أبريل 25, 2024

تقدير موقف: ماذا بعد زيارة الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط؟

حملت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسعودية وإسرائيل والضفة الغربية 20 – 23 آيار/مايو 2017، إشاراتٍ مهمة حول ملامح السياسة الخارجية الأمريكية في عهده، تجاه منطقة الشرق الأوسط.

ويمكن القول إن زيارة ترامب أكّدت بعض ثوابت السياسة الأمريكية، وكشفت تغيرا في نبرة الخطاب الرئاسي الأمريكي، بحيث يبتعد – شيئا فشيئا – عن سياسة سلفه الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، الذي انتهج في إدارته الثانية (أواخر2012- أواخر 2016)، سياسة الابتعاد عن مشكلات الشرق الأوسط، ولا سيما الأزمة السورية.  

أولا: تأكيد ثوابت السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط

أعادت زيارة الرئيس ترامب للشرق الأوسط – وما بعدها – تأكيد بعض ثوابت السياسة الأمريكية، ومنها الآتي:

1-إبراز مبدأ “أمريكا أولا”، حسب فهم الرئيس ترامب له، وتطويعه لعقد الصفقات الخارجية بهدف إنعاش الاقتصاد، والتخفيف من حدة مشكلة البطالة هناك؛ فقد غرّد ترامب في 27 أيار/مايو على حسابه على تويتر بالقول إن “جلب مئات المليارات من الدولارات إلى الولايات المتحدة الأمريكية من الشرق الأوسط يعني: وظائف، وظائف، ووظائف!” (1).

وبهذا المعنى، ربما خدمت الزيارة صورة الرئيس أمام مواطنيه بوصفه رجل أعمال ناجحا، يحيط نفسه بعدد من المستشارين الأقوياء، القادرين على تحقيق المصالح الأمريكية.

وربما برز التركيز على مبدأ “أمريكا أولا”، و”ذهنية الصفقة” في سياسة الرئيس ترامب أكثر في مناسبتين تاليتين؛ إحداهما أثناء خطابه أمام قمة دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل 25 أيار/مايو، حين أشار ترامب إلى أن 23 دولة في الناتو (من أصل 28 دولة)، لا تفي بحصصها المالية في موازنة الحلف، وهذا يجعل واشنطن تتحمل العبء الأكبر في الموازنة.

والأخرى بعد انتهاء قمة مجموعة الدول الصناعية السبع – في تاورمينا في صقلية 27 أيار/مايو – من دون اتفاق حول المناخ، بعدما طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهلة إضافية لاتخاذ قرار بشأن الالتزام باتفاق باريس لمكافحة الاحتباس الحراري (2).

وفي خطاب في ميونيخ 28/5/2017، قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إن أوروبا لا يمكنها بعد الآن الاعتماد بشكل كامل على حلفائها، وعلى الأوروبيين أن يأخذوا مصيرهم في أيديهم، بالطبع في صداقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفي صداقة مع بريطانيا العظمى، وبحسن جوار كلما تسنى ذلك مع دول أخرى حتى مع روسيا. وتمنت ميركل للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون النجاح، وأكدت أن بلادها ستساعد فرنسا، لأن ألمانيا ستزدهر فقط إذا كانت أوروبا مزدهرة (3).

2- محورية البعد النفعي/المصلحي “البراغماتي” في سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط، ويتجلّى ذلك في الحرص على “الإعلان الاحتفالي” عن عقد الصفقات الاقتصادية والعسكرية مع دول الخليج العربي، وخصوصا السعودية، أثناء زيارة الرئيس ترامب.

ومن الواضح، أن الرياض نجحت في جذب اهتمام إدارة الرئيس الأمريكي، عبر الإعلان عن صفقات مع الولايات المتحدة تتراوح تقديراتها ما بين 110 مليار دولار و460 مليار دولار (4).

3- رغم أن هناك دوافع داخلية مهمة وراء زيارة ترامب للشرق الأوسط، فإن الطلب الخليجي عليها عموما، والسعودي خصوصا، قد ظهر بشكل واضح في القمم الثلاث التي عقدت في الرياض؛ إذ بدا أن الأطراف الخليجية والعربية والإسلامية تشجّع الولايات المتحدة على العودة للانخراط بصورة أكبر في قضايا الشرق الأوسط ومشكلاته المعقّدة، من أجل محاصرة إيران وميليشياتها والقضاء على تنظيم داعش.

