في 17 مايو 1916، وقعت كل من فرنسا وبريطانيا اتفاقية سايكس بيكو والتي سميت على أسماء الدبلوماسيين اللذان أدارا المفاوضات. وكان هذا الاتفاق هو الأول من نوعه في سلسلة من المعاهدات التي كان من شأنها في نهاية المطاف أن تؤدي إلى إنشاء دول حديثة في الشرق الأوسط في أعقاب تفكك الإمبراطورية العثمانية.
وبعد مئة عام، يتوقع محللون كروبن رايت وجيفري غوليدبيرغ إعادة رسم حدود دول الشرق الأوسط مجدداً. في الواقع، ظهرت دول كسوريا والعراق وهي لا تسيطر على ما ضمن حدودها حتى أن فكرة الحدود الجديدة لم تعد بعيدة المنال، فالأكراد على سبيل المثال في العراق أعلنوا نيتهم إجراء استفتاء على الاستقلال عن العراق قبل نهاية 2016.
لن تساهم الحدود الجديدة باستعادة الاستقرار المفقود، لأن الحدود الحالية لم تأت بسبب الإضطرابات الداخلية في المنطقة. فالدول نفسها يجب أن تتغير في حال وجود أي نظام سلمي قادر على استيعاب مطالب مختلفة لفئات السكان في المنطقة. ومع ذلك، فإن احتمالات التحول تبقى قائمة.
كثيراً ما ندد بالخطوط الصناعية التي رسمت في الرمال من قبل دبلوماسيين أوربيين يجهلون أن الحدود التي وضعوها إنما كانت صناعية أكثر من الحدود التي يضعها أي صراع. وحتى أشد النقاد المتحمسين ضد فكرة التقسيم ذاك، لم يعط فكرة حقيقية صالحة عن الحدود والتقسيمات الطبيعية في المنطقة، ففي الواقع المنطقة لا تملك حدوداً طبيعة. فالأكراد على سبيل المثال تضرروا في ظل تقسيم المنطقة لأنهم لم يحصلوا على دولة ضمن ذاك التقسيم، لكن الاختلاف يمتد ليصل إلى إذا ما كان الأكراد يجب أن يحصلوا على دولة واحدة أم عدة دول؟
الجذور الحقيقية لمشاكل المنطقة يتمثل في تراكب الدول شديدة المركزية، وقيامها على الاستبداد في ظل منطقة تحوي فسيفساء متنوعة من جماعات دينية و عرقية مختلفة. لكن الانتقال إلى الديمقراطية حتى ولو كان احتمالاً ضعيفاً سيحمل مشاكل أخرى.
فمن الناحية النظرية، قد تكون الحكومات الديمقراطية الشاملة قادرة حقاً على حكم هذه البلدان غير المتجانسة بطريقة لا مركزية دون الحاجة إلى القمع أو التقسيم. لكن في العالم الحقيقي، هذه الحكومات المثالية غير موجودة. والإصلاحات السياسية التي شهدتها المجتمعات المنقسمة للغاية بعيداً عن تشجيع المصالحة غالباً ما تسارع في رتم التقسيم والصراع. ففي يوغسلافيا على سبيل المثال أدت أول انتخابات متعددة في البلاد عام 1990 إلى تفكيك البلاد
التقسيم الوطني
الضغط الحقيقي من أجل إنشاء دول جديدة يأتي في الأساس من ثلاثة مصادر هم : الأكراد العراقيين، الأكراد السوريين، وداعش.
أكراد العراق يملكون بالفعل اقليماً يتمتع بالاستقلال الذاتي ومعترف به ضمن الدستور العراقي منذ العام 2005. لكنهم يرون أن هذا الوضع مجرد خطوة أولى على طريق الاستقلال. وكانقسام داخلي بينهم، يظهر أكراد العراق تضامناً قليلاً مع نظرائهم في سوريا وتضامناً أقل مع نظرائهم الموجودين في تركيا.
الأكراد السوريون ينكرون الآن سعيهم للحصول على دولة خاصة بهم في الوقت الحالي، لكنهم تمكنوا من بسط سيطرتهم على مناطق ذات الأغلبية الكردية في شمال سوريا. وفي مارس الماضي، اعلنوا أن هذه المناطق ستشكل دولة فيدرالية داخل سوريا، لكنهم لم يتلقوا أي دعم من المجتمع الدولي. ومع ذلك، فإن الفشل في الحصول على دعم لهذه الفيدرالية لا يعني توقف طموحاتهم في تعزيز سيطرتهم على هذه المناطق والسعي لتوسيعها.
الحالة الأكثر إثارة للاهتمام فعلاً هي داعش، حيث نشأت في العراق الذي كانت تحتله الولايات المتحدة كحركة تابعة لتنظيم القاعدة، لكن التنظيم تعرض لانتكاسة خطيرة بعد زيادة عدد القوات الأمريكية في العراق عام 2007، ولاحقاً عاد للظهور كقوة رئيسية في سوريا عام 2013. وبحلول أواخر 2014، سيطرت داعش على مناطق كافية من العراق وسوريا لتعلن نفسها كدولة في المنطقة. الإعلان هنا لم يكن فقط خطابياً، فالوثائق المصادرة من قبل قوات التحالف الذي يحارب داعش لا تترك أي شك في أن داعش لم تعد مخبأ للمتمردين ولكنها أصبحت دولة في طور التكوين خاصة مع توافر الأمن والهياكل البيروقراطية والموارد المالية لدعم نفسها.
ويبدو أن داعش في طريقها لمواجهة الهزيمة في محاولة جهودها الرامية لخلق حالة دائمة، لكنها ستستمر في التواجد باعتبارها شبكة إرهابية دولية خطيرة للغاية. داعش فقدت بالفعل السيطرة على كثير من الأراضي البعيدة من مراكزها، كلن التحالف سيواجه وقتاً طويلاً حتى يستطيع السيطرة على مناطق داعش الأساسية كالموصل في العراق والرقة في سوريا. وحتى وإن فشلت هذه التجربة في نهاية المطاف إلا أنها تمكنت من إحداث اهتزاز فعلي بالنظام القديم بالمنطقة.
على الرغم من الأكراد وداعش هم فقط من تحدوا الحدود القائمة الآن علناً، إلا أن بعض العراقيين الآخرين بدؤوا فعلاً القيام بشيء شبيه. بعض السنة بما فيهم أثيل النجيفي، رئيس مجلس النواب العراقي والحاكم السابق لولاية نينوى، يسوق إلى ان المحافظات السنية سوف تحتاج احكام خاصة من الحكومة التي يقودها الشيعة فور تحرير تلك المناطق من سيطرة داعش. النجيفي وصل في اطروحته لما يشبه اقليم كردستان العراق كنموذج مشابه بالحكم الذاتي يمكن للسنة أن يحاكوه في العراق. حتى المحافظات الشيعية في العراق، كالبصرة والتي تقع على أغنى حقول النفط في العراق، تتحدى سلطة بغداد الآن وتطالب بحكم ذاتي.
ترفض حكومات العراق وسوريا أي تغيير طبيعي في حدودهما، على الرغم من افقتارهما للقدرة على استعادة السيطرة على تلك المناطق. وفي هاتين الدولتين المتجاورتين، تتمتع المعارضة بقوة كبيرة. ورسيا وأمريكا تعارضان تفكيك أي منهما، فروسيا ترفض زوال “سوريا الحليفة” ورئيسها بشار الأسد أما الولايات المتحدة فهذا هو نهجها السياسي، حيث تقف ضد تقسيم أي دولة، حتى أن الولايات المتحدة لم تدعم تفكك الاتحاد السوفييتي، على أمل أن الإصلاح السياسي من شأنه أن يجعل التقسيم أمراً غير ضروري.
مستقبل أفضل؟
بدلاً من ذلك، تسعى الولايات المتحدة والدول الأوروبية والأمم المتحدة إلى دعم الحكومات الديمقراطية التي تعتقد أنها قادرة على تحقيق السلام دون الحاجة إلى إيجاد حدود جديدة. هذا الاعتقاد يدعم جهود الولايات المتحدة لتشجيع الإصلاح في العراق والجهود الدولية المبذولة للتفاوض باتجاه إنهاء الصراع في سوريا. لكن لفكرة هذه تحظى بتأييد ضئيل في كلا البلدين، باستثناء بعض الليبراليين الذين فقدوا تأثيرهم في ظل ارتفاع زخم الاشتباكات بين الميليشيات المسلحة والمناورات بين النخب للحصول على السلطة وامتيازاتها.
المشكلة الحقيية أن أي نظام ديمقراطي شامل فعلاً يتطلب القضاء على الميليشيات في المناطق المسحلة والقادة الطائفيين وفساد النخب، بعبارة أخرى، كل أولئك الذين يسعون إلى الوصول إلى السلطة الآن. وباختصار دون تدخل كبير من الخارج فإن أياً من هذا لن يحدث ولا أحد يستطيع فعله بنفسه.
بالنظر إلى العراق، وخلال فترة الاحتلال ساعدت الولايات المتحدة في تطوير – البعض يصفه بفرض- نظام سياسي قائم على الانتخابات ولكنه يحتوي أيضاً على حصص عرقية وطائفية. لكن النظام انهار بشكل مروع بعد انسحاب القوات الأمريكية وأصبر يسيطر عليه الشيعة بشكل متزايد وتميز بعهد سلطوي في عهد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. وكشرط أمريكي لمساعدة العراق في القضاء على داعش، أصرت الولايات المتحدة على رئيس وزراء جديد قادر على استعادة لحكم شامل، واستبدل المالكي بحيدر العبادي.العبادل يحاول الآن الحد من الفساد واقترح تشكيل حكومة جديدة من التكنوقراط لا تنتمي لأي أحزاب سياسية.
لكن الأحزاب، وبما لا يثير الدهشة ، لم توافق على المقترح سعياً في عدم تهميشها، والبرلمان كذلك لم يوافق على المقترح. الشيخصية السياسية الوحيدة التي قبلت هذا المقترح غير العبادي كان مقتدى الصدر، وهو رجل دين منشق ومنبوذ من قبل الأحزاب الشيعية السياسية الرئيسية. الصدر يستخدم فكرة التهديد لزيادة سلطته عبر تهديده بإطلاق مظاهرات والنزول إلى الشوارع مال مل تثبت الحكومة إصلاحاتها السياسية. وبمعنى آخر، أصبحت الديمقراطية والحكم الرشيد أدوات في معركة سياسية شيعية داخلية جديدة.
لم يبدأ الإصلاح السياسي الحقيقي العميق الذي من الممكن أن يسمح للعراق وسوريا أن تصبحا دولاً مستقرة. حاول العبادي اتخاذ بعض الخطوات المتواضعة لكنها فشلت. لم يحاول الأسد حتى، مصراً على أن كل ما تحتاجه بلاده هو إجراء انتخابات جديدة. تقدم الحكومتين العراقية والسورية في مكافحة داعش سيجعلهم أكثر قمعاً وعلى الطرف الآخر سيوفر حوافز إضافية لأولئك الذين يرون أن الحدود الجديدة هي الحل الوحيد. المنطقة تتعثر مع انتهاء سايكس بيكو لكنها أبعد ما تكون عن الإقتراب من الوصول إلى نهاية لهذه الاضطرابات.
مارينا اوتاواي : باحثة متخصصة في الشرق الأوسط في معهد ويلسون