مشاهد غريبة انطبعت في محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا قبل أسبوع، مذيعة القناة التركية تتلو بيان الانقلاب تحت تهديد السلاح معلنة أن الجيش التركي سيطر على البلاد، مذيعة قناة سي إن إن التركية تحمل هاتفها ويدها ترتعش لتبث رسالة من أردوغان وعيناه مرهقتان يدعو فيها الأمة للنزول إلى الشوارع، مروحيات الهيلوكوبتر تطلق رصاصها بشكل عشوائي على المحتشدين، المساجد تطلق دعواتها كي يحتشد الناس ويتجمهروا ضد الانقلاب، قوات الشرطة والمدنيين يسيطرون على أفراد الجيش التركي، جندي مليء بالدماء بعد أن واجهه بعض المدنيين.
وبين كل هذه المشاهد كان هناك مشهد واحد تمسكت ذاكرتي به في خضم أحداث ١٥ يوليو في تركيا. كانت الساعة قد تجاوزت ٣ صباحاً بقليل، في ذلك الوقت كان قد مر ٥ ساعات منذ بدء تحرك الانقلابين. بدا الانقلاب وكأنه مرض جلدي ينتشر بسرعة، تجمع فريقنا حول شاشة لمشاهدة رمز الطائرة الصغيرة التي كان يتتبع مسار رحلة الرئيس رجب طيب أردوغان باتجاه مطار اتاتورك في إسطنبول. كان في ذهن مدبري الانقلاب حتمية قطع رأس الدولة التركية خاصة مع تواجد طائرات (F-16) تحلق في سماء إسطنبول وهو ما زاد من رحلة أردوغان القصيرة وغير المستقرة. زادت إثارة المشهد بعد أن بدأ الجميع بالتساؤل عن حال الرئيس وهل نجح بالوصول آمناً. بعدها بدقائق، ظهر الرئيس الذي لا يزال يرتدي بدلة وربطة عنق بشكل جريء على شاشة التلفاز مستخدما برنامج “فيس تايم” وتعهد بتطهير الجيش من القوات “الموازية” التي كانت وراء الانقلاب. وفي الوقت الذي كان يتحدث به أردوغان، ظهرت أمامي صورة قاتمة لمصطفى كمال أتاتورك، تشهد على مصير الجمهورية الملتوي الذي كان قد بناها قبل أكثر من ٩ عقود.
سارع العديد من المراقبين إلى تأطير محاولة الانقلاب على أنها تكرار لسيناريو تاريخي سابق: الجيش تدخل للدفاع عن المبادئ العلمانية الأتاتوركية العلمانية في وجه المدنيين الإسلاميين تمام كما فعل سابقاً في الفترة الممتدة بين ستينات وتسعينات القرن الماضي. هذه القراءة بكل وضوح تحمل تبسيطاً مفرطاً ويمكن الجزم بأن الزمن قد عفا عليها. فتركيا في القرن ٢١ لا تعيش تحت بنادق قوات النخبة والقوات المسلحة العلمانية، كما أنها لا تخضع لهيمنة حصرية من قبل إسلاميين متجانسين. فخطوط التصدع التركي هي أكثر تعقيداً بكثير مما تحمله هذه التفسيرات، وفهمها مهم جداً ليس لمعرفة جذور محاولة الانقلاب هذه ولكن لفهم المستقبل الجيوسياسي لتركيا أيضاً.
الانقسام بين الإمبراطورية والدولة القومية
تركيا تعاني من أزمة هوية لا مفر منها، وإن حاولنا أن نرسم تركيا في لوحة معلقة، فسنرى صورة لأمة ممزقة بين حراس العلمانية القدامى والمتواجدين إلى حد كبير في مناطق إسطنبول وبحر مرمرة الذين يربطون آسيا بأوروبا، وبين المناطق النائية الأكثر ورعاً والتي تتركز في مناطق هضبة الأناضول والتي تدمج تركيا مع العالم الإسلامي. استخدم أتاتورك سابقاً قصاصات ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى لبناء بلد تغذيها القومية وتسترشد الفلسفة الغربية. وفي منظوره، فإن الدولة التركية يجب أن تتجنب التكاليف العالية للإمبراطورية المتعددة الأطراف، وبدلاً من ذلك قام بالتركيز على معالم الحيز الجغرافي القوي والأكثر اعتدالاً في مناطق البحر الأسود والبحر المتوسط. شهد أتاتورك وفاة امبراطورية وولادة دولة قومية تركية. ومن أجل الحفاظ على تلك الدولة على قيد الحياة، قال اتاتورك بوظيفة الجيش للحفاظ على الروح العلمانية القوية لهذه الدولة. عند هذه النقطة – من وجهة نظره- ستكون تركيا قادرة على إدارة علاقات فعالة مع الغرب مع تجنب المشاحنات القاتلة في الأراضي الإسلامية خارج حدودها.
في الوقت نفسه، كان أتاتورك بحاجة إلى وسيلة لربط الأمة. وبدلاً من محاولة القضاء على دور الإسلام تماماً، حاول إضفاء الطابع المؤسسي على الدين، وقام بإنشاء رئاسة الشؤون الدنية لإدارة الدين بشروط الدولة واستخدامها لتمييز المواطنين الأتراك عن بقايا غير المسلمين داخل الإمبراطورية. فالبوسنيون والألبان والشركس وقعوا إلى حد كبير داخل الهوية التركية الجديدة، في حين أن الأقلية الكردية – ذات اغلبية مسلمة- تم تجريدها من التمييز العرقي وباتوا يعرفون منذ ذلك الحين على أنهم “أتراك الجبل”. في تلك الأُثناء، نمت هوية مبنية على الإسلام بهدوء في محيط تركيا.
كانت هذه هي تركيا في القرن ال ٢٠، وعلى مدى عقود سادت السياسة العلمانية والإمبراطوريات التجارية في ظل غياب محيط الأناضول الذي كان متوقعاً أن يخدم في دمج الأقليات ضمن الهوية التركية الوطنية. لكن بدءً من سبعينيات القرن الماضي، بدأ الداخل المحافظ في البلاد بإيجاد سبل لبناء نفوذ تدريجي في البلاد. وقد ساعدت الحركة الشعبية التي قادها فتح الله غولن – أحد ورثة سعيد النورسي- بشكل جزئي في محاولة لدمج الإسلام بالعلم والتعلم الغربي. وكانت هذه الحركة تعتمد على أن تركيا لا يجب أن تنأى بنفسها عن الغرب في ظل احتضانها للإسلام، ولكن بدلاً من ذلك عليها أن تأخذ أفضل ما في العالمين.
ووفق غولن، فإن تشكيل تركيا بهذه الصورة يحتاج في البداية إلى حشد عدد كبير من المؤمنين داخل مؤسسات الدولة التركية. وفي إحدى خطبه دعا غولن أنصاره إلى “التحرك في شرايين النظام دون أن يلاحظ أحد تواجدهم حتى يتمكنوا من الوصول إلى كل مراكز السلطة”. وفعلياً، فعل أنصار غولن ومن هم تحت وصايته هذا الأمر وكذلك كل من يسعى إلى تقليده. حيث استغل هؤلاء الحريات والتراخي الموجود في الدرك الذي كان مسؤولاً عن تأمين المناطق النائية في البلاد لبناء وجود لهم في قوات الأمن. في الوقت نفسه، حرصوا على بناء شبكة علاقات تربط بين رجال الأعمال في الأناضول وأسواق الشرق الأوسط، وآسيا الوسطى وأفريقيا من أجل تحدي هيمنة عمالقة العلمانية في إسطنبول. وفي ظل هذا النشاط، ظهرت شركات الإعلام المؤثرة والمدارس وبرز قضاة ومعلمون وسياسيون ورجال شرطة وجنرالات جيش من تلك المناطق، في حقبة جديدة في تركيا احتضنت فيها الدولة مرة أخرى الهوية الإسلامية وتمكنت من الحفاظ على موطئ قدم لها في الغرب.
وحتى نهاية حقبة الثمانينات ساهمت البيئة الأمنية وتبعات الحرب الباردة الجيش كثيراً في امتلاك السلطة المؤسسية اللازمة لتعزيز وطرد أي من الحكومات المدنية التي انحرفت كثيراً عن النموذج العلماني لأتاتورك. لكن وفي سلام نسبي بعد بداية من التسعينات ونهاية الحرب الباردة، نحى الجيش منحاً آخراً واضطر لاستخدام وسائل أكثر دهاءً لإجبار أول حكومة إسلامية في تركيا للتنحي عن السطلة “انقلاب ما بعد الحداثة”. وفي مطلع هذا القرن، بدا واضحاً ضعف قدرة الجيش إلى حد كبير على إخماد أي اتجاه اسلام بشكل بسيط وسريع كما كان الحال سابقاً.
صعد حزب العدالة والتنمية الحاكم كقوة كبيرة مستغلاً القفزة والازدهار الاقتصادي الهائل في مطلع القرن، وضم قاعدة دعم قوية امتدت من إسطنبول إلى قلب الأناضول. وكلما تضخمت ثقة الحزب وحلفائه، سعى الحزب إلى تحييد القوة التي ساهمت في إقصائه لسنوات طويلة. أطلقت الحكومة سلسلة من المحاكمات الثقيلة التي تهدف إلى اجتثاث “الدولة العميقة” من قوميين متشددين وضباط عسكرين وقضاة ورجال أعمال تحدوا تركيا الجديدة. وبحلول منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، تمكن الإسلاميون من التوغل بعمق الجيش، فيما كانت وسائل الإعلام القريبة من غولن متسلحة بعلاقات جيدة مع المخابرات والتي استخدمت كثيراً لابتزاز العسكريين. ومن خلال سلسلة من التجارب ساهمت كثير من المحاكم التي كان يرأسها قضاة مناصرين لغولن في تطهير الجيش وصفوف القوات الجوية وتمل ملء الدرك والجيش والقوات البحرية من أنصاره.
النموذج المتصدع بين الإسلاميين الأتراك
لا يمكن الشك باستفادة أردوغان من إضعاف الجيش على أيدي أنصار غولن. لكن ذلك في نفس الوقت زاد قلق أردوغان من مدى قوة الغولنيين. فغولن من منفاه الاختياري في بنسلفانيا الأمريكية، بدأ في فرض نفسه سياسياً وأعرب علناً عن رفضه لسياسات أردوغان. وفي عام ٢٠١٣، حينما حاول أردوغان تعزيز أوراق اعتماده في العالم العربي من خلال الاستفادة من المواجهة بين تركيا وإسرائيل حول حادثة مرمرة، انتقد غولن موقف أردوغان ضد إسرائيل. لكن القشة التي قسمت ظهر البعير جاءت بحلول أواخر ٢٠١٣، عندما حاولت حركة غولن الاستفادة من نفوذها داخل السلطة القضائية وقامت بتسريب تسجيلات صوتية بغية توريط الدائرة المقربة من أردوغان – بما فيهم ابنه بلال – في قضايا فساد.
ومنذ ذلك الحين، أخذت الفجوة بين الغولنيين ومؤيدي أردوغان بالاتساع بشكل كبير. في عام ٢٠١٤، بدأ المدعى العام – المناصر لغولن- باستهداف أحد أهم حلفاء أردوغان، هاكان فيدان، عبر اتهامه بالتورط في محادثات سرية مع حزب العمال الكردستاني (PKK). (يبدو أن غولن استاء من أردوغان وفيدان، رئيس المخابرات التركية، لإدارتهم محادثات السلام مع الأكراد دون إشراك حركته). في العام نفسه، انتقد غولن بشكل صارخ حملة أردوغان ضد مظاهرات غازي بارك، واستعان غولن حينها بأحزاب المعارضة العلمانية التي تتعارض جذرياً مع آرائه الخاصة في محاولة لتقويض حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا. ومع تعمق الصراع، أيقن أردوغان أنه سيكون أفضل حالاً لو تمكن من نزع سلاح الغولنيين في الوقت الذي لا يزال قادراً على القيام بذلك. وعليه قام أردوغان بإطلاق حملة ودولية لاستهداف حليفه الإسلامي السابق مستخدماً نفس الأسلحة التي سبق وأن استخدمها غولن ضد الجيش.
وابتداءً من ٢٠١٤، أغلقت الحكومة التركية مكاتب وسائل الإعلام التابعة لغولن وحجزت البنوك والشركات وأغلقت المدارس وأقالت قضاة بتهمة الانتماء للجماعة. ولكن على صعيد الجيش، فقد كانت المهمة غير منجزة بشكل كامل. يعرف أردوغان أن أكبر تهديد يكمن للحكومة يتواجد في الجيش، لكنه قرر معالجتها على مراحل. ويبدو أن فيدان التقط رياح الانقلاب أثناء التحضير له، وكان متردداً في اعتقال منفذيه مع قرب اجتماع المجلس العسكري الأعلى في الأول من أغسطس القادم. الانقلابيون ومع انكشاف غطائهم، عملوا على تسريع جدولهم الزمني وبكروا من موعد الانقلاب متفقين على تنفيذ خطتهم في ١٥ يوليو الجاري. لكن حقيقة أنهم فصيل ذا أقلية داخل المؤسسة العسكرية وضع تحركهم في مغب المحكوم عليه قبل بدايته. فالمنفذون ذهبوا في استنساخ سيناريوهات حقب ماضية مع الحرص على السيطرة على وسائل الاعلام التي تديرها الدولة دون إيلاء وسائل الاعلام الخاصة نفس الاهتمام. المشاعر المناهضة للانقلاب جعلت مناهضي أردوغان يتجاوزون خلافاتهم كما يتضح من الحشود الضخمة في شوارع تركيا، وبيان الوحدة ضد الانقلاب الذي ادلت به الأحزاب السياسية الرئيسية في البلاد ساهم في بدء انهيار الانقلاب عد مضي ساعتين فقط من عمره، وخلال أقل من ٢٤ ساعة كان الانقلاب قد انهار تماماً.
وقت غير مناسب للانشغال
كل هذا يفسر كيف وصلت تركيا إلى هذه النقطة العنيفة، لكن الطريق أمامنا سيكون معقد على حد سواء. وستكون النتيجة الأكثير إلحاحاً للانقلاب الفاشل هي حملات التطهير المتفشي. وحتى كتابة هذا المقال، فقد تم القاء القبض على ٣٠٠٠ جندي و٢٧٠٠ قاضي. ولكن من أجل الوضوح، فإن حركة غولن لم تكن الوحيدة التي تتحدى حكم أردوغان. فعلى الرغم من أن تسلل الغولنيين للجيش كان عاملاً رئيسياً في محاولة الانقلاب، إلا أنهم قد جرى استخدامهم من قبل مناهضي أردوغان تماماً كما استخدمهم حزب العدالة والتنمية قديماً كأداة لتوسيع قوته ونفوذه. ومع ذلك، فإن الرئيس أردوغان سيستمر في استخدام وصف “الموازي” لتسمية الحركة الواسعة النطاق للمنشقين من جميع الأنواع. وهذا ليس للقول بأن الانقلاب كان كذبة صممها أردوغان لتوطيد سلطته إلى أبعد من ذلك فقط لأنه استغل القضية البشعة لتسريع خططه لإصلاح الدستور بدعوى تخليص تركيا من ويلات الانقلابات. على كل هذا سيمكنه من زيادة صلاحيات رئاسة الجمهورية وتوسيع آفاقه لتضييق الخناق على المعارضة.
وبشكل حتمي كان لا بد من محاضرة أوروبية في حقوق الانسان إلا أنها وقعت على آذن صماء. فقادة تركيا سيفعلون ما يرونه هاماً وضرورياً للشعور بالأمان وسيسعى نظراؤهم الأوروبيين من أجل الحفاظ على اتفاق هجرة واهي مع أنقرة. فيما سيستخدم أردوغان حاجة الولايات المتحدة لتعاون تركيا في الحرب على داعش للضغط عليها من أجل تسليم غولن.
وبعيداً عن المدى القصير لآثار هذا الانقلاب، ستاتي مرحلة المقايضة مع الغرب حيث تحيط بأنقرة أخطار كثيرة. فحملات الحكومة لإصلاح الجيش ستستغرق وقتاً طويلاً بعد تمرد بهذا الحجم، وتطهير العساكر من مناصري غولن سيأخذ وقتاً طويلاً، وقد تزداد الأرقام لتصل إلى آلاف بما فيهم بعض كبار قادة الجيش، وقد نشهد إعدامات في صفوفهم. الأكراد والجماعات اليسارية المتطرفة ستكون قادرة على استغلال الضعف الشديد في تركيا لتنفيذ المزيد من الهجمات وتغذية القوى المستقطبة في الدولة. في الوقت نفسه، سينمو الضعف الخارجي التركي. وستواجه أنقرة تهديدات داخلية من انفصاليين أكراد ونزاعات مع الحكومات السورية والإيرانية والروسية وسيكون هناك المزيد من التحديات لطموحات تركيا في الشرق الأوسط. أما الولايات المتحدة فستكون غير قادرة على الاعتماد بشكل موثوق على تركيا لإدارة التهديدات مثل داعش وغيرها، وستضطر إلى تحمل عبء أثقل في المعارك القادمة، بينما ستحاول القوى السنية الأخرى مثل المملكة العربية السعودية الحصول على دور أكبر لها في المنطقة.
هنا ستواجه تركيا أزمة الهوية مجدداً، ففي هذه المرحلة من الدورة الجيوسياسية بدأت تركيا في السير على طريق الأجداد العثمانيين وهي التي تجبرها على تعميق المشاركة خارج حدودها سواءً في المناطق القريبة مثل شمال سوريا والعراق او تلك البعيدة كما في ليبيا وغزة وناغورنو وكاراباخ. في الوقت نفسه، على القادة الأتراك حماية الحدود الأتاتوركية وحماية الحدود الوطنية للجمهورية التركية وبالتالي ستصبح هنا التناقضات السياسية أكثر تواتراً، وقد تظهر إجراءات الفصام في تركيا قريباً. وقد سبق للحكومة التركية أن تمكنت من التوصل إلى اتفاق سلام مع الأكراد، إلا أن المطالبات بمزيد من الحكم الذاتي وبعض من الظروف الأخرى أطاحت بهذه العملية وتحولت الجماعات الكردية إلى إرهاب الدولة.
في الوقت ذاته، يزداد الجدل حول فوائد التدخل العسكري التركي في سوريا أو العراق لأغراض الضرورة، في حين يدعي آخرون أن هذا هو الطريق الذي حذر أتاتورك منه وأشار إلى أنه سيقود تركيا إلى الدمار.) ليس من قبيل الصدفة ان أول قرار للقوات المنقلبة كان ينبغي ان يشمل انسحاباً للقوات التركية من شمال العراق). بل حتى الإسلاميون أنفسهم يختلفون حول التكتيكات التي يجدر بتركيا اتباعها لإعادة نفوذها داخل العالم الإسلامي. فجماعة غولن يستخدمون القوة الناعمة من خلال المدارس والصفقات التجارية ووسائل الإعلام، في حين أردوغان –يواجه مجموعة من القيود كونه رئيساً للدولة- فهو أكثر استعداداً لنشر القوات المسلحة لإدارة التهديدات الخارجية والطموحات الأكثر عدوانية في تشكيل الشرق وفقاً لرؤيته.
السلام المستعصي في تركيا
مذيعة القناة التركية التي تلت البيان تحت تهديد السلاح في ١٥ تموز، أعلنت في بيان قادة الانقلاب عن تشكيل “مجلس السلام الوطني” للحكم في مرحلة ما بعد أردوغان. فعبارة “yurtta sulh, cihanda sulh” تترجم إلى “سلام في الوطن وسلام في العالم” وسبق لأتاتورك أن تكلم بها للمرة الأولى عام ١٩٣١. وأصبحت شعاراً رسمياً لسياسة تركيا الخارجية مما يعزز فكرة أن الجمهورية المستقرة سوف تمكن تركيا من الاستجابة بفعالية للمشاكل التي تنشأ خارج حدودها. لكن المشاكل التي تواجه تركيا اليوم ليست نفس تلك المشاكل التي واجهتها في أوائل القرن العشرين، والتفسيرات التي تتحدث عن توازن بين المسالمة والمغامرة وحاجة تركيا لإنتاج السلام داخليا وخارجيا ستشهد تنوعاً متوقعاً. وما نستطيع قوله على وجه اليقين الآن هو أن لا ينبغي علينا توقع السلام في تركيا أو أي مكان آخر في أي وقت قريب.
صعود الطبقة التركية المحافظة هو مشروع أخذ عقوداً طويلة ومن شأنه أن يدوم لعقود أخرى، وبغض النظر عما إذا كان أردوغان على رأس هذه الطبقة أم لا، فإن تركيا ستواصل مسارها التوسعي، وهو المسار الذي كان من المرجح أن يختزل عن طريق انقلاب عشوائي من قبل مجموعة يقودها إسلاميين وقوميين متنافرين. تركيا على هذا الطريق في بداية مرحلة جديدة من التاريخ لأن الجغرافيا السياسية على وصاية في ذلك، لكن لا يمكننا القول أن الأمر سيكون سلساً.
ريفا غوجون: باحثة في مركز ستراتفور متخصصة في الشؤون الاستراتيجية ولها العديد من الاسهامات والتحليلات المتعلقة بالحركات والاتجاهات الناشئة في معظم مناطق العالم