في تقرير جديد ظهرت شركتان تحملان شعار “صُنع في إيطاليا” ضمن قائمة الشركات التي زودت النظام في دمشق بمعدات ووسائل لتنفيذ عمليات تجسس وتنصت واسعة النطاق. هذا ما كشف عنه تقرير جديد للمنظمة الدولية لحماية الخصوصية. وقد ظهرت أدلة وجود عقود شراء تعود إلى الفترة بين 1999 و2011، عندما كان الغرب لا يزال يقيم علاقات تجارية مع سوريا. وتسلط هذه الحقائق الضوء على الدور الذي لعبته أوروبا في دعم واحد من أكثر الأنظمة عنفا ودكتاتورية في الشرق الأوسط.
لقد تعرضت سوريا لدمار كامل، حيث شهدت سقوط 250 ألف قتيل، وتهجير حوالي نصف السكان، أي أن 11 مليون من جملة 22 مليون ساكن اضطروا لترك ديارهم بحثا عن الأمان. هذه هي مأساة سوريا التي تغرق منذ خمس سنوات ونصف في الحرب الأهلية التي لا مخرج منها إلى حد الآن.
وقد تحدث الكثيرون عن القمع الوحشي الذي مارسه رأس النظام السوري بشار الأسد، ضد التحركات الشعبية التي اندلعت في سنة 2011 تزامنا مع موجات الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة، إلا أن ما ظهر من معلومات كان قليلا حول جهاز المخابرات السوري الذي أنشأه النظام على مدى سنوات، وخاصة خلال العقد الذي سبق هذه المأساة.
هذا التقرير الصادر عن المنظمة الدولية للشفافية حصلت صحيفة لاريبوبليكا بشكل حصري على الجزء المتعلق منه بإيطاليا، وقامت بتحليل المعلومات وتدعيمها بمعطيات أخرى، لاستكمال قائمة الشركات التي زودت هذا الدكتاتور سيء السمعة بتكنولوجيا متطورة، معدة للتجسس على النشطاء السياسيين، والمعارضين، والصحفيين، وعلى كل المواطنين بشكل عام.
وتبرز ضمن هذه القائمة شركة “سبا أريا”، التي يقع مقرها في بلدة فيتسولا تيتشينو في محافظة باريزي في شمال إيطاليا، وقد تصدر اسم هذه الشركة عناوين الأخبار في الأسبوع الماضي، بعد أن خضعت لتحقيق جنائي من قبل المدعي العام في ميلانو، بسبب قضايا متعلقة بسوريا، كما ظهر أيضا اسم شركة أخرى، وهي “أر تشي أس سبا”، المتواجدة في ميلانو، وتعمل في مجال أنظمة المراقبة والتجسس، وكانت قد تورطت في سنة 2010 في قضية فساد كبرى في إيطاليا.
الطرف الذي قام بالتحقيق في ملف جهاز المخابرات الذي يعتمد عليه الأسد للتجسس على شعبه، هو المنظمة الدولية لحماية الخصوصية Privacy International، وهي منظمة غير حكومية يقع مقرها في لندن، وتعتبر مرجعا ذا مصداقية في مجال الحقوق الرقمية وحماية الخصوصية.
قراءة في التقرير الكامل
من المهم جدا أن نفهم أنه خلال العشرية التي سبقت اندلاع الحرب في سوريا؛ كان النظام في دمشق يحظى باعتراف الحكومات الأوروبية، وكان يتم التعامل معه فعليا كأنه حليف، وبمقتضى ذلك تعززت المعاملات التجارية التي كانت تتم طبقا للقانون، باعتبار أنه إلى حدود تلك الفترة لم تكن هنالك تشريعات تنظم تصدير تكنولوجيات المراقبة والتجسس، إلى حدود سنة 2014 حين أعلن الاتحاد الأوروبي عن قانون ينظم تجارة “السلع ذات الاستعمال المزدوج”، التي يمكن استعمالها لأهداف عسكرية أو لاستهداف المدنيين، ليصبح بيع هذه السلع إلى خارج أوروبا خاضعا لترخيص خاص.
وعلى إثر فرض عقوبات ضد النظام السوري بسبب القمع الوحشي الذي واجه به المظاهرات السلمية التي بدأت في سنة 2011، وبعد إصدار الاتحاد الأوروبي قوانين جديدة منظمة لتصدير أنظمة المراقبة والتجسس، أصبح بيع هذه التجهيزات للنظام السوري مخالفا للقانون.
وبحسب تقرير المنظمة الدولية لحماية الخصوصية، فإن هذه القصة بدأت في سنة 1999، عندما أنشأ النظام السوري أول منظومة لمراقبة الهواتف الجوالة والإنترنت. وقد تم اختيار الشركة السورية للاتصالات لتكون الطرف المكلف بهذا المشروع. وقد وفرت هذه الشركة الغطاء القانوني لأجهزة استخباراتية تابعة للنظام، خاصة “الفرع 225″، والوكالة السورية للتجسس الإلكتروني، وكان مهندسو الشركات الإيطالية على علم بكيفية استعمال النظام السوري لهذه التجهيزات.
الجملة التي تمثل مربط الفرس في هذه القضية هي “التجسس القانوني”. إذ أن كل الشركات التي تنشط في مجال المراقبة والتجسس تقول أنها تحرص دائما على العمل ضمن الأطر القانونية وبشكل شرعي لا لبس فيه، حيث يتم توفير ضمانات وحماية كافية للأطراف التي تتعرض للمراقبة، ولا تتم مراقبتهم إلا إثر استصدار ترخيص قضائي من الدولة التي تستعمل أنظمة التنصت هذه.
ولكن للأسف فإن الواقع يختلف عن ذلك، إذ أن هذه التكنولوجيا لا تفرق بين النوايا الحسنة والنوايا السيئة، وبين الاستعمال الشرعي والاستعمال غير الشرعي، ولذلك فإنه ليس من المصادفة أن نفس هذه الشركات المتواجدة في إيطاليا كما في باقي دول العالم، تبيع أنظمة مراقبة لجهات أمنية وقضائية لمراقبة المجرمين والإرهابيين وعصابات المافيا، وتبيع في نفس الوقت منتجاتها للأنظمة الدكتاتورية، ما قد يؤدي لوفاة أشخاص أبرياء نتيجة لهذا التجسس.
وإلى حدود سنة 2004، كان النظام السوري يعتمد بشكل خاص على الشركة الألمانية سيمنس وشركة أوتيماكو، اللتان قامتا بتركيز منظومة “LIMS”، التي تعني اختصارا لعبارة “أنظمة إدارة التجسس القانوني”، القادرة على تنفيذ عمليات مراقبة واسعة النطاق على شبكات الاتصالات، واختراق المكالمات الهاتفية في نفس توقيت حدوثها، بالإضافة إلى الرسائل القصيرة وأجهزة الفاكس والرسائل الإلكترونية، ومكالمات الفيديو عبر سكايب، ومحادثات مواقع الدردشة الأخرى.
وبفضل هذه التكنولوجيا الألمانية، تمكن النظام السوري من مراقبة الاتصالات واختراق شبكات تابعة لشركات نوكيا، وسيمنس وهواوي، وشبكات أخرى تابعة لشركة إريكسون السويدية، التي تستعمل أنظمة مصنوعة محليا في السويد.
ومنذ سنة 2007؛ سعى نظام الأسد في دمشق إلى تطوير أنظمة المراقبة التي يمتلكها، وكانت إحدى الشركات التي تعرف جيدا كيف تتحرك على الأرض السورية، هي شركة التكنولوجيا المتطورة الألمانية “AGT”، وهي أحد أبرز الوسطاء في مجال بيع أنظمة التجسس وتعتمد بشكل كبير على السماسرة ومن يقومون بالبيع بالتجزئة، الذين يتمتعون بقدر كبير من المرونة التي يتطلبها هذا النوع من التجارة، التي تزدهر بشكل خاص في المناطق المظلمة وفي ظل غياب القانون، بالاعتماد على الشركات مجهولة الهوية واستغلال الفراغات الضريبية التي تمكن من فقدان أثر من يبيع وماذا يبيع. وبفضل هذه الفوضى وغياب القانون، نجحت عدة شركات في مجال صناعة تكنولوجيا التجسس في تمرير منتجاتها إلى السوق وتجاوز كل قرارات الحظر والعقوبات الدولية.
