لا يهتم الدارسون والباحثون عادة بدراسة تفاصيل أي عملية انتخابية في سوريا وغيرها من المناسبات والأحداث التي تتضمن مظهراً أو عملية ديمقراطية من أي نوع لأن النظام في سوريا يرتب كل شيء سلفاً بشكل دقيق ولا يترك مجالاً لأي (مفاجآت) ولا يسمح بوصول معارضين أو معترضين أو منتقدين حتى،
وهذا أدّى إلى التقليل من قيمة القرارات والخطوات التي يتخذها النظام، وتناولها بشكل سطحي باعتبارها “مسرحية هزلية” وحصر التبريرات المتعلقة بسلوك النظام في هذه الانتخابات، بعامل “الولاء” للنظام وعامل “شرعنة” قراراته، بينما أُهمِلت أمور أخرى تتعلق بطريقة توظيف النظام لمؤسسات الدولة وخصوصاً التشريعية منها لتوجيه رسائل معينة للداخل والخارج أو لتمرير التشريعات والقوانين ولتقوية العصبة المحيطة به، ولتشكيل “جدار حماية” إضافي لحمايته وتعزيز موقفه، أو لتثبيت واقع معين على الأرض بالطريقة التي تدفع الآخرين للتعامل معه وليس بعيداً عنه.
والحقيقة أنه وفي الظروف التي تمر بها سوريا اليوم فإن دراسة سلوك النظام وطريقة تعامله مع استحقاق معين مثل الانتخابات الرئاسية أو مع انتخابات “مجلس الشعب” وتفعيل دورها من عدمه وطريقة اختياره للأعضاء والمنافسين ونسب ومكونات كل شريحة وغيرها من التفاصيل -مهما بدت غير مهمة- فكلها مؤشرات على توجهات النظام الحقيقية وطريقة عمله.
مؤخراً أجرى النظام “انتخابات رئاسية” شارك فيها ثلاثة مرشحين، لم يكن فيها من شيء مفاجيء سوى الاهتمام غير المسبوق من قبل مؤسسات النظام ومسؤوليه ومنصاته السياسية والإعلامية، والموارد المبذولة للحشد والتعبئة الشعبية في الوقت الذي يعاني فيه السوريون والنظام نفسه من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وهذا يثير الأسئلة حول سبب خوض النظام غمار الانتخابات وتوجيه مؤسساته للتفاعل مع هكذا مناسبات ؟.
لقد كانت خطوة المضي في انتخابات مجلس الشعب في تموز/يوليو 2020 ثم خطوة الانتخابات الرئاسية في 18 نيسان/أبريل 2021، أكثر من مجرد استعراض شكلي أو تحد روتيني للخصوم والأعداء المناوئين، لقد عنت هذه الخطوة أن النظام لا يرى من سوريا سوى أتباعه ومؤيديه وأن معركته مع الآخر معركة حياة أو موت وفي سياق هذه الحرب فإن النظام لا يرى أنه بحاجة لإجراء تعديلات أو تغييرات فعلية، وأن التغيير الفعلي الوحيد الذي يؤمن به هو مزيد من عسكرة المجتمع السوري والهيئات التي من المفترض أن تمثله.
أما التعديلات التي أجراها النظام -على المستوى الدستوري أو الإداري- وحاول التغني بها وإبرازها واعتبرها مبادرة إيجابية منه نحو الآخر لدرجة أنه اعتبرها رسالة إيجابية منه تجاه المعارضين للمشاركة في المشهد السياسي الذي يرسمه باعتبار أنه أصبح أكثر انفتاحاً وديمقراطية، حتى هذه التعديلات لم تكن سليمة ولا مكتملة وجرى اتباعها بتعديلات أخرى ألغت أي أثر إيجابي مفترض أو مزعوم لها بل وربما زادت الوضع سوءاً مثل إقرار مادة ثامنة جديدة في الدستور تسمح لعناصر أجهزة الأمن والشرطة والجيش بالمشاركة في الانتخابات، بدل المادة الثامنة التي كانت تحصر قيادة الدولة والمجتمع بحزب البعث العربي الاشتراكي.
تمثل المحطات “الديموقراطية” بالنسبة للنظام مناسبات مهمة لتعزيز مكانته وحجب أي خطط تتضمن إزاحته فهي مناسبات هامة لاستعراض قوة شخص بشار الأسد وإظهارها وهو ما يرسخ مكانته في داخل النظام، كما تسمح هذه المناسبات باستعراض حجم شريحة المواطنين الموالين المعتاشين على الفساد والمحسوبية وريع المؤسسات الحكومية وحاجتهم لإظهار الولاء والتبعية، ولبث جرعة إحباط المعارضين من خارج النظام أو أي خصوم محتملين من داخله، كما أنها فرصة ذهبية لحصر وتقييم المسؤولين المحليين المكلفين بمتابعة المواطنين، وتحييد الضعفاء والمتهاونين منهم بمبرر إشراك الشباب أو مكافحة الفساد أو تحديث الإدارات أو الاستجابة لمطالب الجماهير وغيرها من الحملات التي يقوم بها النظام بالتزامن مع كل مناسبة انتخابية، وتطول عادة مسؤولين محليين لم يقوموا بمهام الحشد المطلوبة لصالح النظام، ولمدّ النظام بأعضاء جدد من شريحة الطامحين الذين ينتهزون عادة فرصة الانتخابات لإثبات كفاءتهم ولائهم، وتسليط الضوء عليهم.١
تدرك روسيا جيداً -نتيجة مرورها بهذا التحول في التسعينات- أنّ النظام إذا أراد أن يستمر وأن يستعيد ولو جزءً من مكانته الدولية والإقليمية، فلا يمكن أن يستمر بالآليات المعتادة نفسها التي اعتاد العمل بها طوال العقود الماضية، وبالتالي فلا بد من إحداث تغييرات محسوبة لإلغاء وصف “الديكتاتور” عن النظام ولا مانع من استبداله بأوصاف جديدة مثل “سلطوي انتخابي”، “شبه سلطوي”، والتي لا تختلف كثيراً عن وصف “ديكتاتوري” ولكنها لا تعيق حركته دولياً ولا تعطل قدرته على جني الفوائد الكبيرة المترتبة على الاعتراف به خارجياً.
من هنا يمكن القول أن النظام حتى عندما يوفر هامشاً من الحريات أو التعددية الحزبية الشكلية، وعندما يعدل الدستور ويسمح بانتخابات تتسع فيها درجة التنافس إلى ثلاثة مرشحين بدلاً من الاستفتاء على شخص الرئيس وحده، وعشرات أو مئات المرشحين على مستوى انتخابات مجلس الشعب و يوافق على تسجيل عشرة أحزاب سياسية، ويسمح لأحزاب أو مشاريع أحزاب أخرى بالتحرك والنشاط ريثما تحصل على موافقة للعمل، فإنّ كل ذلك تجري معايرته ليس فقط بالطريقة التي تقطع الطريق على أي احتمال بأن تمثل هذه التغييرات مدخلاً لتغيير حقيقي، وإنما بالطريقة التي تجعل هذه التغييرات عنصراً جديداً لتمكين الديكتاتور وتنحية أي انطباع بإمكانية إزاحته وهو بالضبط ما حرص عليه النظام منذ بداية الحراك، من رفع كلفة الصدام معه ابتداءً وصولاً إلى إعادة إنتاج منظومته وعصبته وتثبيت أركان حكمه ليس فقط باستخدام أدوات الديكتاتور المعهودة ولكن باستخدام أدوات الديمقراطية أيضاً.
إنّ الطريقة التي أدار بها النظام الانتخابات الرئاسية، والطريقة التي أدار فيها من قبل انتخابات مجلس الشعب وكيفية اختيار أعضائه، وكل ممارسات النظام الأخرى المتعلقة بطريقة إدارته لشؤون البلاد وطريقة تفاعله مع العملية السياسية واختيار ممثليه في اللجنة الدستورية وطروحاتهم ومراوغاتهم، كل ذلك لا يشي فقط بأن سوريا ستبقى عالقة في مربع “الاشتباك المقيد” لمدة طويلة نسبياً من الزمن، بل ويؤكد أيضاً أن النظام لا يخطط للخروج من هذا المربع إلى أحد السيناريوهات أو المآلات التي تتضمن حلاً سياسي حقيقياً من أي نوع بما فيها تلك المآلات ذات السقف المنخفض مثل المشاركة في السلطة.
وأن التغيير في النظام وتحوله عن طريقة عمله وتفكيره الحالية إلى مسار أكثر عقلانية من غير المأمول أن يأتي من داخله، أو بإرادته. وأن الخيار الحقيقي للنظام والسيناريو الذي يعمل عليه لم يكن يوماً سوى استعادة السيطرة على سوريا وإخضاع السوريين لسلطته بكل وسيلة متاحة واستمرار هيمنته على البلاد لعقود أخرى قادمة.
١ لماذا تجري الديكتاتوريات انتخابات؟ إضاءة على رئاسيات الأسد