مهم في هذا السياق الإشارة إلى “البيان المشترك بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية” الصادر في الرياض 22/5/2017، الذي نصّ في مادته الرابعة على “شراكة استراتيجية جديدة للقرن الـ 21 بما يحقق مصلحة البلدين، من خلال الإعلان الرسمي عن الرؤية الاستراتيجية المشتركة بين الرياض وواشنطن، التي ترسم مسارا مجددا نحو شرق أوسط ينعم بالسلام، حيث التنمية الاقتصادية والتجارة والدبلوماسية سمات العمل الإقليمي والدولي” (5).

وثمة مؤشران مهمان، يشيران إلى موقع الرياض في التحركات الأمريكية الجديدة؛ أحدهما توصيف العاهل السعودي – الملك سلمان بن عبد العزيز – النظام الإيراني بأنه “يشكل رأس حربة الإرهاب العالمي” (6). 

وربما يأتي هذا التصريح في سياق قيام السعودية بالضغط على إيران، بهدف التأثير على سياسات الأخيرة، وهو استكمال لسياسة الرياض ضد إيران – التي تصاعدت منذ مطلع عام 2016 بعد استهداف السفارة السعودية في طهران، والقنصلية السعودية في مشهد- .

أما المؤشر الآخر حول موقع الرياض في التحركات الأمريكية الجديدة، فيتعلق بقيام العاهل السعودي بتدشين المركز العالمي لمكافحة التطرف “اعتدال”، في الرياض 21/5/2017، بحضور الرئيس الأمريكي وقادة عرب ومسلمين (7).

4- غياب الرؤية السياسية الكلية – الاستراتيجية – عن خطابات الرئيس الأمريكي وتصريحاته أثناء جولته الشرق أوسطية، بل حتى غياب البرامج والخطط التنفيذية، بالنظر إلى أنه لم يعلن مبادرته بشأن الملف الإسرائيلي – الفلسطيني، التي قيل إنها ربما تُؤجّل قليلا.

وربما يكشف ذلك ثلاثة أمور؛ أولها أن السياسة الأمريكية في عهد ترامب تجاه قضية فلسطين تبدو كأنها تركز على إسقاط البعد الفلسطيني وتهميشه، والتركيز على ما يسمى “الحل الإقليمي”، أو تطبيع العلاقات العربية والإسلامية مع إسرائيل، مع تقديم خطابات ولفتات أمريكية رمزية تجاه الفلسطينيين، لا يمكن أن تتجاوز مفهوم “السلام الاقتصادي”.

أي أن يقوم التعامل الأمريكي/الإسرائيلي مع السلطة الفلسطينية بوصفها طرفا متلقيا للمساعدات، مع سيادة هذا المفهوم، الذي يعني أن البُعديْن الأمني (أي أمن إسرائيل)، والبعد الاقتصادي (أي تقديم مميزات اقتصادية ومساعدات للفلسطينيين) يهيمنان على المفاوضات، التي يجب استئنافها دون شروط، مع تغييب البعد السياسي عن قضية فلسطين، وهو أهم أبعادها في الواقع، كونها حركة تحرر وطني سياسية الطابع في مواجهة احتلال أجنبي استيطاني عنصري. 

والثاني عدم رغبة ترامب في تقديم شئ ملموس أو التزامات للفلسطينيين، حتى في قضايا إنسانية (مثل إضراب الأسرى الفلسطينيين). وهذا يعني عدم توازن واشنطن، وانحيازها للأجندة الإسرائيلية المتطرفة.

أما الأمر الثالث فهو تريث إدارة ترامب، انتظارا لما يمكن أن يقدّمه حلفاؤه في المنطقة، وربما يكون ما يفعله الرئيس الأمريكي هو “تكتيك تفاوضي”، يهدف إلى استكشاف الأمور وإنضاجها على نار هادئة، بغية دفع الحلفاء لتقديم مبادراتهم وإسهاماتهم، وربما وصولا إلى تعديل “المبادرة العربية للسلام”، لكي يتم الفصل بين قيام إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، وبين عملية التطبيع معها؛ فالمطلوب أمريكيا وإسرائيليا الآن هو عملية إقليمية للتطبيع مع إسرائيل، بغرض حشد الجهود الإقليمية لعزل إيران وإضعاف تأثيرها في الشرق الأوسط.

5- حضور البعد الدعائي والرمزي في زيارة الرئيس ترامب، ولا سيما وقت زيارته إسرائيل، فقد جاء خطابه في “متحف إسرائيل” 23 آيار/مايو، محمّلا بالدلالات حول “حق اليهود في فلسطين والقدس خصوصا”.

علما بأن كل رئيس أمريكي زار إسرائيل كان يتبنى خطابا مشابها، بحيث لا يناقض – عادة- الرواية الصهيونية في الصراع مع العرب والفلسطينيين، وإنما يقترب من تبنيها بشكل شبه كامل، مع اختلافات طفيفة في الألفاظ والصياغات الدبلوماسية من رئيس لآخر.

ولا يجب إغفال أن ترامب زار الفاتيكان أيضا بعد إسرائيل، مما يعني أن جولته مرّت بالعواصم الروحية للأديان السماوية الثلاثة، وهذا يعطي جولة ترامب شيئا من الرمزية، فقد بدا كأنه ينقل رسائل معينة بين القادة العرب والمسلمين وإسرائيل.

وقد تجنّب ترامب إثارة أية موضوعات خلافية مع إسرائيل مثل الاستيطان، مكتفيا ببناء علاقة عمل شخصية مع المسؤولين الإسرائيليين، مع توجيه رسائل رمزية مهمة تؤكد على متانة العلاقة بين الحليفين (8).

ورغم رفض ترامب أن يصاحبه أي مسؤول إسرائيلي في زيارته لحائط البراق، فإن الحكومة الإسرائيلية قد استثمرت تلك الزيارة بعد عدة أيام؛ فقد عقد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وأعضاء حكومته – في 28 أيار/مايو – جلسة خاصة في ساحة حائط البراق في إطار الاحتفال بالذكرى الخمسين للاستيلاء على القدس.

 ووصف نتنياهو الساحةَ بأنها “القلب النابض لأشواق الشعب اليهودي، الذي عاد بعد آلاف السنين لبناء عاصمته الموحدة فيها. وقال إن حكومته ستصادق على قرارات لتعزيز مكانة القدس، وزيادة الموازنات المخصصة للخطة الخماسية لتطوير القدس، وتنفيذ مشروع سياحي بإقامة قطار هوائي يمتد من محيط محطة القطار القديمة إلى باب المغاربة، كما سيتم تطوير محيط البلدة القديمة على مستويات عدة لجهة تقديم الخدمات الطبية والتعليمية وغيرها” (9).

ولعل ذلك يؤكد قدرة إسرائيل على توظيف جولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الشرق الأوسط، في سياق تعظيم مكانة إسرائيل في الشرق الأوسط، واستكمال مسار سياساتها التصعيدية، وربما التنكر العلني لحل الدولتين، كما صرح وزير التعاون الإقليمي تساحي هانغبي، الوزير الليكودي المقرب من نتنياهو، بأنهما لا يؤيدان حل الدولتين، ولا إنشاء دولة فلسطينية غربي نهر الأردن، حتى لو كانت منزوعة السلاح، كما جاء في خطاب نتنياهو في جامعة بار إيلان عام 2009 (10).    

6- العودة الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط، فبعد الضربة الصاروخية الأمريكية لمطار الشعيرات السوري نيسان/أبريل 2017، تأتي زيارة ترامب للمنطقة، لتؤكد أن واشنطن مصممّة على أن تبقى في المنطقة، وأن تفرض مصالحها وتوازناتها، على روسيا والصين وإيران، بحيث لا تراهن هذه الدول على فكرة إنكفاء الدور الأمريكي عالميا، أو انسحاب واشنطن من ساحة الشرق الأوسط.

7- التركيز الأمريكي والدولي عموما على متغير “الحرب على الإرهاب”، الذي يكاد أن يصبح أهم مؤثر على السياسات الدولية والإقليمية.

وفي خضم الحملة على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في الموصل العراقية والرقة السورية خصوصا، يبدو أن مجرد حلحلة قضايا المنطقة العربية – ناهيك عن حلّها – تبدو بعيدة نسبيا. لا سيما مع استمرار قدرة هذا التنظيم في استهداف تجمعات المدنيين في أماكن مختلفة من العالم، وآخرها اعتداء مانشستر بالمملكة المتحدة في 22 آيار/مايو، الذي أوقع عشرات القتلى والجرحى، ثم تبنيه الاعتداء على أقباط مصريين في محافظة ألمنيا في صعيد مصر 26 آيار/مايو.

ثانيا: الرابحون والخاسرون بعد زيارة ترامب للشرق الأوسط

رغم التسليم بأن كثيرا من مفردات وتفاصيل سياسة الرئيس ترامب الخارجية لا يزال غامضا وربما فوضويا، بسبب أزمات قراراته حول الهجرة وحظر السفر لأمريكا، وانعكاسات سياساته الداخلية والخارجية، وطبيعة المرحلة الانتقالية التي يمرّ بها النظام الدولي برمته، فإنه ليس من الخطأ القول بأن زيارة الرئيس ترامب للشرق الأوسط تمثّل بداية رسم مسارات السياسة الأمريكية في المنطقة، وذلك بعد مرور أكثر من 4 أشهر على توليه مقاليد الإدارة في واشنطن. وغالبا ما عبّرت مثل هذه الزيارات الرئاسية الأمريكية عن مؤشرات لمتغيرات أو تحركات مستقبلية.

ويمكن في هذا السياق، الإشارة إلى الملاحظات الآتية:

1- ثمة تغير في نبرة خطاب الرئيس الأمريكي، مما يعكس أن ثمة فارقا بين ترامب المرشح وترامب الرئيس.

وبشكل عام، فإن تصريحاته في مجملها، عادت لتنسجم مع خطاب الحزب الجمهوري، بما يعني تغليب الواقعية والبراغماتية والمصالح، على خطاب دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذا الأمر له تأثير سئ على قضايا الشعوب العربية إجمالا، التي سيكون عليها تحمّل كلفة تجديد أو إنعاش التحالفات الأمريكية مع النظم العربية القائمة بكل سلبياتها، سواء في الخليج أو مصر أو سورية أو العراق، مما يعني مزيدا من التدهور في أحوال الشعوب العربية عموما.

2- يبدو أن التصعيد اللفظي والحروب الكلامية والدعائية ضد إيران وحزب الله اللبناني وميليشيا الحوثي في اليمن ستشكّل ملمحا مستمرا للسياسة الأمريكية في عهد ترامب، دون أن يعني ذلك، الانجرار إلى مواجهة عسكرية مع إيران، لأن من شأنها إحداث فوضى هائلة قد تخرج المنطقة بأسرها من دائرة التحكم والسيطرة، وهو ما يتنافى مع مصالح الجميع.

وبهذا المعنى قد تكون طهران من أبرز الخاسرين من زيارة ترامب للشرق الأوسط، ولذا دعت إيرانُ الولاياتِ المتحدة للحوار؛ فقد صرح الرئيس حسن روحاني أن استقرار المنطقة لا يمكن أن يكون من دون مساهمة إيران، منتقدا موقف ترامب من بلاده (11) .

وكذلك فعل وزير خارجية إيران جواد ظريف، الذي حث إدارة ترامب على الدخول في الحوار مع  بلاده حول الطرق الكفيلة بمنع الإرهابيين والتكفيريين من الاستمرار في تأجيج النار على مستوی المنطقة وتكرار أمثال حادث 11 سبتمبر في الدول الغربية” (12).

أما رد فعل حزب الله على زيارة ترامب للشرق الأوسط، فقد اتسم بالتشنج؛ إذ صرح هاشم صفي الدين رئيس المجلس التنفيذي للحزب بأن “هذه الإدارة الأمريكية المعاقة والمجنونة بقيادة ترامب لن تتمكن من المقاومة ولن يحصلوا على شيء، وما سيحصلون عليه هو المزيد من الصراخ الإعلامي، مضيفا أن أقدام حزب الله سوف تبقى في الأرض ثابتة راسخة بعزم أقوى مما مضى” (13).

3- إن سياسة الرئيس ترامب بالتقارب مع السعودية والإمارات ومصر، قد يكون لها نتائج سلبية نسبيا على الأطراف الإقليمية الداعمة للتغيير وثورات الشعوب العربية ومصالحها وحقوقها المشروعة.

وفي هذا السياق، من الواضح أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قرر عدم حضور القمة الإسلامية الأمريكية في الرياض، واكتفى بإيفاد وزير خارجيته، ربما تعبيرا عن الغضب من سياسات إدارة ترامب في دعم “قوات سورية الديمقراطية” في معركة استرداد الرقة من تنظيم داعش، خصوصا أن القمة التركية – الأمريكية في مايو 2017، لم تأتِ بالنتائج التي ترجوها أنقرة في هذا الصدد.

ولئن كان صحيحا أن المكانة الإقليمية والدولية لتركيا تبقى أفضل نسبيا من إيران، بسبب الخبرة الدبلوماسية لأنقرة، وتوازناتها الدقيقة في إدارة التحالفات والتوازنات الخارجية مقارنةً بطهران المعزولة والمحاصرة في أغلب الأوقات منذ ثورتها عام 1979، وقدرة تركيا الجيدة في قراءة اتجاه التحولات الدولية ومتطلبات إعادة التكيف والتموضع، فإنه من الصحيح أيضا أن النفوذ التركي يتراجع، أو يخضع على الأقل لضغوط شديدة، لكي يندرج ضمن الحدود التي ترسمها موسكو وواشنطن.

وحتى بعد نجاح الاستفتاء على التعديلات الدستورية في تركيا في نيسان/أبريل 2017، وما مثّله من دفعة داخلية لمشروع الرئيس أردوغان، فإن أنقرة معرضة لضغوط حقيقية نابعة من عدة عوامل:

أولها يتعلق باتجاه التوازن الدولي الجديد، ومحاولات واشنطن وموسكو تحجيم النفوذ التركي كما أشير آنفا.

وثانيها يتعلق بغياب الحلفاء الإقليميين بعد انتكاس الثورات العربية منذ منتصف 2013؛ فقد ضعف نفوذ تركيا بسبب موجة الثورات المضادة، خصوصا في مصر وسورية وليبيا واليمن، والانتكاسات الديمقراطية أو تعثر جهود الإصلاح السياسي في تونس والمغرب والجزائر، مما يصعّب مهمة أنقرة في بناء شبكة علاقات إقليمية تجذب العالم العربي نحو الاستقرار والتنمية، بما يدعم مكانة تركيا الإقليمية والدولية.

وثالثها انعكاسات تغيرات البيئة الدولية واضطرابات البيئة الإقليمية على الاقتصاد التركي، الذي يواجه صعوبات وتحديات متصاعدة.

ومما يرتبط باحتمال تراجع نفوذ تركيا في الشرق الأوسط أن مؤيديها والأطراف القريبة منها (مثل دولة قطر، والحركات الإسلامية السياسية المعتدلة مثل حماس والإخوان المسلمين)، تتعرض أيضا لموجة قوية من تحريض الإمارات وحملاتها الإعلامية ضد هذه الأطراف، على نحو ما يبدو من الاختراق الذي تعرضت له وكالة الأنباء القطرية في 23/5/2017، الذي كان يستهدف تخريب العلاقات القطرية – الخليجية، والعودة بها إلى ساحة التوتر، مما يخلق مزيدا من الضغط لخنق سياسات قطر ولجم توجهاتها في دعم عملية التغيير في المنطقة لمصلحة الشعوب العربية.

خلاصة:

ربما تكون أبرز ثلاث نتائج تمخضت عنها زيارة الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط أيار/مايو 2017، هي الآتية:

1-تأكيد الزيارة على الدعم الأمريكي الواضح لإسرائيل، التي قد تكون أبرز الرابحين من جولة الرئيس ترامب. وهذا يعني أن العلاقة الأمريكية – الإسرائيلية ما تزال تمثّل أقوى تحالف في منطقة الشرق الأوسط، على كل المستويات؛ فهي حلف عسكري وسياسي وأمني واقتصادي. ولا يتصور حدوث تغير في المنطقة بدون حدوث اهتزاز أو تراجع أو انهيار في هذه العلاقة الاستراتيجية.

وقد تتضح ترجمة هذا الدعم الأمريكي في السلوك الإسرائيلي في الأشهر القليلة القادمة، في أربعة مسارات؛

 أولها مزيد من الاقتحامات للمسجد الأقصى، ومن آخرها مسيرة المستوطنين 24/5/2017، في الذكرى الخمسين لاستيلاء على القدس بالتقويم العبري.

ثانيها مزيد من الاستيطان وبناء المستوطنات في الضفة الغربية، وجرّ سلطة رام الله إلى مفاوضات جديدة من أجل المفاوضات فقط، ربما مع منح تسهيلات حياتية ومعيشية تمنع انفجار الوضع الفلسطيني، بغية منع انخراط مزيد من الشباب المحبط في انتفاضة السكاكين والمواجهات مع المستوطنين أو قوات الاحتلال الإسرائيلي.

ثالثها مزيد من إجراءات حصار غزة وخنقها، عبر العبث بموضوع تزويدها بالكهرباء وسياسة غلق المعابر، بهدف إضعاف حركة حماس أكثر، ربما وصولا إلى شن حرب إسرائيلية رابعة على قطاع غزة.

رابعها إضعاف الدولة اللبنانية، وربما توسيع نطاق التحرشات الإسرائيلية بحزب الله، بعدما أنهك نفسه في أتون الأزمة السورية، خدمة لمصالحه ومصالح النظام الإيراني.

2- رغم أن السعودية ومحور الاعتدال العربي قد يبدو رابحا على الصعيد الآني من زيارة ترامب للشرق الأوسط، الذي دعم هذه الأطراف وأجنداتها – بالمعنى الرمزي على الأقل -، فإن الخبرة السياسية العربية المعاصرة لا تشير إلى أن استدعاء الدور أو التدخلات الأمريكية يمثّل حلا لمشكلات المنطقة العربية، بل تشير إلى الزج بها في أتون الحسابات البراغماتية الأمريكية، مما يفضي عادة إلى مزيد من تعقيد مشكلات المنطقة وتأزيم العلاقات بين أطرافها ومكوناتها، خصوصا بإذكاء البعد الطائفي/المذهبي بين العرب وإيران، بما يعني تعزيز التدخلات الخارجية السلبية والضارة في المنطقة، وتدويل قضاياها أكثر فأكثر.

3- اتساع بنود الصراعات الإقليمية لأجندة التدخلات الخارجية سواء لتفجير الصراعات المذهبية/الطائفية في الداخل العربي، أو بين العرب وكل من الأتراك والإيرانيين والأكراد؛ إذ إن ورقة القومية والمذهبية والطائفية تشهد تزايدا في استخدامها في الاستراتيجية الأمريكية-الإسرائيلية- الروسية، لإعادة تشكيل المنطقة العربية وجوارها التركي والإيراني؛ إذ إن المطلوب هو تقسيم المقسّم، بعد أن تمّ خلال قرنين سابقين تقسيم المكتمل. وهذا التقسيم الجديد يخدم مصالح رأسمالية عالمية لم تعد تنظر إلى العالم إلا بمعيار ما يخدم الاستثمارات والمصالح، التي اتخذتها معيارا لتقسيم الدول (14).

وفي هذا الصدد، فإن الواقع السياسي الإقليمي الآخذ في التشكّل بعد زيارة ترامب للشرق الأوسط يمكن أن نتحدث فيه عن ثلاثة معالم (15):  

أولها تراجع أهمية الصراع العربي-الإسرائيلي بوصفه محددا للعلاقات الإقليمية، أي أن لا يكون نجاح أو فشل عملية تسوية الصراع معيارا للعلاقات بين الدول العربية وإسرائيل، وأن تعجّل هذه الدول بعقد اتفاقات سلام مع إسرائيل، بغض النظر عن حال تلك العملية.

وثانيها أن يصبح الصراع العربي-الإيراني، بديلا عن الصراع العربي- الإسرائيلي؛ أي أن تصبح إيران هي العدو للعرب وغيرهم في المنطقة، بدلا من إسرائيل التي يجب أن تتحول إلى صديق.

وثالثها أن يسود الصراع الطائفي السني-الشيعي العلاقات داخل دول المنطقة، بما يؤدي إلى تفاقم الصراع مع إيران، وبما يساعد على فرض مخطط إعادة ترسيم الخرائط السياسية في المنطقة على أسس طائفية ومذهبية وعرقية.

 وختاما، فإن زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للشرق الأوسط، وعودة الحضور الأمريكي فيها، يؤكد أن إقليم الشرق الأوسط برمته، قد يكون دخل في مرحلة شديدة الخطورة، من حيث توسيع المعركة على “الإرهاب”، بما يضعف كل الأطراف الإقليمية، باستثناء اللاعب الإسرائيلي، الذي يكاد أن يصبح القوة الإقليمية الأبرز، التي تستفيد من السياسات الدولية لإعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، الجارية حاليا على قدم وساق

 

أمجد أحمد جبريل (باحث متخصص في الشؤون العربية والإقليمية)


الهوامش:

(1) تغريدة الرئيس دونالد ترمب، تويتر 27/5/2017. على الرابط:

ولمزيد من التفاصيل حول استخدام الرئيس ترامب موقع توتير وملامح تغريداته والقضايا التي ركز عليها قبل توليه منصبه وبعدها، راجع: إيهاب خليفة وحسام إبراهيم، “تغريدات الرئيس: كيف يوظف ترامب “تويتر” في التواصل المباشر مع الرأي العام؟”، 29/1/2017. مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة. على الرابط:

https://futureuae.com/ar/Mainpage/Item/2424/%D8%AA%D8%BA%D8%B1%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D9%8A%D9%88%D8%B8%D9%81-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A8-%D8%AA%D9%88%D9%8A%D8%AA%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%B5%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D8%A7%D8%B4%D8%B1-%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85

(2) “قمة الـ7: تسوية للتجارة ولا اتفاق على المناخ”، الحياة 28/5/2017.

(3) “ميركل بعد قمتين مع ترامب: على أوروبا أن تأخذ زمام مصيرها في يدها”، رويترز 28/5/2017.

http://ara.reuters.com/article/worldNews/idARAKBN18O0PZ

(4) راجع: “صفقات القرن خلال زيارة ترامب للرياض”، العربي الجديد 20/5/2017. وأيضا: “العلاقات الأمريكية السعودية: تاريخ من الصفقات الاقتصادية”، العربي الجديد 21/5/2017.

(5) “صدور بيان مشترك بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية”، الرياض 26 شعبان 1438 هـ الموافق 22 مايو 2017 م. موقع وزارة الخارجية السعودية، على الرابط:

https://riyadhsummit2017.org/Arabic/MediaPress/Index/69

(6) “الملك سلمان: النظام الإيراني يشكل رأس حربة الإرهاب العالمي”، رويترز 21/5/2017.

https://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKBN18H0R4

(7) انظر: “اعتدال”.. المركز العالمي لمكافحة التطرف “، الجزيرة نت 22/5/2017.

(8) ديفيد ماكوفسكي، “ترامب يبني علاقة في إسرائيل؛ هل تُرسم سياسات قادمة؟”، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى 23/5/2017. على الرابط:

http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/trump-builds-rapport-in-israel-policies-to-come

(9) “حكومة نتانياهو تجتمع للمرة الأولى عند البراق”، الحياة 29/5/2017.

 (10) David Rosenberg, ‘Netanyahu no longer supports two-state solution’, 29/05/17. http://www.israelnationalnews.com/News/News.aspx/230314

(11) محمد صالح صدقيان، “روحاني يدعو واشنطن إلى التحاور مجددا مع طهران”، الحياة 23/5/2017.

(12) “ظريف يحث ترامب على بحث تفادي تكرار هجمات 11 سبتمبر مع السعودية”، رويترز 21/5/2017. على الرابط:

https://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKBN18H0H6

وراجع أيضا: محمد جواد ظريف، “مستعدون لإهداء السلام إلى المنطقة”، العربي الجديد 20/5/2017.

(13) راجع: “حزب الله يصف الإدارة الأمريكية بالمجنونة أثناء زيارة ترامب للسعودية”، رويترز 21/5/2017. على الرابط:

https://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKBN18H0PK

(14) نادية محمود مصطفى، “التدخلات الخارجية ومسيرة أزمات المنطقة: التجربة التاريخية وآفاق المستقبل”، في: أسامة أحمد مجاهد (محرر ومراجع) إيران والعرب: المصالح القومية وتدخلات الخارج، برنامج الدراسات الحضارية وحوار الثقافات- كلية الاقتصاد والعلوم السياسية-جامعة القاهرة، 2009، ص 98.

(15) محمد السعيد إدريس، “المحدد الطائفي بين الخطابات المعلنة والسياسات الفعلية”، في: أسامة أحمد مجاهد (محرر ومراجع) إيران والعرب: المصالح القومية وتدخلات الخارج، ص 244.

 

ضع تعليقاَ