خلقت الحرب السورية مجموعة من النخب الاقتصادية الجديدة التي اغتنمت حالة الفراغ في صفوف طبقة رجال الأعمال الذين غادروا البلاد في السنوات الأخيرة، لتظهر على الساحة. وفي جبهة النظام السوري، يمكن الحديث عن ابن خال بشار الأسد، رامي مخلوف، الذي أصبح أحد أغنى الرجال في سوريا.
هناك العديد من الوجوه والنسخ “لسوريا”، على حدّ تعبير المصادر المتنوعة التي تصفها. وعلى سبيل المثال، في الصيف الماضي، وخلال هجوم بشار الأسد، المدعوم جوّا بالطيران الروسي، من أجل استعادة حلب، نشر النظام السوري مقاطع فيديو توثق حقائق موازية في البلاد. وقد كانت هذه اللقطات لشباب سوريين يرقصون في الملاهي الليلية، وأخرى لمناظر خلابة لطرطوس والسواحل السورية.
وتعليقا على ذلك، قال الخبير في شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، براح ميكائيل، لصحيفة “أ بي ثي” الإسبانية إنه يرى هذا الأمر “مخز للغاية وفظيع”. ويبرر رأيه بأن “المشاهد التي تظهرها مقاطع الفيديو لا تمثل البلاد اليوم. هي فقط جزء من دعاية النظام السوري، الذي يصر على أنه على الرغم من الحرب، يمكن العيش في المناطق التي يحكمها الأسد”.
من جانب آخر، فإن هناك نوعا من التناقض في المشهد العام: بين مدينة طرطوس الساحلية التي تقع تحت قبضة النظام، من جهة، وبين مدينة حمص، التي تحولت إلى أنقاض، من جهة أخرى. وعموما، فإن هذا التناقض هو عبارة عن صورة مصغرة حول القدرات العسكرية للأطراف المشاركة في الصراع على مدار ست سنوات.
وفي هذا السياق، قال ميكائيل إنه “منذ بداية الحرب، كانت المناطق الخاضعة لسيطرة الأسد تعمل بشكل أفضل من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. وعلى الرغم من نقص الدواء وعناصر الطاقم الطبي في المستشفيات، إلا أن نسق الحياة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام ظل يسير بشكل أفضل”.
وأضاف ميكائيل “في المقابل، تعرضت مناطق المعارضة إلى ضغوط كثيرة وظروف قاسية. بالإضافة إلى ذلك، حاول الجيش السوري الحر عديد المرات إتلاف نظم الخدمات الأساسية، في محاولة منه للانتقام من النظام السوري”.
وفي لقاء لصحيفة “أ بي ثي” مع أب لبنتين وأستاذ الرياضيات السابق، أحم ديوسف، الذي يعمل الآن في صفوف أصحاب الخوذ البيضاء للدفاع المدني السوري التي تعمل على إنقاذ ضحايا الغارات الجوية التي تشنها القوات المتحالفة مع الأسد، من تحت الأنقاض؛ صرح أحمد أن “أصحاب الخوذ البيضاء أنقذوا أيضا جنود النظام، وأعضاء من المليشيات الموالية له”.
كما تابع يوسف قائلا: “لكن في واقع الأمر، نحن نعمل بشكل أساسي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لأن هذه هي المناطق التي تواجه القصف ويضطر سكانها على النزوح القسري. أما في المناطق الأخرى، فإن الحياة تسير بنسق عادي”.
وكغيره من زملائه، يقول يوسف إنه محايد في عمله، إلا أنه لا يمكنه إنكار الجرائم التي يقوم بها الأسد، خاصة بعد أن شهد بنفسه مجزرة الأسلحة الكيميائية في الغوطة بتاريخ 21 آب/ أغسطس سنة 2013. وفي ذلك الوقت، كانت حصيلة أعنف هجوم كيماوي منذ 25سنة، تقدر بحوالي 1400 قتيلا وثلاثة آلاف جريحا.
كما كشف أحمد أن من أكثر الصور إثارة للشفقة، هي مشاهد الرضع الذين يبدون وكأنهم لا زالوا على قيد الحياة ويغطون في نوم في سلام بين الحطام. وبالنسبة له، فإن نظام الأسد يحاول صناعة هندسة ديمغرافية جديدة للشعب السوري بعد كل هجوم يشنه.
وفي مقابلة مع “يورونيوز”، صرحت إحدى السوريات التي تعيش في مناطق خاضعة لسيطرة الأسد، أنه “لا يمكن للبعض أن يتوقف عن العيش لأن مناطق أخرى تعيش حالة حرب”. وتجدر الإشارة إلى أنه خلال شهر أيلول/ سبتمبر الماضي عندما كانت قوات الأسد تقود هجوما كاملا لعزل منطقة حلب الشرقية، حاور العديد من الصحفيين بعض رجال الأعمال الذين يتمتعون بأشعة الشمس والسباحة في بيئة سلمية، في الجانب الغربي للمدينة.
وبحسب دراسة أجراها “معهد كارنيجي”، فإن التواجد المكثف لعديد المدنيين هو في حقيقة الأمر في صالح الأسد. كما أنه يمكن أن يساهم في تقليص احتمال مهاجمة المعارضة لمناطق الأسد في هذه الحالة. وبحسب تقرير للمعهد، فإنه خلال هجوم المعارضة على منطقة المحطة في درعا في سنة 2014، كانت هناك ضحايا من بين العائلات التي ساندت المعارضة.
وتعليقا على هذه الحادثة، كتب المعهد في تقريره أن “هذا العدد من الموتى زاد بسبب دعم بعض المعارضين للنظام السوري”. وبحسب ميكائيل، فإنه يمكن الانتقال من جبهة إلى أخرى في سوريا. لكن من الصعب أن يمر السوريون من تأييد النظام إلى تأييد المعارضة، لأنه لا يرغبون في أن يظهروا “ضعفاء”.
“المستفيدون” من الحرب
من وجهة نظر الصحفية السورية، يارا بدر، التي قبعت في سجون الأسد لعدة أيام، فإن “هناك نوعين من الحقائق في سوريا”. وفي هذا الصدد، أشارت الصحفية إلى أن “ممارسة عمل الصحافة بتصريح من النظام السوري، تعد أكثر قانونية وأمنا، نظرا لأن الصحفي لن يتعرض إلى القصف الجوي ولن يعاني من المجاعة. وعندما كانت لها زيارة للاذقية في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، لم يحصل لها أي مكروه تقريبا”.
أما بالنسبة لزوجها، مازن درويش، وهو أيضا صحفي، فقد طالب يوم الثلاثاء الماضي في مقر الأمم المتحدة في جنيف بمساءلة بشار الأسد بسبب الانتهاكات التي يقوم بها في حق الشعب السوري. وقد قام مازن بهذه الخطوة بعد أن سجن مؤسس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، بسبب نقله لحقائق الحرب خلال ثلاث سنوات الماضية.
وتعليقا على الوضع في سوريا، صرحت ليلى نشواتي، مؤلفة رواية”عندما تنتهي الثورة”، أنه “في بداية الأمر، كان هناك في إسبانيا نوع من التعاطف تجاه المظاهرات التي تدعو إلى إسقاط الحكومة القمعية، ولكن عندما أصبح الوضع أكثر تعقيدا بدأت التحاليل السهلة تهيمن على الساحة.
وتابعت نشواتي قائلة: “تشير هذه التحاليل السهلة في الإجمال إلى أن أسباب الصراع السوري طائفية بالأساس. في المقابل، لم تسلط هذه التحاليل الضوء على الأسباب الاجتماعية والسياسية المتمثلة أساسا في غياب العدالة الاجتماعية واحتكار آل الأسد للموارد الطبيعية في البلاد”.
من جهة أخرى، اتبع النظام السوري إستراتيجية نقل مؤسساته من المدن إلى الأحياء التي يسيطر عليها. وفي إطار سياساته الاقتصادية، قلّص النظام السوري من الميزانية العامة، الأمر الذي أدى إلى انخفاض مفاجئ وبشكل حاد في الدعم على المواد الأساسية مثل الخبز والبنزين.
وعموما، أعادت الحرب السورية ترتيب العلاقات الاقتصادية في البلاد، كما أنها ركزت أسس التحولات العميقة على مستوى الهيكل الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. ووفق تقرير يعود لمشروع إعلامي مستقل حول سوريا، فإن “الحرب تحولت إلى مؤسسة اقتصادية تموّلها مصادر داخلية وأخرى خارجية”.
وفي الإجمال، يمكن الإقرار بأن الحرب السورية خلقت مجموعة من النخب الاقتصادية الجديدة التي تزامن صعودها مع حالة الفراغ في صفوف طبقة رجال الأعمال الذين غادروا البلاد في السنوات الأخيرة. وعموما، أصبح هؤلاء “المستفيدون من الحرب” أو “أغنياء الحرب” عنصرا أساسيا في سير الحياة في سوريا. ووفقا لمقال نشر في بوابة معلومات الكاثوليكية “لاكروا الدولية”، فإن هذه المجموعة أصبحت تنافس حلفاء سابقين لعائلة الأسد.
وتجدر الإشارة إلى أن الاقتصاد السوري الجديد الذي يعتمد أساسا على الواردات من السلع الزراعية والنفط، جعل “رجال الأعمال” يتحدون الحظر والعقوبات الدولية في الاقتصاد. ويتلخص هذا التحدي بالأساس في الاعتماد أساسا على الصادرات المتأتية من حلفاء للنظام السوري، على رأسهم إيران وروسيا.
وفي هذا السياق يؤكد ميكائيل أن “الناس يعيشون حياة عادية داخل حدود النظام السوري. وعلاوة على ذلك، تحوّل الفقراء إلى أغنياء في هذه الحرب. وعلى الرغم من أنه هناك حظر استيراد في سوريا، إلا أن الأوروبيين والأميركيين لا يمكنهم معارضة عمليات استيراد المواد الأساسية”. وواصل ميكائيل قائلا: “لقد خلقت الحرب اقتصادا موازيا في سوريا. ففي بداية الحرب، كانت روسيا تقوم بطباعة العملة السورية، أما إيران فقط تحولت إلى أحد موردي السلاح الأساسيين في البلاد”.
وفي جبهة النظام السوري، فإن من بين الحالات الأكثر شهرة في هذا الصدد، هي حالة ابن عم بشار الأسد، رامي مخلوف، أحد أغنى الرجال في البلاد بفضل موروث عائلته في مجال الاتصالات، والبنوك أو النفط.
من ناحية أخرى، فإن مدنا مثل حمص وحلب قد أصبحت فارغة بنسبة 80 بالمائة. وقد أشار ميكائيل إلى أنه “من الصعب أن يعود أشخاص دمرت منازلهم بالكامل، بسهولة إلى وطنهم. وعموما، إذا فاز الأسد فإن عملية إعادة بناء البلاد عن طريق المساعدة الإيرانية والروسية، ستكون في صالح دعاية النظام السوري”.
وفي الختام، يذكر أنه لعدة قرون مضت، حافظت سوريا على عدة مناطق مدمرة، يزورها السياح ليكتشفوا ما فعلت به اسرائيل من جرائم خلال حرب الأيام الستة. أما الآن، بعد ست سنوات من الحرب الشرسة، سيحافظ الأسد على بعض الخراب الذي شوه سوريا، ويلقي باللوم على أحد أعدائه ويحمله مسؤولية ذلك.
هذه المادة مترجمة من صحيفة أي بي سي الإسبانية، بامكانك الاطلاع على المادة الأصلية عبر الضغط هنا