من هنا يمكن الحصول على نسخة PDF من هذه المادة
بقلم: ستيفن والت
ترجمة: جلال خشيب
لا يُمكنُ لأحدٍ أن يُنكر بأنّ هذا الوقت وقتٌ جذّابٌ لدراسة الشؤون الدولية. تُعدُّ المجتمعات اليوم مُترابطةً بطرقٍ أكثر من أيّ وقتٍ مضى. تستمر الدول في التنافس والتعاون، التعايش والتعاون والتنافس مع الشركات، الحركات الإجتماعية، المنظّمات غير الحكومية، المنظمات الإجرامية وغيرها من الأشكال الإجتماعية العديدة. اليوم، تخضعُ المؤسّسات والأرثوذكسيات التّي كانت من قبل غير قابلةٍ للمسائلة تحت الحصار، كما أنّ النظام العالمي الذّي عرفناه لعقودٍ يمرُّ بتغييراتٍ جذرية. لقد عادت سياسات القوى العظمى من جديد (بعد استراحةٍ وجيزةٍ)، توازن القوى في حالة تحوّلٍ مع إحداث آثارٍ بعيدة المدى، كما أنّ التفاعلات المُعقدّة بين السياسات والاقتصاديات الدولية صارت أكثر تجليّاً عاماً بعد عام. يصير الكوكب أيضاً أكثر حرارةً بشكلٍ يُنذرُ بإمتدادٍ واسعٍ ونتائج سلبيةٍ في العقود القادمة على الأغلب. نظراً لكلِّ ذلك (وأكثر)، فإنّه من السهل فهم سببُ إهتمام عددٍ كبيرٍ من الشباب بهذا الموضوع (أي دراسة الشؤون الدولية).
حتّى وإن كانت أوقافنا اليوم في حالةِ نموٍّ وأقسامنا تمتلئُ بطلاّبٍ متحمّسين، فإنّ هؤلاء الذّين يدرسون منّا في مدارسٍ السياسة العامة والشؤون الدولية ليس لديهم أيُّ سببٍ ليكونوا راضين، لماذا؟ لأنّه ليس من الواضح أنّنا نقوم بأداء أحسن ما في وسعنا.
بإمكاننا أن نجذبَ العديد من الطلاّب المُلهِمين (والمُلهَمين)، كما أنّنا نسارع بفخرٍ في الإشارة إلى إنجازاتهم اللاحقة. لكن وبالرغم من كلّ ذلك، فإنّ نمو التعليم الإحترافي للشؤون الدولية في الخمسين سنة الماضية لا يبدو أنّه يُلهمُ بإستمرارٍ ممارسة سياسةٍ خارجيةٍ أفضل أو يُتيحُ مُخرجاتٍ أفضل. أنا لا ألوم مدارس الشؤون الدولية لكلِّ هذا الفشل، لكن هل من المحتمل بأنّنا لا نُساعد –في نجاح ذلك- مثلما نظنّ أنّنا نفعل؟
لقد كانت صناعة السياسة الخارجية في الولايات المتحدة بمثابة الشغل الشاغل “للمنشأة الشرقية” القديمة، مثلما تجسدّت في مؤسّساتٍ على غرار مجلس العلاقات الخارجية، ومجلس “رجال الحكماء” من أمثال جورج كينان، دين أتشيسون، جون ماك كولي وغيرهم من الذّين لعبوا أدواراً أساسيةً في إنشاء نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن، ومع خبراتٍ قليلة، لم يكن أيّاً من هؤلاء يحظى بتدريبٍ عالي المستوى في الشؤون الدولية. على سبيل المثال، فلجورج كينان شهادةُ بكالوريوس في التاريخ وقد التحق بوزارة الخارجية بعد تخرّجه مباشرةً. لكن وعلى العموم، فقد كانت إنجازاتهم مثيرةً للإعجاب حقّاً.
Top U.S. Undergraduate Institutions to Study International Relations
- Harvard University 51.10%
- Princeton University 49.14%
- Stanford University 41.67%
- Georgetown University 39.46%
- Columbia University 32.97%
- Yale University 21.08%
- University of Chicago 20.96%
- George Washington University 17.40%
- American University 15.20%
- University of California—Berkeley 11.64%
لكن مع نمو الدور الأمريكي العالمي، فقد بدا بأنّ صناعة السياسة الخارجية تحتاجُ خبرةً أكثر تخصّصاً. في سنوات الستينيات من القرن الماضي وحسب كلٍّ من إ. م. دستلر، ليسلي غيلب وأنتوني لاك، فإنّ “ثورةً في بُنية قيادة السياسة الخارجية الأمريكية كانت قد أخذت مكانها. كانت السُلطة تنتقل تدريجياً من المُنشأة الشرقية القديمة إلى نخبةٍ إحترافيةٍ، أي من مصرفيين ومحامين كانوا يأخذون عُطلاً (عن وظيفتهم الأصلية) لأجل المساعدة في إدارة شؤون الحكومة إلى خبراءٍ في السياسة الخارجية متفرّغين بوقتٍ كامل لأجلها”.
قد يعتقد المرء بأنّ هذه التوسعة في الخبرة المهنية من شأنها إحداثُ تحسينٍ ضخمٍ في مؤسّسة “الحرس القديم”، وأنّها سوف تُنتج قراراتٍ سياسيةٍ أكثرَ ذكاءً ونجاحاً. وبدلاً من الاعتماد على مجموعةِ نخبٍ مختارةٍ ذاتياً ومنبثقةٍ بشكلٍ أساسيٍ من عالَمِ الشركات، فإنّه سوف يتّم مُباشرةُ السياسة الخارجية الأمريكية من طرف مجموعةٍ أكثرَ تنوّعاً من الخبراء ذوي تدريباتٍ متخصّصةٍ في الاقتصاد، الشؤون العسكرية، التاريخ، الدبلوماسية أو الدراسات الإقليمية. على المستوى النظري، فإنّ صدام وجهات النظر المتنافسة بين هؤلاء الخبراء المُكوّنين بشكلٍ جيّدٍ، من شأنه أن يُولّدَ نقاشاتٍ حيويّةٍ، وبالتالي ضمان الفحص المُسبق للخيارات السياسية البديلة، الأمر الذّي يجعلُ الأخطاء الكبرى أقلّ إحتمالاً للحدوث، وحينما تحدثُ أخطاءٌ ما –وهي تحدثُ بشكلٍ حتميٍّ- فإنّ هذه الثلّة – من الخبراء- المدرّبة جدّاً، والتّي تحظى بكفاءةٍ مهنيةٍ عاليةِ المستوى في مجال السياسات، سوف تُحدّدُ بشكلٍ سريعٍ مَكمنَ الثغرات وتَعمدُ إلى تغيير المسار بالشكل الأنسب.
للأسف، فإنّ هذه الصورة الجذّابة لنخبةٍ مُحترفةٍ مُدرّبةٍ منضبطةٍ لا تصفُ بشكلٍ كليٍّ حقيقة مجتمع السياسة الخارجية المعاصر، أين يسودُ التوافق والانسجام على الرغم من الإقتتال الداخلي الدائم حول التكتيكات، المواقف والمكانة. كما أنّ التوسعة الممتدّة للخبرة المهنية الإحترافية لا تبدو بأنّها تُترجمُ بشكلٍ موثوقٍ إلى سياساتٍ أكثر عقلانيةً وفاعلية.
لما قد يكونُ الحالُ كذلك؟
أحدُ المشكلاتِ الواضحة هي أنّ إدارة “الشؤون الدولية” ليست في الحقيقة مهنةً إحترافيةً بقدرِ ما هي مهنة سياسية. لا يتّم إختيارُ قادة السياسة الخارجية المُؤثرين بشكلٍ صارمٍ لأجل ما يحظون به من خبرةٍ ولكن لأجل قناعاتهم الإيديولوجية، سُمعتهم، علاقاتهم الشخصية، وولاءهم السياسي، فلا يضطر أيُّ شخصٍ لإجتياز الإختبار النهائي “لممارسة السياسة الخارجية” أو الحصول على شهادةٍ من طرف لجنةٍ إحترافيةٍ من الخبراء مثلما يضطرُ جرّاج القلب إلى فعل ذلك. للتأكّد من ذلك، فإنّ عدداً كبيراً من الناس العاملين في مراكزٍ بحثيةٍ أو وكالاتٍ حكوميةٍ يَحظون بتدريبٍ متقدّمٍ في مجالهم هذا، لكن هناك عددٌ كبيرٌ من الناس أيضاً صعدوا إلى القمة من دون الإستفادة من أيّ تدريبٍ متقدّمٍ على الإطلاق. فلننظر إلى المستشار الأول للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنار، لنرى أنّ مُؤهّله الوحيد لهذا المنصب المؤثّر هو صلةُ القرابة هذه، أو لننظر حتّى إلى وزير الخارجية ريكس تيلرسون الذّي يحظى بشهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية. أمّا نائب مستشار الرئيس باراك أوباما السابق لشؤون الأمن القومي بين رودس، وهو روائيٌ طموحٌ، فقد كان يحظى ببكالوريوس في العلوم السياسية وماستر في الفنون الجميلة للكتابة الإبداعية (وهو على نحوٍ لا يمكن إنكاره، ليس بمؤهِّلٍ سيئٍ بالنسبة لكاتبِ خطابات). دعونا أيضاً لا ننس أحد المستشارين السابقين للرئيس “دونالد ريغن” لشؤون الأمن القومي، ويليام كلارك، والذّي لم يُكمل دراسته الجامعية على الإطلاق.
ليس المقصدُ هنا أنّ هؤلاء الناس لم يكونو أصحاب كفاءةٍ بشكلٍ حتميٍّ، بل يتمثّلُ في كونهم جميعاً حظوا من قبل بمسؤولياتٍ غير إعتياديةٍ في السياسة الخارجية رغم غياب تدريبٍ إحترافيٍ مهنيٍّ جدّيٍ في الشؤون الدولية. في الولايات المتحدة على الأقل، فإنّ تحصيل شهادةٍ مُتقدّمةٍ في الشؤون الدولية أو في حقلٍ ذي علاقة، قد يكون أمراً مُحبّذاً، إلاَّ أنّه بالكاد يُعتبرُ شرطاً مُسبقاً أساسياً لوظيفةٍ ساميةٍ عُلياَ في السياسة الخارجية.
السبب الثاني، بل حتّى السبب الأكثر واقعية، هو أنّ تحصيل تدريبٍ مُتقدّمٍ لا يُعدُّ ضماناً للنجاح. إنّ إدارة السياسة الخارجية لهو مسعى مُعقّد ويفرضُ تحدّياً –خصوصاً بالنسبة لقوة عظمى طموحة- فحتّى أكثر الناس ذكاءً، إجتهاداً وأحسنهم تعليماً بإمكانهم الإخفاق في كثيرٍ من الأحيان. لقد كان الأشخاص الذّين أداروا السياسة الخارجية في عهد جورج دبليو بوش أصحابَ سيرٍ ذاتيةٍ متألّقةٍ (وكثيرٌ منهم كانت معه شهادة دكتوراه مرموقة)، إلاّ أنّ إشرافهم على السياسة الخارجية الأمريكية كان في معظمه كارثةً. بشكلٍ مشابهٍ، حَظِيَ أوباما في إدارته بعددٍ كبيرٍ من الأشخاص الأذكياء والمتعلّمين بشكلٍ جيّدٍ، عمِلوا لصالحه أيضاً، وقد تسبّبوا في قرارٍ خاطئٍ بأفغانستان سنة 2009، كما تعثّروا بشكلٍ سيّءٍ أيضاً عبر ليبيا وأوكرانيا.
أنبّهكم بأنّي لا أدافعُ هنا عن الجهل أو أرى بأنّنا كنّا سنقوم بالأحسن لو أنّ المسؤولين الحكوميين كانوا يعرفون أقّل. على العكس من ذلك، فإنّي متأكّدٌ 100% بأنّ الآلاف من الأشخاص الذّين تلقّوا تدريباتٍ مُتقدّمةٍ في الشؤون الدولية يُؤدّون وظائفهم كنتيجةٍ لذلك في الحكومة، الأعمال أو القطاعات غير الربحية بشكلٍ أكثر فاعلية. مع ذلك، فإنّ مدارس الشؤون الدولية عندنا، لا يزال بإمكانها أن تُؤدّي وظيفتها بشكلٍ أفضل في إعداد هؤلاء لأجل هذه المناصب. بعد قضائي للجزء الأكبر من حياتي المهنية في مدرسةٍ للشؤون الدولية (خمسة سنوات بمدرسة ويدرو ويلسون التابعة لجامعة برينستون، و18 عاماً إلى الآن بمدرسة كينيدي التابعة لجامعة هارفرد)، أُقدّمُ هنا خمسة طُرقٍ بإمكانها أن تُحسّن هذه التجربة.
1. ربطُ النظريةِ بالممارسة السياسية:
مِثلما يعرفُ بعضٌ منكم، فإنّي أعتقدُ بأنّ النظرية، ببساطة، لا غنى عنها لأجل بلوغ تحليلٍ جيّدٍ للسياسات وتقديم توصياتٍ جيّدة أيضاً. إنّ العالم مُعقّدٌ بشكلٍ لا نهائيٍ، ونحنُ بحاجةٍ إلى خرائطٍ منطقيةٍ بسيطةٍ لفهم هذا العالم، ولتحديد الأمور الأكثر أهميّةً ولمساعدتنا لتوقّع النتائج المُحتملة للقرارات السياسية. من دون نظرية، فإنّ أفضلَ ما يُمكن القيام به هو الإستقراء من الظروف القائمة، وهذه مقاربةٌ ناذرةُ العمل والنجاح. علاوةً على ذلك، فإنّ الإلتزام القوّي بنظريةٍ سيّئةٍ (مثلاً، النظرية الماركنتينية، الماركسية-اللينينية، نظرية الدومينو، إلخ)، أمرٌ من شأنه أن يُسبّب ضرراً ضخماً. على الرغم من إستهزاءِ صنّاع القرار أحياناً “بمُنظرّيِ البُرج العاجي”، فإنّ الحقيقة هي إستخدامُ كلٍّ منهم لشيءٍ من خامِ النظرية لإضفاء معنى ما على ما يحدث حولهم، فوجودُ أرضيةٍ شاملةٍ في النظرية لهوَ أمرٌ لا يُقدّرُ بثمنٍ لأجل تطوير قُدراتنا النقدية وقُدراتنا التّي تُمكّننا من رؤية “الصورة الكبرى”.
للأسف، لا تُعدُّ أيٌّ من نظرياتنا القائمة –سواءً النظريات الكبرى كالواقعية واللبيرالية أو النظريات المتوسطة التّي تتعاملُ مع مسائلٍ كالأحلاف، الإكراه والعقوبات- صالحةً تماماً، الأمرُ الذّي يُؤدّي إلى نزاعاتٍ لا نهائيةٍ بين مُؤيّديها، كما يُؤدّي ببعضهم إلى الإستنتاج بشكلٍ خاطئٍ أنّ نظريات العلاقات الدولية ليس لها أيّةُ قيمةٍ على الإطلاق. علاوةً على ذلك، فإنّ ربط النظرية بالممارسة السياسية وإظهارُ كيف بإمكان النظرية أن تُنير وتُوضّح الخيارات السياسية لهوَ أمرٌ ليس بالسهل. كنتُ أُدّرسُ مقياساً يُحاول فقط القيام بهذا الأمر لأكثر من 15 سنة، وحينما نال الدرسُ شُهرةً بين الطلبة، صرتُ أرى بأنّي كُلِّلتُ بنجاحٍ جزئيٍ فقط، كما استمريتُ في البحث عن طرقٍ أفضلَ لمنح الأدوات التحليلية البسيطة والقدرة على التفكير النقدي الذّي يحتاجه قادةُ المستقبل.
Top Master’s Programs for Policy Career in International Relations:
- Georgetown University 60.53%
- Harvard University 49.43%
- Johns Hopkins University 48.30%
- Princeton University 37.58%
- Columbia University 37.45%
- Tufts University 30.90%
- George Washington University 29.38%
- American University 21.06%
- London School of Economics 18.16%
- University of Chicago 13.75%
2. تدريسُ إقتصادٍ أكثرَ فائدةٍ:
عُلماء الإقتصاد الدولي ماهرونَ جدّاً في تدريس مقاييسهم المهنية: نظرية الميزة النسبية، القواعد الأساسية للمالية الدولية ومجموعة متزايدة من الأدبيات المتعلّقة بالتنمية. لكن، مع بعضِ الإستثناءات المُهمّة (بما فيها، إذا حُقَّ لي القول، العديد من زملائي هنا بمدرسة كينيدي)، هم ليسوا جيّدين في تدريس الميكانيزمات الراهنة للنظام المالي الدولي. (كيف يعمل نظام ال SWIFT بالضبط؟ ما الذّي يحدث حقيقةً أثناء المفاوضات التجارية مُتعدّدة الأطراف؟)، كما لا تزال مدارس السياسة العامة غيرُ جيّدةٍ جدّاً في كشف الإرتباط بين الاقتصاد والسياسة وفي مساعدة طلبتنا على فهم كيفية تأثير أحدهما على الآخر. يقوم زميلي داني رودريك ببعضٍ من العمل العظيم في المسألة الأخيرة، لكن شعوري يقول بأنّ العديد من دروس الإقتصاد في مدارس الشؤون الدولية لا يتعدّ كثيراً حدود دروس الإقتصاد الجزئي والكلّي التّي قد يتحصّل عليها المرء على مستوى البكالوريوس في مادة الإقتصاد. مثل هذه المعرفة ليست دون قيمةٍ بالطبع، إلاّ أنّ مدارس الشؤون الدولية بإمكانها أن تقوم بالأفضل إذا ما كان –أساتذتها- أقلّ هوساً بمحاولة نيل إعجاب زملاءهم الآخرين عبر أقسام الإقتصاد.
3. التاريخ:
يُعتبرُ تجاهلُ التاريخ وإهماله بمثابة العجز الأكثر جدّيةً. لقد إنحصرَ التاريخ الدبلوماسي والدولي في أحلك الأوقات بمعظم أقسام التاريخ، ولقد كان من المثير للإهتمام مُلاحظةُ الكيفية التّي تمكّنت عبرها مدارس الشؤون الدولية من تولّي زمام الأمور، (ويُعدُّ تعيين فرانك جافين بمدرسة الدراسات الدولية المتقدّمة بجامعة جونز هوبكينز مثالاً على ذلك، كما هو الحال بالنسبة لكلٍّ من فريد لوجيفال، أرني ويستاد وموشيك تِمكين بمدرسة كينيدي). هناك سببٌ واضحٌ لهذا الإتجاه: لا تكاد تُوجد مسألةٌ دوليةٌ مُهمّة يُمكن فهمها، ناهيك عن حلِّ مشكلاتها، من دون معرفةِ الكثير عن مساراتها التاريخية التّي أنشئتها. كيف يُمكن للمرء أن يفهم الأزمة في أوكرانيا –أو يفهم سلوك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين- من دون معرفة الكثير عن تاريخ أوكرانيا، القرم وروسيا ذاتها؟ هل يُمكن لأيٍّ كان أن يتمكّن من إدراك العلاقات المُعقدّة بين الولايات المتحدة وإيران، أو بين الإسرائيليين والفلسطينيين من دون معرفة الكيفية التّي تطوّرت بها هذه العلاقات عبر الزمن؟ هل تسائلتهم يوماً لماذا لا تتفّقُ كلٌّ من كوريا الجنوبية واليابان بشكلٍ جيّد؟ إذا لم تَكن على معرفةٍ بتاريخهما، فلن تكون بحوزتكَ أدنى فكرة. إليكم هنا نصيحةً إحترافيةً: على الرغم من أنّ هذه المجتمعات قد عايشت نفس الأحداث، إلاّ أنّ التاريخ الذّي يُخبرون أنفسهم به عن بعضهم البعض لهو تاريخٌ مختلفٌ بشكلٍ جذري.
النقطة الأخيرة نُقطةٌ مهمّةٌ جدّاً: على الطلبة أن يفهموا أنّ هذا التاريخ ليس مجرّدَ جمعٍ للأسماء والتواريخ، ولكنّه نمطٌ من التنافس والتداخل أيضاً، ويظلُّ عبارةً عن مروياتٍ مختلفة. لا يكشف الماضي لنا نفسهُ علانيةً، إذ أنّه يُؤَوَّل، يُناقش، ويُبنى لنا من طرف مُؤرّخين ذوي أنماطٍ عديدة، ومن طرف المجتمع ككلّ. يوجد دروسٌ تاريخيةٌ هناك ينبغي على جميع الممارسين للشؤون الدولية وشمها على جفونهم: أناسٌ مختلفون وأممٌ مختلفة لا ترى الماضي بنفس الطريقة ولذلك لا يرونَ مشكلات الحاضر على نفس الأضواء. لا يحتاجُ المرء إلى الموافقة على وجهة نظر كاتبٍ ما للماضي، ولكن يحتاجُ إلى فهم أنّ وجهات النظر المختلفة هذه موجودةٌ وإلى إدراك أنّ الأشخاص الذّين قد يتعيّنُ عليك التعامل معهم ينظرون إلى الأشياء بشكلٍ مختلفٍ، وهذه رؤية حاسمة. لا يتعلّقُ هذا الأمر بكونه “صحيحا من الناحية السياسية” أو “مُراعياً للحساسية من الناحية الثقافية”، بل هو إدراكٌ بأنّه إذا كان هدفك هو إقناع شخصٍ ما للقيام بفعل ما تريده أنت، فإنّه لمن الضروري معرفةُ من نقطة البداية بالنسبة له وما هي المدركات الخاطئة التّي ستحتاجُ إلى تجاوزها.
بإختصار، فإنّ وضع السياسات المتعلّقة بالشؤون الدولية أمرٌ من شأنه أن يتحسّن بشكلٍ واسعٍ إذا ما تلقّى طلبةُ السياسات تدريباً تاريخياً جدّياً. ربّما تستقدمُ مدارسُ السياسة العامة مُؤرّخين قليليِ العدد، إلاّ أنّ دروسها المتعلّقة بالتاريخ أو المنهجية التاريخية هي جزءٌ من متطلّباتهم الأساسية، فهل يخضع الاقتصاد أو بقية المناهج التحليلية إلى نفس المنحى؟ على غرار دراسة النظرية، فإنّ التدريب التاريخي يدور في مُجمله حول تعلّم كيفية فرز وتقييم الأدلّة، وهي مهارة نحتاجها أكثر من أيّ وقتٍ مضى في هذا العصر المليئ بالأخبار المُزيّفة والدعاية الحكومية المنتشرة في كلِّ مكان. بإمكان الطلبة الذّين درسوا التاريخ حقّاَ الكتابة بشكلٍ أفضل، وتحديد موضعِ الهُراء بشكلٍ أكثر موثوقيةً، فهم يمتلكون فكرةً أحسن عن كيفية حدوث مشكلات اليوم، وحينما لا يعرفون، فإنّ بإمكانهم معرفةُ كيفية إيجاد ذلك. ليس من شأن هذا التدريب أن يقوم بالمعجزات، ولكن لا يُمكنه التسبب في ضررٍ ما (للتحليل)، كما يُمكنه أن يُقدّم في الغالب مساعدةً ما بشكلٍ مؤكّد.
4. الكلّ يتحدّثُ عن “الإستراتيجية”، لكن لا أحد يفعل شيئاً لتحسينها:
ربّما تُعتبر الشكوى الأكثر تشاركاً والمُوجّهة للمسؤولين الحكوميين هي أنّهم يفتقرون إلى إستراتيجيةٍ واضحة. لقد وَجهّتُ بنفسي هذه التُهمة مِراراً، ولا تزال معظم شكاويَ مُبرّرة. لكن وللإنصاف، فإنّ أولئك الذّين يُدرِّسون الشؤون الدولية عندنا لا يقومون بعملٍ جيّدٍ جدّاً في تعليم طلبتنا كيفية التفكير بطريقةٍ إستراتيجيةٍ، حتّى برنامج الإستراتيجية الكبرى الذّي تتبجّحُ به جامعة ييل (والذّي بسمعته يؤكّد على دور التاريخ)، ربّما يكون قد أدّى عملاً أفضل في تلبية الطموحات القيادية لطلبته بدلاً من توفير الأدوات التّي من شأنها أن تسمح لهم بخلق إستراتيجية متماسكة لبلدٍ حقيقي.
في أمريكا اليوم، ما يُفعلُ لأجل “إستراتيجيةٍ كبرى” إمّا أن يكون كلاماً مُنمّقاً، فارغاً، لا تاريخياً، على غرار خطاب التنصيب الثاني للرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش، أو يكون قائمةً من التصريحات الطنّانة (على شاكلة: ينبغي فعلُ كذا وفعل كذا، كما ينبغي أن نضمن بإنتصارٍ الأمر كذا)، ذلك أنّ موظّفي البيت الأبيض يجتمعون حينما يُجبرون، عبر القانون، باستصدار إستراتيجيةٍ رسميةٍ للأمن القومي. ما تفتقرُ إليه عادةً هذه الجهود هو بيانٌ واضحٌ للمصالح الحيوية (يتضمّن تفسير سبب كونها حيويّةً) إلى جانب برنامجٍ مُحدّدٍ لتعزيز هذه المصالح التّي تتوقّع الإستجاباتٍ المحتلمةٍ للجهات الفاعلة الأخرى ذات الصلّة. تتعلّقُ الإستراتيجية بربط الوسائل والغايات، وفي الشؤون الدولية، يَعتمدُ إختيارُ الوسائل والطُرق التّي يتّم نشرها وتبريرها على توقّعاتِ المرء للكيفية التّي سوف يستجيب بها اللاعبون الآخرون ذوي الصلة. يُحبُّ القادة العسكريون تذكيرنا بأنّ “العدو قد يحصل على تصويتٍ ما”، لكن كذلك قد يفعل الحلفاء، المحايدون وغيرهم من الذّين قد يستجيبون بطرقٍ تعرقلُ أو تُساعد ذلك. وبالتالي يجب على أيّ إستراتيجيةٍ كبرى جيّدة أن تكون شاملةً، أعني أنّها يجب أن تأخذ بعين الإعتبار الكيفية التّي ستؤثّر بها إجراءات ما في مسألة أو منطقة ما على ما يحاول المرء القيام به في مكان آخر.
بعبارة أخرى، يتطلّب التفكير بطريقةٍ إستراتيجيةٍ إلى شعورٍ “بالصورة الكبرى” وبفكرةٍ واضحةٍ عن الكيفية التّي تترابط بها الفواعل، الإتجاهات والمشكلات معاً. من دون صورةٍ واضحةٍ ودقيقةٍ للعالم -صورةٌ تُحدّدُ الأمور المُهمّة وتوضّح الكيفية التّي تؤثّر بها الأفعال المختلفة على أفعال أخرى- إنّه لمن الصعب تصوّر الكيفية التّي قد يأملُ بها أيٌّ كان للتحرّك بفاعلية على المسرح العالمي، لذلك، يحتاج المرء إلى نظريةٍ (النقطة رقم 1 أعلاه)، كما يحتاجُ لأن يكون على علمٍ وتثبّتٍ من التاريخ (النقطة رقم 3).
5. حاضناتُ الامتثال؟
لكن، ربّما أكبر القيود في مدارس الشؤون الدولية اليوم -على الأقل هنا بالولايات المتحدة- هو إتّجاهها نحو تعزيز الإجماعِ الحزبي المبتذلِ وراء “الهيمنة الليبرالية” والحاجة الضرورية للقيادة الأمريكية. عمداءُ الكليّات في العديد من المؤسّسات هم من الوجوه البارزة في مجتمع السياسة الخارجية، ومعظمهم لا يزال مُلتزماً بشدّة بممارسة القوة الأمريكية على نطاق واسع وبعيد. ليس من المفاجئ، بأن تتكوّن الكلّيات بهذه المؤسّسات في الغالب من أكاديميين مُوجّهين للسياسات ومسؤولين حكوميين سابقين والذّين من غير المرجّح أن يُشكّكوا في المرتكزات الأساسية التّي شَكّلت جزءً من أساس السياسة الخارجية الأمريكية لسنوات عديدة.
Top Ph.D. Programs for Academic Career in International Relations
- Harvard University 68.13%
- Princeton University 60.78%
- Stanford University 57.35%
- Columbia University 39.45%
- University of Chicago 27.61%
- Yale University 25.83%
- University of California—San Diego 21.45%
- Massachusetts Institute of Technology 19.19%
- University of Michigan 14.45%
- University of California—Berkeley 14.34%
بالطبع، يجعل هذا النمط من الإتّجاه الأمر منطقياً جدّاً، فلديه فضائلٌ جلّية. تجذب مدارسة الشؤون الدولية طلاّباً لديهم فضولٌ بخصوص العالم، والمهتمين بسياسات معيّنة، وأولئك الذّين يَتوقونَ في معظم الأحوال إلى جعل العالم مكاناً أفضل. ينطبق نفس الوصف على أغلب الكلّيات التّي تُدّرسُ في هذه المؤسّسات. ومن المؤكّد أنّها فكرةٌ جيّدةٌ للطلبة أن يتعلّموا من أُناسٍ يهتمّون بالعالم الحقيقي ومن أناسٍ لديهم تجربةً حقيقيةً في الوسط المهني الذّي يأملون الإنضمام إليه.
لكن هناك ثمنٌ ما، فبدلاً من القيام بما يتناسبُ والمؤسسات الأكاديمية -وهو، التحلّي بنظرةٍ إستقلاليةٍ ونقديةٍ للقضايا المعاصرة ومحاولةُ معرفة ما الذّي يعمل وما الذّي يفشل، وكيف بإمكاننا فِعلُ الأفضل- فإنّ الرغبة في الإرتباط القريب بعالم السياسات يُغري حتماً معظم مدارس الشؤون الدولية للانجذاب نحو إجماعٍ سائدٍ مألوف. من المؤكّد أنّه سيكون هناك في بعض الأحيان خلافاتٌ حادةٌ حول قضايا سياسيةٍ محدّدة (على سبيل المثال، هل ينبغي علينا إجتياح سوريا أم لا؟) ، لكن بالكاد لن يُشكّك أحدٌ في الأورثوذكسيات الأساسية التّي إضطلعت بالسياسة الخارجية الأمريكية لسنوات عديدة.
مع الأسف، غالباً ما تكون الجامعة الفرصة الوحيدة التّي يستطيع من خلالها العديد من الطلبة إعادة النظر في رؤاهم العالمية ومُسائلة الحِكمَ المُتلقاة، إنّها غالبا ما تكون حظّهمُ الوحيد لبناء رأس المال الفكري الذّي يجب أن يساندهم في حياتهم المهنية. يترتّبُ عن ذلك أنّه ينبغي على مدارس الشؤون الدولية أن تُكرّس مزيداً من الإهتمام لمُسائلة الحِكمَة التقليدية، بدلاً من مُجرّد محاولةِ خلق “مُسنّناتٍ للآلاتٍ القائمة” ذاتُ تدريب جيّد. بعد كلّ ذلك، فإنّ الإستقصاءَ المستقّل واسعُ النطاق يُعتبر الميزة النسبية للجامعة، لهذا، تُعتبر الأوقاف الكبيرة مفيدةً ويظّل المنصب –بذاته- مؤسّسة قيّمةً.
فهل يعني ذلك أنّ على الأشخاص الطموحين في السياسة الخارجية تحاشى تدريبات الدراسات العليا في الشؤون الدولية والذهاب بدلاً من ذلك إلى مدرسة الحقوق أو الأعمال؟ بتاتاً، بدلاً من ذلك ينبغي عليهم أن يُلقوا نظرةً حصيفةً للبرامج المختلفة والبحث عن أولئك الذّين يُوفرّون لهم تنوعاً فكرياً كثيراً. يُعتبرُ تنوّع الأنماط الأخرى أمراً مهّماً أيضاً، بما فيه التنوّع في الطلاّب، لأنّ طلاّب الدراسات العُليا يتعلمّون أكثر من بعضهم البعض مثلما يتعلّمون من الكليّة. نعم إنّك ترغب في إكتساب مهاراتٍ أساسيةٍ تحتاج إليها، لكنّك تريد أيضاً تحدّي مفاهيمك المسبقة، حتّى وإن قرّرت في النهاية بأنّ معتقداتك الأوليّة كانت صحيحةً طوال الوقت.
أنتَ تريدُ الفرصة لسماع ما يقوله الأساتذة أصحاب وجهات النظر المختلفة ومن ثمّة إكتشاف أيّ المنظورات تظّن بأنّها الأصوب بالنسبة لك. بإختصارٍ، أنت تريد من خبرتك التّي تكتسبها في الدراسات العليا أن تجعل منك مُفكّراً أكثر إتسّاعاً، أكثر إطّلاعاً، وأكثر ثقةً، وليس مُجرّد شخصٍ ذو سيرةٍ ذاتيةٍ مثيرةٍ للإعجابِ ومُجرّد “صُندوقِ عُدّةٍ” من الأدوات الفنية، هذا ما ينبغي على المدارس أن تُنتجه بالضبط.
رابط المقال الأصلي:
Stephen M. Walt, America’s IR Schools Are Broken, Foreign Policy, FEB. 20, 2018.
[…] التوجّهات الكبرى للسياسة الخارجية الأمريكية بين مدارس العلاقات الدولية الفكرية السائدة، وقد تركّز النقاش بالأخصّ بين مُعسكريْ النزعة […]
[…] […]