال العراق بسبب تنامي العلاقات الاقتصادية معه وتناقضات الحالة الكردية الداخلية بين قيادته و قيادات حزب العمال الكردستاني، بحيث انتقلت أنقرة من مربع رفضه رفضاً قاطعاً باعتباره تهديداً لأمنها القومي تحرزاً من إمكانية تكراره بالنسبة لأكراد تركيا، إلى التحالف غير المعلن اليوم معه حيث وقف الإقليم إلى جانب تركيا ضد الحكومة المركزية في بغداد في أزمة معسكر “بعشيقة” وضد العمال الكردستاني في التصعيد العسكري الأخير فضلاً عن العلاقة الشخصية القوية بين اردوغان ورئيسه البارزاني. ورغم ذلك، فما زالت تركيا تتحفظ ولو بسقف خطاب منخفض على فكرة الاستفتاء على انفصال إقليم شمال العراق التي يطرحها البارزاني، وتحاول دائماً التوازن في العلاقة بين حكومة بغداد المركزية وقيادة الإقليم والحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات الجيدة مع الطرفين وعلى إشراك الحكومة المركزية في الاتفاقيات الاقتصادية التي أبرمتها مع الإقليم.

محددات العلاقة مع العراق

إن المتغيرات التي مرت بها العلاقات التركية – العراقية وخصوصاً المواقف التركية تجاه العراق في المفاصل التاريخية سالفة الذكر تزيد من أهمية فهم آلية صنع القرار التركي وفق المحددات والأسس التي تساهم في تشكيل الرؤية والاستراتيجية التركيتين إزاء الجار العراقي، بما يفيد في إمكانية استشراف مستقبل العلاقات بين الطرفين في ظل أي متغيرات قادمة.

ذلك أن التطورات تساهم في تشكيل المواقف والسياسات، لكن ضمن الحدود التي ترسمها الرؤى والاستراتيجيات، وفي المسار الذي ترسمه المحددات العريضة. وفيما يتعلق بالسياسات التركية إزاء العراق، يمكن ذكر المحددات والأسس الرئيسة التالية:

أولاً، حزب العمال الكردستاني. الملف ذو الأولوية القصوى بالنسبة لأنقرة هو تهديد حزب العمال الكردستاني لأراضيها، حيث يشن الأخير حرباً انفصالية منذ 1984 كلفت تركيا 40 ألف قتيل وأكثر من 500 مليار دولار من الخسائر البشرية فضلاً عن فترة التصعيد الحالية التي حاول من خلالها الحزب ومنذ تموز/يوليو 2015 بدء حرب مدن وإعلان إدارات ذاتية في مناطق الأغلبية الكردية جنوب شرق البلاد[19]. ولأن الحزب يملك معسكرات تدريب في جبال قنديل شمال العراق ينطلق منها المسلحون وعمليات تهريب السلاح للداخل التركي، فإن العلاقات التركية مع كل من حكومة بغداد المركزية وحكومة إقليم كردستان العراق تتحدد بشكل كبير، وقبل أي محدد آخر، على موقف كل منهما إزاء هذه المعسكرات وحق تركيا في التدخل ضدها، ولذلك نجد في تاريخ العلاقات التركية – العراقية لحظات تأزم ولحظات تعاون في هذا الملف باختلاف موقف بغداد.

ثانياً، وحدة أراضي العراق. ما زال الموقف التركي رافضاً لسيناريوهات التقسيم في المنطقة سيما فيما يتعلق بسوريا والعراق، باعتبار أن مخرجاتها لن تقف عند حدود هذين الدولتين بل ستتعداهما لبعض دول الجوار وفي مقدمتها تركيا التي ما زالت تعاني من تفاقم وتداعيات المشكلة الكردية. وبالتالي فالالتزام بوحدة أراضي العراق مرتكز أساسي من مرتكزات السياسة الخارجية التركية سيما وأن ضعف الحكومة المركزية وتقسم أراضيها لن يغري فقط أكراد تركيا بسيناريوهات مستقبلية مشابهة، بل يزيد أيضاً من خطر تنظيم الدولة – داعش. ومع التزام تركيا بوحدة الأراضي العراقية فإنها تؤكد على ضرورة الحفاظ على التوازن والاستقرار بين مكونات الشعب العراقي الإثنية والمذهبية، مع اهتمام خاص بكركوك حيث يعيش العرب والتركمان والأكراد جنباً إلى جنب، واعتبارها مع بغداد صمام أمان لمنع وصول تطورات الأحداث إلى نزاع صفري على أسس عرقية ومذهبية[20].

ثالثاً، العلاقات الاقتصادية. كما في علاقاتها مع معظم الدول، يبقى الملف الاقتصادي أحد أهم محددات السياسة التركية إزاء العراق، الذي يبرز كأحد أهم الشركاء التجاريين لأنقرة من حيث التجارة البرية البينية والغاز الطبيعي والاستثمارات التركية في العراق وعمل شركات البناء والإنشاءات التركية على أراضيه، وبحجم تبادل تجاري اقترب من 9 مليارات دولار عام 2015 (كان قد وصل لحدود 12 مليار دولار عام 2013)[21]. كما يمثل العراق وخصوصاً الإقليم الشمالي أحد ضمانات أمن الطاقة التركي باعتبار ضمن البدائل التي يمكن أن تخفض من مستوى الاعتماد التركي على الغاز الروسي والذي يبلغ حالياً 55% من احتياجات أنقرة[22]. وبالتالي فثمة حرص تركي على علاقات أكثر من جيدة مع العراق، أو على الأقل عدم تدهورها رغم الملفات الخلافية بين الطرفين.

رابعاً، العلاقة مع إيران. منذ تصويت البرلمان التركي برفض المشاركة في الحرب ضد العراق وعدم السماح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي التركية، خسرت تركيا مساحات التأثير والنفوذ في العراق أمام إيران، ثم تجددت مجالات التنافس والمواجهة غير المباشرة معها وزادت إثر الأزمة السورية والموقف التركي من عملية “عاصفة الحزم” في اليمن والتحفظات التركية على سياسات المالكي ثم العبادي الإقصائية والطائفية – وفق الموقف التركي – بحق المكوّن السني في العراق. بهذا المعنى فإن مستوى العلاقات العراقية – الإيرانية بين التمايز والتعاون والارتهان وما يتفرع عن ذلك من سياسات داخلية تخص التنوع العرقي والمذهبي في البلاد، محدد رئيس لمستوى ومسار العلاقات البينية بين أنقرة وبغداد. ويمكن أن يضاف لهذا المحدد وعلى هامشه تأثير الأزمة السورية وخصوصاً سيناريوهات الحل والتهدئة على العلاقات التركية – العراقية، وإن بدرجة أقل.

خامساً، تنظيم الدولة – داعش. بعد فترة من غض تركيا الطرف عن تنظيم الدولة في سوريا تحديداً باعتبار أنه كان يوازن الفصائل الكردية المسلحة، قوات حماية الشعب، ويمنع تقدم المشروع السياسي الكردي في سوريا، يبدو أن تركيا بدأت تتجه لمواجهة التنظيم بعد أن بات يهدد أمنها بشكل مباشر ومستمر من خلال قصفه المتواصل لمدينة كيليس الحدودية ومن خلال العمليات الانتحارية التي تتهمه الحكومة التركية بالوقوف خلفها في الداخل التركي. في العراق، أدى ظهور تنظيم الدولة ثم التطورات اللاحقة إلى تضرر تركيا اقتصادياً من خلال التأثير على التجارة البرية بين تركيا والعراق وتأثر قطاع البناء والإنشاءات هناك[23]، كما تتواجد قوات تركية في معسكر بعشيقة في شمال العراق لتدريب مجموعات عربية وكردية عراقية لمواجهة تنظيم الدولة، وتعرض أنقرة على بغداد التعاون في مواجهة التنظيم في ظل اقتراب موعد “معركة الموصل” المفترضة والتي ستكون تركيا أحد المشاركين فيها.

خلاصة

بالنظر إلى المحددات العامة للسياسة الخارجية التركية إزاء العراق، يمكن القول إن أنقرة حريصة على أفضل العلاقات مع جارتها العراقية على مستوى الحكومة المركزية في بغداد وعلى مستوى إقليم شمال (كردستان) العراق، إذ أن العلاقات الجيدة مع كليهما تضمن لها عدة مكاسب استراتيجية، في مقدمتها ضبط خطر حزب العمال الكردستاني وعدم خروج الملف الكردي الداخلي عن السيطرة وبدائل مهمة في صلب أمن الطاقة لديها ومواجهة خطر تنظيم الدولة – داعش فضلاً عن الإبقاء على إمكانية لعب دور ما في المشهد العراقي بالتنافس و/أو التعاون مع إيران، جنباً إلى جنب مع ضبط التطورات في العراق والمنطقة لئلا تتدحرج نحو صراع طائفي صفري لا تريده أنقرة وترى فيه دماراً للمنطقة وكل فواعلها. إذن، ثمة علاقات استراتيجية واقتصادية تفرض على الطرفين التقارب والتعاون والتنسيق، بينما هناك ملفات توتر العلاقة بين الحين والآخر مثل ملفات مياه وهجمات حزب العمال الكردستاني واختلاف وجهتي النظر بخصوص قضايا المنطقة وفي مقدمتها الأزمة السورية.

بيد أن هذه العلاقات الجيدة مرهونة بدرجة او بأخرى برغبة الجار العراقي في تحسين العلاقات مع أنقرة وقدرته على ذلك إضافة إلى عدة محددات أخرى قد تكون خارج نطاق إرادته وممكناته، مثل تطورات الأزمة السورية والحرب على تنظيم الدولة ومآلات المواجهة السعودية – الإيرانية الباردة في الإقليم.

وعليه، فلا يمكن الجزم بسيناريوهات مستقبلية محددة لتنظم العلاقة بين الطرفين في ظل حالة عدم الاستقرار في العراق وبدرجة أقل تركيا وحالة السيولة في المنطقة بشكل عام. وبذلك فالاحتمالات التي قد تسير فيها العلاقات البينية بين البلدين مفتوحة على طيف واسع من الخيارات، بدءاً من التعاون الجيد في المسارات السياسية والاقتصادية والأمنية مروراً باستمرار الوضع الحالي من التعاون البارد والتوتر المنضبط وصولاً للسيناريوهات الكارثية التي قد تشمل التقسيم والتشظي والتدخل التركي العسكري المباشر في العراق على حدود خط الموصل – حلب حماية لحدودها وأمنها القومي.

ورغم تعدد السيناريوهات المفترضة نظرياً، إلا أنها لا تتمتع بنفس نسبة الاحتمالية والتوقع، كما إن الأسس والمحددات المذكورة آنفاً إضافة إلى المتغيرات الأخيرة في السياسة الخارجية التركية نحو تدوير زوايا الخلاف وترطيب العلاقات مع مختلف الدول سيما دول الجوار تـُغلــّب بعض السيناريوهات على بعض وترسم مسارات أكثر احتمالاً من غيرها، بيد أن ذلك أبعد من أهداف هذه الورقة التي سعت إلى وضع المحددات الرئيسة والسياقات العامة التي تصوغ العلاقة في إطار واسع يصلح للتقييم والاستشراف على المدى البعيد وفي ظل مختلف المتغيرات.


سعيد الحاجطبيب وشاعر فلسطيني وباحث في الشأن التركي، نشر العديد من المقالات، إضافة لعدد من الدراسات والبحوث في الشأن التركي في عدد من المراكز البحثية المعروفة كما شارك في عدد من المؤتمرات والندوات وورش العمل محاضراً عن الشأن التركي والتجربة التركية في عهد العدالة والتنمية


المراجع:

[1]  أنظر مثلاً: أحمد داود أوغلو، “النظريات الجيوسياسية وتوازن القوى في الشرق الأوسط”،

”Jeopolitik Teoriler ve Ortadoğu’da Güçler Dnengesi”, İlim ve Sanat, 1968, 1-6, s. 9-14.

[2]  أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل، طبعة 10، (مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2010)، ص 145 – 175.

[3]  المصدر السابق، ص 621 – 625.

[4]  في نهايات 2015، كتب إبراهيم كاراغول، رئيس تحرير صحيفة يني شفق المحسوبة على حزب العدالة والتنمية الحاكم، مقالاً بعنوان: خط الموصل – حلب: هذه هي خريطتنا:

İbrahim Karagül, Musul – Halep Çizgisi: Bu Da Bizim Haritamız, Yeni Şafak, 16 Aralık 2015: http://www.yenisafak.com/yazarlar/ibrahimkaragul/musul-halep-cizgisi-bu-da-bizim-haritamiz-2023632

[5]  عقيل محفوظ، السياسة الخارجية التركية الاستمرارية والتغيير، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2012)، ص 167.

[6]  أنظر مثلاً: محمود محارب، إسرائيل وتركيا والدول العربية: الدور والمكانة وبسط النفوذ والتحالفات، “، في: “عدة مؤلفين: العرب وتركيا تحديات الحاضر ورهانات المستقبل” المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، 2012، ص 723 – 742.

[7]  عقيل سعيد محفوظ، مصدر سابق، ص 48 – 49.

[8] Burak Küntay, Major Shift – The Change in U.S. Foreign Policy During The 2003 İraq War Era And Turkish – U.S. Relations, Başakşehir University Press, 2011, pp. 116 – 123.

[9]   أنظر مثلاً: ناظم يونس عثمان، “الأكراد على طرفي الحدود العربية – التركية: التداعيات السياسية والاجتماعية”، في: مجموعة مؤلفين، العرب وتركيا: تحديات الحاضر ورهانات المستقبل، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2012)، ص 179 – 200.

 [10] أنظر مثلاً: ناجي علي حرج، “المياه في العلاقات العربية – التركية”، في: مجموعة مؤلفين، العرب وتركيا: تحديات الحاضر ورهانات المستقبل، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2012)، ص 375 – 422.

 [11] أنظر مثلاً:

”The Southeastern Anatolia Project Master Plan – Final Master Plan Report”, Republik of Turkey, Prime Ministry, State Planning Organization, vol. 1 (June 1990).

 [12] أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي، ص 621 – 622.

[13] ثمة انطباع واسع الانتشار في العالم العربي بأن حزب العدالة والتنمية الحاكم هو الذي رفض السماح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي التركية لغزو العراق، ولكنه احتال للأمر بمناورة إفشال المذكرة أو مسودة القانون في البرلمان، وهذا غير دقيق لعدة أسباب. أولاً لأنه لا دليل على هذا الادعاء، وثانياً لأن مسودة القرار قدمها الحزب ودافع عنها قادته، بل وتكلم كل من عبدالله غل واردوغان دعماً للفكرة، وثالثاً لأن المذكرة رفضت بفارق 4 أصوات فقط، ورابعاً لأن سيناريو المناورة يقتضي التنسيق المسبق مع المعارضة والقوات المسلحة التركية دون أن تعلم الولايات المتحدة، في وقت كان الحزب ما زال في بدايات حكمه وعلاقاته مع الطرفين سيئة.

[14]  اردوغان: الوضع في سوريا سيتغير في لحظة معينة ولن نكرر ما ارتكبناه في العراق، روسيا اليوم، 7 شباط/فبراير 2016 (تاريخ الدخول: 6 حزيران/يونيو 2016): https://arabic.rt.com/news/810345-%D8%A3%D8%B1%D8%AF%D9%88%D8%BA%D8%A7%D9%86-%D9%83%D8%B1%D8%B1-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82/

[15]  أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي، ص 622 – 623.

[16]  أنظر مثلاً: علي حسين باكير، العراق في حسابات تركيا الاستراتيجية والتوجهات المستقبلية، مركز الجزيرة للدراسات، 18 كانون الثاني/يناير 2016:

http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2015/01/201511895950841529.html

[17]  أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي، ص 623 – 624.

[18] أنظر مثلاً: العبادي يلوح بإجراءات ضد تركيا إذا لم تسحب قواتها من العراق، روسيا اليوم، 19 كانون الأول/ديسمبر 2015 (تاريخ الدخول: 6 حزيران/يونيو 2016): https://arabic.rt.com/news/804510-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D9%8A-%D8%A8%D9%82%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%A3%D9%86%D9%82%D8%B1%D8%A9-%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%AF/

[19]  أنظر مثلاً: سعيد الحاج، عملية السلام مع أكراد تركيا أمام مفترق طرق، مركز الدزيرة للدراسات، 19 كانون الثاني/يناير 2016 (تاريخ الدخول 7 حزيران/يونيو 2016): http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2016/01/201611965618119165.html

[20]  أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي، ص 621 – 622.

[21]  إحصاءات التجارة التركية الخارجية حسب البلدان والسنوات، هيئة الإحصاء التركية: http://www.tuik.gov.tr/PreTablo.do?alt_id=1046

[22]  سعيد الحاج، ناغورنو كارباخ: ساحة صراع جديدة بين روسيا وتركيا، مركز الجزيرة للدراسات، 2 أيار/مايو 2016 (تاريخ الدخول: 7 حزيران/يونيو 2016):  http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2016/05/160502100617839.html

[23]  علي حسين باكير، مصدر سابق.

ضع تعليقاَ