وقد تأسست شركة “AGT” الألمانية على يد الشقيقين السوريين أنس وأغياث شهيب، اللذان حصلا على الجنسية الألمانية. وبحسب تقرير المنظمة الدولية لحماية الخصوصية، فإن هذه الشركة نشطت في مجال بيع أنظمة المراقبة للحكومة السورية منذ سنة 2002. ثم في سنة 2007، حصلت الشركة على فرصة لإنشاء “نظام مراقبة مركزي”، وهو نظام موحد يمتلك القدرة على مراقبة كل الشبكات التي تعتمد على الإنترنت لتقديم خدماتها في الأراضي السورية. وقد دخلت في المنافسة للحصول على العقد ضمن تحالف جمع هذه الشركة بشركة “أر تشي أس سبا” الإيطالية، وعمل هذا التحالف بكل الطرق للفوز بالصفقة، وهو ما أكدته شهادات أشخاص عملوا في هذا المشروع.
وقد كشف تقرير منظمة حماية الخصوصية أيضا، عن رسالة مثيرة كتبتها الشركة الإيطالية لإثناء السلطات السورية عن التعامل مع الشركات المنافسة، وجاء فيها: “إن شركة AGT الألمانية حصلت على أول تعاقد لمراقبة الإنترنت في سنة 2002، ونحن نعمل في هذه البلاد منذ 10 سنوات في مجال مراقبة الشبكات، بالتعاون مع عدة شركاء أوروبيين يبيعون لنا تكنولوجيات التنصت. إن القرار الذي اتخذتموه باللجوء لفتح باب المنافسة بين الشركات لضمان الشفافية هو قرار ممتاز، ولكنه ينطوي على مشكل خطير، وهو أن هذا التمشي لا يراعي المصالح العليا للبلاد المتعلقة بالأمن القومي، حيث أنه يسمح لوكالات تابعة لدول معادية بالتسلل إلى داخل سوريا عبر تقديم عروض رخيصة في هذه المناقصة. وقد حصلت حوادث مماثلة في ألمانيا في سنة 2003، وفي الهند في 2006، وفي مالطا في سنتي 2007 و2008، حيث رست تلك المناقصات على شركات قدمت عروضا مغرية، إلا أنه تبين فيما بعد ارتباطها بإسرائيل”.
ولكن رغم هذه الرسالة، فإن تحالف شركتي “آر تشي أس سبا” الإيطالية وAGT الألمانية لم يفز بالمناقصة. ولكن بعد ذلك تمكنت الشركة الإيطالية في سنة 2009 من الحصول على عقد آخر لتزويد النظام بأنظمة لمراقبة الأقمار الصناعية التي تنقل شارة الإنترنت، يشمل المناطق الريفية والنائية في سوريا، التي تعتمد في التزود بالإنترنت على القمر الصناعي “آرام سات”.
أما الشركة الإيطالية الأخرى “أريا سبا”؛ فقد فازت بهذه المناقصة المتعلقة بإنشاء “نظام مراقبة مركزي”، بعد أن دخلتها بالشراكة مع شركة كوسموس الفرنسية، وهي نفس الشركة التي قدمت تكنولوجيا التجسس والتنصت للدكتاتور الليبي معمر القذافي، وقد قام المدعي العام في محكمة باريس بفتح تحقيق جنائي في سنة 2014 على خلفية مسؤوليتها في تعرض مواطنين سوريين وليبيين للتعذيب من قبل هذه الأنظمة التي استعملت معدات الشركة للتنصت على المواطنين.
ولكن في إيطاليا لا يبدو أن السلطات متحمسة لفتح ملف الشركات الناشطة في المجال الرقمي، وكشف الأنشطة المشبوهة التي يقوم بها بعضها، ولذلك تواصل هذه الشركات توسيع أنشطتها في الظل، وحتى لو بدأ بعض المدعين العامين بتحريك دعاوي قضائية ضد الشركات التي لعبت دورا في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، فإنه لا وجود لقانون في إيطاليا يعاقبها على تواطئها في عمليات التعذيب.
هذه المادة مترجمة من صحيفة لاريبوبليكا الإيطالية من اعداد الصحفية ستيفانيا ماوريتسي للإطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا