حوار مع الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي
هذا ما كتبه ميشال أونفراي في كتابه الجديد “الانحطاط”، المجلد الثاني بعد “الكون” سنة 2015، إحدى موسوعاته الموجزة حول العالم. لم يستند أونفراي في كتابه الجديد على تعميمات لا سند لها أو الشعور الموسمي بالإحباط، ولكن إلى فحوصات ملأت 750 صفحة، حشد فيها كل المصادر الفلسفية واللاهوتية الأكثر شيوعا.
- في مواجهة المرض الغربي الذي تحدثت عنه، فإن وجود مثل هذا الطبيب يكمن خلفه عديد الأسباب، للوصول إلى النتيجة المتوقعة “هكذا الحياة”. ولأن هذه الحضارة شهدت فترات صعبة، فإن موتها أمر منتظر وليس فضيحة… إذا ماذا يعني بالنسبة لك غياب هذه الحضارة؟
غير صحيح، لماذا البكاء أو الضحك حول فيلسوف هو الأقرب لنيتشه كما أحاول أن أكون، وما أحاول فهمه؟. كما لن ينفع رثاؤها كما يفعل المحافظون والرجعيون الراغبين في إعادة إحياء النظام القديم الذي انتهى بالكامل أو في إنكار الحقيقة، كما يفعل التقدميون عندما يبكون حول الوضع المنحط. علينا مواجهة الحقيقة مثلما نفعل عند سماع خبر وفاة قريب عزيز… يسعدني أن أهتم بعلم الأنساب. ولكن موت الحضارة التي نعيشها لا يعني موتنا، بقي لنا أن نعيش “بأناقة” دون أن نُحدث ثقوبا جديدة في المركب الذي غمرته المياه من كل جانب.
- لقد ساهمتم في إبراز بداية نهاية الحضارة المسيحية اليهودية في نهضتها، ونهاية الحضارة الغربية مع بروز فتوى إيران ضد الكاتب سلمان رشدي سنة 1989. لماذا هذين الحدثين؟
إن بداية نهاية حضارة تسبقها عادة نهضة لأن الموت أمر محتم في الحياة، منذ بدايتها: فمنذ ولادة الشخص يكون قد بلغ السن المناسبة للوفاة! وهذا ما يحدث مع الحضارة لأنها عضو حي، وهذا ما تُظهره الثقافة الأساسية (فالبطاقات التذكارية كافية: ستونهنج، وكارناك، وخوفو، وبارثينون، وكولسيوم أو كنيسة ساغرادا فاميليا التي بدأ العمل عليها في القرن التاسع عشر ولم تنته بعد، والمخصصة للبابا بندكت السادس عشر، البابا المستقيل من مهامه).
البداية الحقيقية للنهاية هي عندما يُكرّس ما قل من المنطق في خدمة الإيمان عوض نقده، وهذه هي النهضة وإعادة الاكتشاف التي حققها الكاتب بوجيو براشيوليني لكتاب “لوكريتيوس” في الاكتشاف التاريخي: أي سنة 1417.
كما كان سلمان رشدي دليلا على موت حضارة الغرب، لأن هذا الرجل حُكم عليه بالقتل لكتابته قصة من وحي الخيال، ولم يحرك الغرب ساكنا خلال إصدار الفتوى… فعندما تكون حضارة ما قوية، فإنها تعلن عن نفسها؛ وعندما تموت لا تُحرك ساكنا، لأنها عاجزة عن فعل أي شيء.
- كما أشرتَ سابقا، فقد وجّه نيتشه ضربة قاسية على حضارتنا عندما صرّح: “موت الإله”، أي وفاة شيء يتجاوزنا، شيء نعتقده بشكل كامل وعلى استعداد للتضحية بحياتنا من أجله. هذا الخوف من الموت هو ما يميّز بين مجتمع هرم مثل مجتمعنا ومجتمعات أخرى “في مقتبل العمر” – هل كنت تقصد العالم الإسلامي؟
بالطبع نعم، لدينا هنا في أوروبا علامات تثبت هذه الحيوية. بدايةً التركيبة السكانية التي تظهر مدى إسراف الحياة، ثم العمليات الإرهابية التي تُثبت هي الأخرى أنه يوجد في هذه الحياة ما يتجاوز الموت، لأن الموت والحياة وجهين لعملة واحدة.
في المقابل، يعاني الغرب من تركيبة سكانية ضعيفة وتعتقد في دين “الصحة”، وتُظهر خوفنا من الموت: يجب ألا تدخن، ولا تشرب الخمر، ولا تفرط في السرعة عند القيادة، وضع حزام الأمان. كما يجب أكل الخضروات، والتقليل من تناول السكر والملح، وممارسة الرياضة، وإحصاء عدد الخطوات اليومية، وتناول الألياف لتجنب سرطان القولون، فضلا عن فحص المستقيم لتجنب سرطان البروستاتا، إلخ. إن “حضارتنا بيت للمتقاعدين تغيب فيه الحضانة”.
لقد انتقدت المجمع الفاتيكاني الثاني الذي “جعل من الإله صديقا يمكن مخاطبته كما تُخاطب صديقا”.
ولكنني لا أفعل ذلك، وأستخلص مرة أخرى أن المجمع الفاتيكاني الثاني والكنيسة قاما بشطب علم اللاهوت، وعلم الوجود، والوطنية، والتبعية العلمية، والفلسفة، والتفسير، التي امتدت لأكثر من 20 قرنا. كما تخلصا من مؤلفات أوغسطين وتوماس داكوين من أجل التركيز على أخلاق الشفقة لتنحصر في قانون لعبة الإنسانية يكون فيها من الأفضل فعل الخير عوض السيء، والسلم عوض الحرب، أي “بناء الجسور عوض الجدران” وفق ما قاله البابا فرانسوا.
لقد فقدت الديانة المسيحية أية ميزة سامية لصالح تأصيل سطحي. لقد غيّرت أناشيد الميلاد والمنابر الأرغن في الكنيسة بالغيتار والناي حول نار المخيم.
- يسعى الغربيون لطمر الفراغ الروحي بحلاوة الاستهلاك. “أوروبا للأخذ أو البيع”، هذا ما كتبت. هل فقدت أي أمل في تغيير النظام؟
نعم. لا يمكننا فعل ذلك، لا يمكننا تغيير العالم لوحدنا. لقد عوض جنون الاستهلاك أية مشاعر روحانية، كأنه تسونامي ابتلع المكتبات. لكن لا يتساوى الكتاب والشاشة، فلا وجود لوزن معتبر للمدرسة أمام الإنترنت. منذ انتهاء الحرب ونحن لدينا أكثر مما نحتاج. والدليل يتجلّى في كرة القدم، والمغنين، والممثلين، ومقدمي البرامج التلفزيونية.
ولذلك كيف لنا ألا نرغب أو أن نتمكن من الحياة من دون التملك؟ جزء كبير من شباب اليوم لا يجد هويته إلا في التملك. فيتملكه شعور ذهاني بحيازته الهاتف الجوال، كأنه طفل يحمل دميته: التي ستحميه من العالم.
كيف يمكن تغيير هذا الوضع؟ يمنعني إلحادي الاجتماعي والسياسي (لأني لا أؤمن بالخرافة…) من سلوك هذا التصرف: أعلم أن المعركة خاسرة مسبقا، ولكن يجب خوضها. القارب يغرق ولن أكون مذنبا إن فتحت مسارات للماء أو زدت من حجم الثقوب. لذلك السبب أواصل كتابة مؤلفاتي؛ لهذا السبب لا زلت أحمل على عاتقي مسؤولية الاهتمام بجامعة كاين الشعبية؛ لهذا السبب أنشأت قناتي المستقلة. ولهذا السبب أجيب عن تساؤلاتكم! يجب أن نموت واقفين.
- هل تستفيد باقي الحضارات من خرف حضارتنا للأخذ بالثأر من غطرستنا وجرائمنا الماضية – أشير هنا إلى العالم العربي الإسلامي ولكن أيضا لآسيا (اقتصاديا) وروسيا (عسكريا)؟
حسنا أيها النيتشوية، أعتقد أن المشاعر تلعب دورا هاما في التاريخ أكثر من عدد المحركات التي أقرضناهم إياها. لقد أنشأنا صراعا طبقيا ولا شك في ذلك. لا تتوقع أن تُهين شعبا يوما ما دون أن تدفع ثمن إهانتك له. للتذكير فقط، سندفع وقاحة رئيس الجمهورية فرانسوا هولاند في حق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبالتالي في حق كل الشعب الروسي يوما ما.
بالمناسبة، بدأنا في دفع الثمن لأن بوتين لديه مشروع حضاري في الغرب. ومن أجل إحباط هذا المشروع، ضاعف قادة الاتحاد الأوروبي إعلاناتهم التشويهية لبوتين. ولكن سندفع ثمن هذا السلوك غاليا يوما ما.
- يبدو أنك قد تجاوزت مشاعر التشاؤم من أعماقك: وضعت كل الرهانات، وتعرف كيف نختفي بأناقة. ولكن السكرات مؤلمة وتستغرق وقتا… كيف ترى العقد القادم؟
أنت على صواب حيال تجاوز مشاعر التشاؤم لأنني لست متفائلا ولا متشائما، ولكني تراجيدي: أقولها بشكل آخر إنني أسعى لرؤية الحقيقة كما هي نظرا لأن ذلك يمنحنا معلومات كافية تجعلنا عاجزين عن قول عبارة “الحقيقة لا مكان لها” من الدين. ماذا عن العشر سنوات القادمة؟ سنبتعد أكثر فأكثر في المسار نفسه… هذا ما أراه مناسبا.
هذه المادة مترجمة من موقع لوسوار للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا