الأسد يتقدم في سوريا مستغلاً الضربات الجوية الروسية الكثيفة والتي أدت إلى إحداث تحول كبير في موازين القوى هناك. وقد يكون هناك في الفترة المقبلة إصرار من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ومسؤولي الأمم المتحدة على الأسد لكي يدخل في مفاوضات مع المعارضين والتنازل عن السلطة لهم لكن الأسد لا يملك أي نية للموافقة على هذه المطالبات.
يقول مستشاروا الأسد أن الأسد ذاهب إلى محادثات جنيف هذا الشهر من أجل الاستماع وليس من أجل التفاوض وبعبارة أخرى فإن الأسد لا يزال يطمع في تحقيق نصر أكبر على الأرض والواقع يقول أن الولايات المتحدة والأمم المتحدة عليها أن تدفع ثمن تأخرها في الدخول في عمليات التفاوض هذه وعليها أن تكون أكثر مرونة في التوقعات والأهداف خاصة في ضوء التوازن العسكري الجديد على أرض الواقع.
السبب الرئيسي في الثقة الكبيرة للأسد الآن هو انعكاس واضح للثروة العسكرية، فقبل ثلاثة أشهر تمت محاصرة جيش الأسد بعد أن تمكنت فصائل مقاتلة سورية بالتوحد تحت لواء جيش الفتح وهو ما مكنه من تحقيق تطور على مستوى التوحد في صفوف المقاتلين المعارضين للأسد.
وتم بناء مجموعتين عسكريتين قويتين في سوريا، الأولى هي جبهة النصرة وهي تتبع تنظيم القاعدة والثانية هي أحرار الشام التي تعد إحدى أكثر المجموعات القتالية السلفية نفوذاً في سوريا، انضمت هاتان المجموعتان تحت لواء جيش الفتح بالإضافة إلى فصائل أخرى وهو ما أكسبه ثقلاً عسكرياً ونوعياً كبيراً.
تمكن جيش الفتح من السيطرة لاحقاً على مدينتين استراتيجيتين في الشمال هما إدلب وجسر الشغور وفي تتابع سريع في ربيع العام الماضي جذبت هذه الانتصارات الكثير من الفصائل المقاتلة الاخرى لتنضم تحت إمرة هذا اللواء.
وحينها لم يكن يعني طرد قوات الأسد من منطقة جسر الشغور استقلال إدلب بشكل تام، لكنه كذلك وضع اللاذقية معقل النظام الرئيسي في خطر شديد، وبدا جيش الأسد ضعيفاً في مواجهة الفصائل المتوحدة تحت لواء جيش الفتح الذي كان مسلحاً بشكل جيد وبدعم من الدول السنية الأخرى في المنطقة.
ولكن تبقى الميزة الكبرى التي يحظى بها نظام الأسد هو أن قوات المعارضة عادت لتنقسم مجدداً وبشكل أكبر من السابق. فمؤخراً تم اغتيال أكثر من 20 من زعماء المقاتلين معظمهم من قبل فصائل منشقة عن جيش الفتح عدا عن أن قوات المعارضة التي دربتها أمريكها تم تدميرها ليس من قبل قوات الأسد بل من قبل قوات المعارضة الأخرى.
وفي الوقت نفسه،حافظت روسيا على تقدمها بالطائرات والمروحيات والدبابات واستهدفت جيش الفتح لعدة شهور حيث تنفذ طائرات الروس قرابة 200 طلعة جوية يومياً وهو ما يسمح للأسد وحلفائه الانتقال في الهجوم إلى كل المدن السورية شمالاً وجنوباً.
ومؤخراً وافقت أحرار الشام على الذهاب إلى محادثات جنيف وهو تحول في التوجه حيث كان هذا الفصيل المعارض قد قاطع قبل أشهر مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا دي ميستورا بحجة تبعيته لنظام الأسد، من جهته أعلن زعيم تنظيم القاعدة في سوريا أن جميع من يتوجهون إلى جنيف هم خونة وأصدر تهديداً بتصفيتهم جميعاً في مؤشر يدفع إلى القلق الواضح.
وكانت آخر علامات اليأس في جيش الفتح حين دعا مقاتلين أجانب للانضمام إلى صفوفه وهو ما أغضب التيار غير الجهادي داخل هذا الائتلاف، حيث من الممكن لهذا التكتيك أن يضع جيش الفتح في نفس الخانة مع داعش وهو ما دفعهم للانسحاب منه.
إذاً الأسد باختصار يعول كثيراً على انقسام أعدائه في اختيار مواجهتم واحداً تلو الآخر.
ومن المؤكد أن الأسد خاض بجد وببطء هذه المعارك بشكل يعاكس ما توقعه مستشاروه والسبب في ذلك هو الوضع السيء للجيش السوري الذي يعاني من حالة كبيرة من الفوضى أرهقته سنوات الفساد عدا عن مروره بسنوات من الفقر والفساد وبنفس الدرجة من الصعوبة لك أن تتخيل أن يخسر الأسد ويعود مجدداً ليعيش في كانتونات عرقية علوية بعيداً عن دمشق.
والسؤال الحقيقي هو كم من سوريا يستطيع الأسد فعلاً أن يستعيد تحت سيطرته، يعتقد الأسد أن الروس سوف يحملونه حتى خط النهاية ولكن هذا ليس مؤكداً على الإطلاق. فالنظام السوري يحكم حالياً قرابة 75% من السكان العرب في سوريا ويبدو أنه مقتنع بإمكانية استئساده على ال 25% الباقيين من السكان ويرى كذلك أنه بإمكانه إقناعهم بتقبل مرارة الهزيمة مقابل إنهاء حالة الحرمان والحرب هذه، لكن هذا السيناريو من المرجح أن يستغرق سنوات قادمة ويعتمد كثيراً على تركيا ودول الخليج والجهات الرئيسية الراعية للمعارضين.
الأكراد السوريون قد يكونون قادرين على استيعاب أنفسهم ضمن معادلة الأسد هذه. فهم يشكلون قرابة 10% من سكان سوريا ويعيشون في مناطق طويلة ممتدة على الحدود بين سوريا وتركيا في ما يسمونه كردستان السورية.
وعلى الرغم من التكلفة العالية التي قدمها الأكراد في قتالهم ضد الأكراد والمعارضين لتوسيع رقعة سيطرتهم إلا أنهم قد يقبلون بحكم ذاتي تحت حكم الأسد بدلاً من الاستقلال عن سوريا، خاصة وأن مسألة حماية الأكراد في سوريا من تركيا قد يكون مضموناً في حال كانوا تحت لواء الأسد.
أما الموقف الأكثر أهمية بالنسبة للأسد فقد كان موقف الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد رد الرئيس الأمريكي باراك أوباما على انضمام روسيا إلى الحرب في 30 سبتمبر الماضي حين قال :” نحن لسنا بصدد جعل سوريا ساحة لحرب بالوكالة بين أمريكا وروسيا”.
وهذا يتفق مع ما تردد كثيراً من قبل الإداراة الأمريكية حيث كانت تحاول أمريكا زيادة دعمها لبعض الجماعات السورية المعارضة التي تدعمها أصلاً لكن نقاشاً جمعها مع موسكو أدى إلغاء الفكرة وتقنينها بشكل كبير.
لكن أوباما لم يتنازل عن سوريا تماماً لروسيا وبدلاً من ذلك قدم اوباما تقسيماً ضمنياً للعمل هناك. فالولايات المتحدة تحارب داعش في شرق سوريا بينما تقاتل روسيا خصوم الأسد ومعارضيه في الغرب. وعلاوة على ذلك يعتقد أوباما أن روسيا ستفشل في مساعي استعادة السيطرة على شرق سوريا تماماً كما فشلت في افغانستان عام 1979.
إذا المعركة هذه ستكون أشبه بالمستنقع الذي سيجبر روسيا على العودة إلى الولايات المتحدة في سبيل فتح طرق التفاوض مع المعارضين.
وعلى الرغم من أن موسكو تفضل بلا شك الحل التفاوضي الذي يحافظ على نظام الأسد إلا أن المسؤولين الروس يرفضون تشبيه الوضع الحالي بأفغانستان سابقاً أو حتى العراق.وبدلاً من ذلك تشبه روسيا الوضع الحالي بالوضع السابق في الشيشان حيث تمكن القوات الجوية الروسية من هزيمة أعداد كبيرة من المقاتلين الشيشان في غروزني. وفي النهاية، وكما يقولون لم يقم أي طرف داعم بتسليح المعارضة السورية بأسلحة مضادة للطائرات كما فعل الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان في أفغانستان.
وحرب القياس هذه تحتدم على جبهة ثانية كذلك، فالولايات المتحدة لا تريد الاشتراك كمقاتل في المدن السورية ولا تريد أن تجعل الأمر في سوريا أشبه بالحرب بالوكالة ويفسر كل ذلك من التجربة الامريكية المريرة في العراق.
ولكن بالتفكير بطريقة القياس أيضاً فإن الانتقادات توجه لأوباما حول صحة فرضيته بأن التدخل في سوريا سيكون له ثمن باهظ كما كان التدخل السابق في العراق وافغانستان. ووفقاً لذلك، فإن فرضية اوباما هذه ادت إلى التالي: كارثة انسانية وتمكين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وظهور داعش وبقاء الأسد المتعجرف وخيبة الأمل والاستياء من قبل حلفاء أمريكا التقليديين.
وعلى الرغم من الكفاءة الروسية في القنص هذه المرة، فإنه من غير المحتمل أن يؤدي نشاط بوتين هذا إلى جذب حلفاء أمريكا العرب وإسرائيل نحوه. وبالتأكيد فإن المقارنة بين التدخل الروسي العشوائي في سوريا مقابل التحفظ الأمريكي فإن مسؤولين إسرائيلين أثير غضبهم إثر نقل روسيا بعد الأسلحة إلى حزب الله خلال المعارك الأخيرة في روسيا.
وبالقدر الذي تشعر به دول الخليج بالقلق تجاه اتخاذ بوتين للجانب الخاطئ في الحرب في سوريا، فإن الولايات المتحدة طالما سعت لوضع التواجد العسكري الروسي في المنطقة كمشكلة يمكن معالجتها في سياق المتطلبات الأمنية للولايات المتحدة شرق البحر المتوسط.
إذ يمكن لوجود عسكري روسي في سوريا الممزقة أن يشعر دولاً كاسرائيل والأردن أو تركيا حتى بالخوف والذعر على أمنها وبلا شك فإن هذا التهديد المحدود سيكون مفيداً في اعتماد هذه الدول على أمريكا ناهيك عن أن التهديد القليل لمصالح بلد ما لا يعد سبباً كافياً للدخول في حرب أهلية في بلد آخر.
بالنسبة للمعترضين فإن لم يكن العراق هو القياس المناسب، فهل يمكن القياس على البلقان؟
روسيا تدخلت في البلقان في ظل ظروف مختلفة جداً عندما كانت روسيا ضعيفة جداً ومشتتة وتعتمد على المساعدات الغربية للحصول على النور، ليبيا ربما تكون القياس الاكثر تشجيعاً من العراق ومن غير المرجح أصلاً أن يقود التدخل السعودي في اليمن إلى إيجاد وضع أكثر استقراراً هناك.
تكلفة التقاعس عن العمل بحاجة إلى إعادة تعريف فالتقاعس عن العمل في عدم دعم المتمردين نحو الغرب وعدم تمكين المعتدلين في سوريا من خلال تزويدهم بالسلاح والمال في وقت مبكر، فمن الصعب تقدير ما إذا اتخذت الولايات المتحدة هذه الإجراءات على الأرض أم أنها قد فرضت عليها والواقع يقول لو أن امريكا قامت بشيء لما وصلنا إلى النقطة هذه من تقدم الأسد والتدخل الروسي.
لكن التطرف لم يكن نتيجة لتقاعس الولايات المتحدة، فاوباما لم يكن بوسعه عمل شيء للحفاظ على المعارضة من التطرف أو من تشكيل عدد لا نهائي من الميليشيات التي لا تعد ولا تحصى على أساس القرية أو العشيرة أو الولاء القبلي. وتكرر هذا الأمر في كل دول الشرق الأوسط حتى تم إسقاط الدول بالقوة في العراق واليمن وليبيا. وعلى الرغم من وجود مجموعة من الليبراليين السوريين إلا أنهم ليسوا كثيرين بالقدر الذي يكفي للاستيلاء على السلطة والاستمرار في الحفاظ على تماسك البلاد، وفي جميع الحالات الماثلة أمام الولايات فقد أدى تغير النظام المدفوع من الخارج إلى انهيار الدولة والتجزء الاجتماعي والتطرف.
وللأسف، فقد بنى حكام الشرق الأوسط المستبدين الدول بحالة انعكاس لانفسهم، فهي تنهار تماماً عندما يتغير الدكتاتور أو عائلته. لم توفر هذه الدول الخدمات المدنية أو المهنية وهي غير مبنية على أسس مؤسسية حقيقية وتغيير النظام بأي شكل يتسبب مباشرة في إنهيار الدولة.
هذا ما حدث تماماً حينما تم الإطاحة بالرئيس العراقي السابق صدام حسين، وحدث مثل ذلك مع نظام الدكتاتور الليبي معمر القذافي في ليبيا ويمكن أن يحدث في سوريا كذلك.
ان التخلص من الأسد وزمرته الحاكمة سيؤدي بالتأكيد إلى انهيار الدولة وهذا بالضبط السبب في أنّ كلاً من الإيرانيين والروس لا يخاطرون بنظام الأسد ولا يضحون به. علينا التفكير في حال المملكة العربية السعودية بدون آل سعود وحتى الأردن دون الحكم الملكي الهاشمي فيها القادر على ربط كافة أجزائها تحت قيادة واحدة. ولذا فالتوتر الحاصل في الشرق الأوسط هو خطأ الولايات المتحدة لأنها انفقت الكثير لتغيير النظام وليس لأنها لم تقم بهذا النهج أبداً.
وللحكم على مدى ضعف المعارضة السورية في توفير بديل قابل للوجود بعد الأسد لا يحتاج المرء إلا لنظرة بسيطة على ما يحدث في إدلب حيث تحكمها المعارضة. تم فصل المدارس وأجبرت النساء على ارتداء الحجاب وانتشرت ملصقات تحمل صور أسامة بن لادن معلقة على الجدران. نهبت المكتبات الحكومية وحتى الآن لم يتم تشكيل حكومة واحدة قادرة على التبلور بالشكل الصحيح.
ومع (الطلبنة) الحادثة في إدلب، فر أكثر من 100 عائلة مسيحية خارج المدينة واضطرت بعض القرى الدرزية إلى إعلان اعتناقها للإسلام عدا عن تفجير بعض المقامات والمزارات.
وحتى الآن لا يوجود أي تواجد للأقليات الدينية في إدلب أو المناطق التي يسيطر عليها المعارضون، فيما يدعي المعارضون أن غارات الأسد وتفجيراته هي السبب الرئيسي في فشلهم في تقديم نموذج حقيقي وناجح ولكن هذه الأعذار لا يمكن أن تكون كافية لشرح وتبرير كم كبير من تجاوزات مقاتلي المعارضة وهو ما دفع الكثير من البلاد العربية للتذكير دوماً بمصير سوريا وما فعله الأسد بها في سبيل تخويف الشعوب من الثورة على الأنظمة.
ولمزيد من الأسى فلا يمكن اعتبار انتصار الأسد كفيلاً بحل المشاكل الأساسية التي تسببت بها المعارك في سوريا، حتى لو تمكن النظام من هزيمة داعش وإخراج جميع الإرهابيين من البلاد وتسهيل عودة اللاجئين فلا يمكن لاحد أن يقف جانباً وهو يشاهد الوضع المأساوي في سوريا دون الشعور بالمسؤولية.
ولكن لا يمكن لأي شخص أن يتهم أي شخص الولايات المتحدة أنها لا تقف في صف مواطنيها وتعمل على ضمان القيم العليا لديهم، لقد تعلمت أمريكا من خلال تجاربها الصعبة في العراق وأفغانستان وعلى الرغم من ذلك فإنها ما زالت تبذل قصارى جهدها في سبيل ذلكن لكن بناء دولة في الشرق الأوسط هو أبعد بكثير من قدرتها المنفردة خاصة داخل كل هذه التجزيئات والجموع المصابة بالصدمات النفسية.
باستطاعة الولايات المتحدة – وهي تفعل ذلك – مساعدة سوريا، لكنها لن تصل أبداً إلى درجة إعلان الحرب على النظام أو حلفائه في روسيا أو غيرها كما أنها لن تساعد في تقسيم البلاد إلى النصف الشرقي القليل من السكان والفقير بالموارد وهي ما تزال تخوض حرباً متواصلة ضد الجهاديين في حين أن الروس والأسد يجلسون براحة شديدة حيث عدد السكان الأكبر في الغرب وصولاً إلى البحر.
بغض النظر عن المستقبل المظلم الذي ينطوي عليه الحاضر يجب على الولايات المتحدة وحلفائها مواصلة الضغط من أجل الانتفال إلى الضغط الدبلوماسي الذي يؤدي إلى رحيل الأسد وتشجيع وقف إطلاق النار وخفض مستوى العنف في سوريا. بالإضافة إلى تكثيف العمل الإنساني هناك وبطبيعة الحال مواصلة استهداف داعش.
وقبل كل شيء يجب أن تبقي أمريكا عينها على مجموعة سوريا الموحدة في مقاربة مرنة مع قرب نهاية الاسد وانهياره وهذا أمر بالغ الصعوبة سيتطلب صبراً استراتيجياً سيتم اختباره يومياً من خلال المزيد من الخسائر البشرية المتزايدة ولكن ليس هناك بديل.
جوشوا لانديز و ستيفن سيمون