مثلت الانتخابات التي جرت مؤخراً في تركيا في ٢٤ حزيران واحدة من أهم المحطات في الحياة السياسية التركية، فهي الانتخابات الأولى التي تجري وفق الدستور والنظام الرئاسي الجديد، وهي أيضاً انتخابات برلمانية ورئاسية في نفس الوقت، وقد شهدت مشاركة واسعة جداً من فئات الشعب التركي المختلفة إذ تعتبر واحدة من أكثر نسب المشاركة بالمقارنة مع العديد من المناسبات السياسية الانتخابية السابقة، إذ شهدت استقطاباً وتحشيداً كبيرين.
استطلاعات الرأي التي أشارت طوال الفترة ما قبل الانتخابات إلى تقلبات المزاج الشعبي اتجاه المرشحين الرئاسيين واتجاه الاحزاب والتحالفات الانتخابية، والارقام التي نشرتها حول التقارب الكبير في النتائج المتوقعة للانتخابات، زادت من حدة المنافسة وصنعت مناخاً من التوتر والترقب الكبيرين.
الآن وبعد أن انتهت هذه الانتخابات وأصبحت كل نتائجها واضحة ومثبتة ورسمية، فإن تبعات هذه الانتخابات والأسئلة المهمة التي تثيرها والنتائج التي أنتهت إليها ستحتاج وقتاً وبحثاً جديين قبل التوصل إجابة دقيقة بخصوصها:
– شعبية العدالة والتنمية وحاجة الحزب إلى التحالف مع حزب آخر:
بعد سنوات من النجاح وبعد العديد من الانجازات، كيف يمكن أن ننظر إلى حاجة حزب العدالة والتنمية إلى التحالف مع حزب آخر،
هل نحن أمام تراجع فعلي في مكانة الحزب وشعبيته في الشارع التركي، وهل بدأ تألق العدالة والتنمية بالأفول وبالتالي فإن خط التراجع سوف يستمر وسنشهد في المحطات السياسية القادمة في تركيا مزيداً من التراجع في شعبية وأصوات الحزب، وصولاً لمرحلة الخسارة في مرحلة ما، أم أنه وضع عابر نتيجة الظروف والتحديات الكبيرة التي تمر بها تركيا والمنطقة وبالتالي فإن الحزب سيستعيد قدرته على التفرد والفوز بالاستحقاقات السياسية بمجرد أن تتجاوز تركيا الظروف التي تمر بها ؟،
وكيف يمكن لحزب العدالة والتنمية تجاوز هذا المأزق، هل الحزب بحاجة إلى تجديد جديد في صفوفه أو هل يمكن أن نشهد في الفترة المقبلة ظهور حزب جديد من رحم العدالة والتنمية يحمل إرثه ويكسب شعبيته الكببرة ؟
أم أن الحزب سيتجه للتماسك أكثر في الفترة المقبلة ولاستيعاب العديد من الشخصيات والأطراف الذين ابتعدوا أو أبعدوا نسبياً عن المشهد السياسي في تركيا خلال الفترة الماضية لسبب أو آخر، مع الاستمرار في تحقيق الانجازات وتسويقها في الداخل والخارج وإبرازها لتكون المرتكز الذي يستند إليه الحزب -كما في كل المناسبات السابقة- في الحفاظ على التفاف ودعم الناخبين الأتراك،
خصوصاً وأن هناك تركيزاً كبيراً من الحزب في الفترة الأخيرة على تقديم الشباب وإشراكهم في الحياة السياسية وهو أمر يحسب بشكل كبير لحزب العدالة والتنمية، وللتجربة السياسية بشكل عام في تركيا.
أياً كانت الخيارات التي تنتظر الحزب وأياً كانت المسارات التي ينوي قادة حزب العدالة والتنمية المضي بها فإن السنوات القليلة القادمة ستحدد شكل وطبقات وشخصيات الحزب لفترة طويلة مقبلة،
وتحدي الحفاظ على الشعبية والتألق والقدرة على الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان أو حسم الاستحقاقات السياسية الأخرى مثل (الرئاسة) منفردين، هذا التحدي وسؤال التعامل معه واحد من أهم الأسئلة التي أثارتها الانتخابات الأخيرة.
– التحالف بين العدالة والتنمية والحركة القومية:
وفي نفس السياق يأتي سؤال مهم آخر متعلق بخصوصية العلاقة بين الحركة القومية والعدالة والتنمية ولماذا كان التحالف بين العدالة والتنمية والحركة القومية بالذات،
فحزب الحركة القومية هو حزب سياسي يميني تركي لديه ظروف تشكل وآراء خاصة تشترك أحياناً بوضوح مع توجهات العدالة والتنمية أو خططه في إدراة الدولة التركية
إذ يعتبر حزب الحركة القومية من المعارضين لدخول تركيا في الاتحاد الأوروبي، ولدى الحزب آراء خاصة بالوضع الاقتصادي في تركيا وما يجب فعله لتحقيق مزيد من النمو الاقتصادي وسبق وأن حمل رئيس الحزب القومي أردوغان مسؤولية فقدان الليرة التركية قيمتها أمام الدولار في عدة مناسبات كما حمل حزب العدالة والتنمية وسياساته مسؤولية البطالة في تركيا،
كما انتقد رئيس الحزب في عدة مناسبات طريقة إدارة العدالة والتنمية للبلاد وصرح بأنه وحزبه جاهزون لإدارة البلاد بدلاً من العدالة والتنمية، حيث تقوم الرؤية العملية للحزب القومي على تولي السلطة وتشكيل الحكومة التركية منفرداً وجعل تركيا قوة إقليمية ثم تحويل تركيا لقوة عالمية بحلول عام ١٩٥٣.
فهل يمكن القول بأنه من المنطقي ان ينشأ تحالف ولو مؤقت بين الطرفين رغم الانتقادات المتبادلة بينهما على اعتبار وجود تقارب أو أرضية فكرية معينة مشتركة بين الطرفين كما يشير البعض، أم أن هذه الأرضية المشتركة هي أرضية متوهمة أو هشة لدرجة لا يمكن البناء عليها فعلياً وأن التحالف المزعوم بين الطرفين ليس أكثر من مجرد تحالف انتخابي لضمان كسب الأصوات وعبور حزب العدالة والتنمية مرحلة انتخابية صعبة في مقابل ضمان حصول حزب الحركة القومية على مكانة معينة في تركيا في السنوات القليلة القادمة؟
فإلى أي مدى يمكن أن تصمد هذه العلاقة وهذا التحالف في الأيام القادمة والذي بدأت بعض الاشارات حول تصدعه أو انتهاء فترة صلاحياته تظهر بالفعل في بعض التصريحات والأحداث الجارية،
وما تأثير هذا التحالف على مستقبل كلا الحزبين، وما موقف القواعد الشعبية لكلا الحزبين من هذا التحالف وهذه العلاقة
– مستقبل الحركة القومية بين الحزب القومي MHP والوجه الجديد الصاعد لحزب IYI بقيادة المرأة الحديدة:
فميرال آقشنر التي ترشحت وفازت في الماضي القريب عن حزب الحركة القومية لم تكن في الأصل من أعضائه المؤسسين أو القدامى وقد ترشحت قبل الفوز عن حزب الحركة القومية عن احزاب أخرى وشغلت منصب وزير الداخلية لفترة معينة وكانت الناطق باسم البرلمان لفترة أخرى،
لذا يمكن القول أنها وإن كانت تتمتع بالنزعة القومية التركية الواضحة فلطالما كانت شخصية متفردة لها مسارها الخاص ومسألة تشكيلها لحزبها الخاص وطرحها برنامجاً انتخابياً خاصاً أمر متوقع عاجلاً أو آجلاً،
إلا أن مسألة حصولها على هذا العدد الكبير من مقاعد البرلمان مقارنة بعدد المقاعد التي حصل عليها حزب الحركة القومية الذي انشقت عنه أو حزب الشعوب الديمقراطي الذي يتمتع بدعم شريحة معينة أمر ملفت للنظر.
فبالرغم من قصر عمر حزبها وترشحها لأول مرة ولكنها حققت نتائجاً لا تقل أهمية عن نتائج الحزب الذي انفصلت عنه على مستوى البرلمان، فهل ستتمكن ميرال آقشنر مع الوقت من تمثيل الحركة القومية في تركيا بحيث تصبح هي الممثل الجديد لهذا الحزب وهذه الحركة أسوة بعدة تجارب سابقة انشق فيها طرف ما من الحزب الأم ونجح في تحقيق تقدم لم يعهده الحزب الأم نفسه – كتجربة العدالة والتنمية مثلاً- أم ستكون مجرد تجربة عابرة وستعود جماهير وقوى الحزب القومي للالتفاف حول الحزب الأصلي ؟
وكونها تترشح وتعمل اليوم في تحالف قوى المعارضة الذي يقوده حزب الشعب الجمهوري فإن تقدمها والتفاف جماهير الحركة القومية في تركيا حولها إن حصل فإنه في الغالب سيعني ابتعاد هذه الشريحة عن العدالة والتنمية أكثر واندماجها أو توافقها بشكل ما مع الطرف الآخر.
– مستقبل حزب الشعب الجمهوري بعد الخسارة التي مني بها وتحالفه
وليس حزب الحركة القومية وحده من وضعته هذه الانتخابات بالاضافة للتطورات السياسية الأخيرة أمام استحقاق ظهور ممثلين جدد للحزب، فقد فتحت الخسارة التي مني بها حزب الشعب الجمهوري، في البرلمان والرئاسة، الباب للمطالبات بتقديم وجوه جديدة لإدارة الحزب ممن اثبتوا كفاءة أكثر في إدارة المرحلة والتعامل مع الجماهير وجذب أصواتهم
أحد الأمور اللافتة للنظر هنا أن معظم هؤلاء الجدد- إن صح التعبير- وفي مقدمتهم المرشح الرئاسي “محرم إينجه” يبدون أكثر تصالحاً او مرونة إلى حد ما ولو ظاهرياً مع القيم الإسلامية للشعب التركي ومع توجهات الفئة المتدينة والمحافظة بشكل ما، فتاريخهم الشخصي أقل صدامية مع مسألة الحجاب مثلاً ومع العلاقة مع الدين ومع الرموز الدينية ومع القيم والعادات والتقاليد التي لها منشأ أو طابع ديني،
ويخوض اليوم تيار معين في صفوف حزب الشعب الجمهوري حراكاً واضحاً لتغيير قيادة الحزب واستبدالها بهؤلاء القادة الجدد، وتتمحور الدعوات حول تمكين الشخصية التي برزت مؤخراً بشكل كبير في صفوف الحزب والمعارضة “محرم إينجة” ليحل محل الرئيس الحالي “كمال كيلجدار أوغلو”،
وتلقى هذه الدعوة فيما يبدو دعماً لا يتسهان به في صفوف جماهير الحزب وأعضائه إذ يحمل هؤلاء رئيس الحزب الحالي وفريقه مسؤولية الخسارات المتتالية التي عاشها الحزب طوال الفترة الماضية وفي المقابل، يبدي الكثيرون حتى من غير أعضاء حزب الشعب الجمهوري إعجاباً كبيراً بكاريزما وخطاب “محرم إينجه” وتبدو لهم فكرة توليه مسؤولية رئاسة الحزب أمراً محبذاً خصوصاً بعد الطريقة “الحكيمة” إن صح التعبير التي تقبل فيها خسارته في انتخابات الرئاسة، وإداؤه العام في هذه الانتخابات.
وبالتأكيد إن احتمالية حصول هذه النقلة وهذا التحول في قيادة أعرق وأكبر أحزاب المعارضة -الحزب الجمهوري- وتأثير ذلك على مكانة الحزب وحصته أحد أهم الأسئلة التي طرحها بفعل تبعات الانتخابات الأخيرة والتي ستأخذ حيزاً واسعاً من مشهد الحياة السياسية في تركيا في الفترة المقبلة وسيكون لها انعكاسات مهمة على واقع تركيا والعلاقة بين الأطراف السياسية فيها.
– المشاركة الواسعة للأكراد وتجاوز حزب الشعوب الديمقراطي العتبة الانتخابية
تجاوز حزب الشعوب الديمقراطي HDP الذي يمثل عملياً المكون الكردي العتبة الانتخابية وتحقيقه نتيجة معينة في انتخابات الرئاسة -هناك اختلاف كبير على وصفها بالجيدة أو السيئة- ، والاقبال الكبير نسبياً من قبل الولايات والمناطق التي تسكنها غالبية كردية على الانتخابات،
هل هذا مؤشر تحول في توجهات الأكراد نحو الانخراط في الدولة أكثر والعمل من بوابة الدولة والالتحام أكثر بالحياة السياسية في تركيا بعيداً عن مشروع الدولة الكردية المستقلة الذي أصيب بانتكاسة كبيرة في سوريا والعراق،
أم أنه طريقة لاثبات الوجود واضفاء شرعية سياسية على هذا الوجود بشكله المتمايز عن المشاريع الأخرى، وأن المشروع الانفصالي وحلم الدولة المستقلة للكرد حاضر في هذه الممارسة وهذه النتيجة وخطوة باتجاهها وليس بديلاً عنها ؟
وفي كلا الحالتين ما تأثير ذلك على مستقبل تركيا من ناحية ومستقبل الأكراد وعلاقتهم بمن حولهم من ناحية أخرى.
– مدى فاعلية النظام الجديد لإدارة البلاد والذي أصبح نافذاً بعد هذه الانتخابات
طريقة حكم تركيا في ظل النظام الجديد الذي أصبح شرعياً بالكامل وجاهزاً للعمل به بعد الانتخابات الأخيرة، هل فعلاً سيقدم طريقة أكثر فاعلية لإدارة الدولة ومواردها وبالتالي ستكون تركيا أكثر قدرة على تجاوز المشكلات والتحديات التي تواجهها -وفي مقدمتها تحدي الملف الاقتصادي- وستكون الآفاق أكثر اتساعاً أمام المزيد من الانجازات والتطورات التي تنتظرها ؟،
علماً أن المتحمسين والداعين لتبني النظام الجديد وفي مقدمتهم الرئيس أردوغان نفسه قدموا وعوداً كبيرة وأكدوا مراراً على فاعلية النظام الجديد والأثر الإيجابي الذي سيخلفه وهو ما يضفي على هذه الفترة الرئاسية تحدياً من نوع خاص إذ أن شريحة واسعة من الناخبين تتطلع اليوم إلى تركيا أكثر استقراراً وأكثر قوة وتنتظر أن ترى بوادر ذلك في الأسابيع القليلة القادمة.
باسل حفار: مدير مركز إدراك للدراسات والاستشارات