د. بشير زين العابدين
تشهد الساحة السورية نقاشاً محتدماً يتناول تقييم أداء “الإدارة الانتقالية” التي شكلتها “هيئة تحرير الشام”، ولا شك في أن الغالبية العظمى من السوريين تشعر بالسعادة العارمة بعودة البلاد إلى أهلها، والاستبشار بمشروع التحرير الذي تبني مفهوم “الانتقال من الثورة إلى الدولة”.
وفي خضم الأحداث المتسارعة؛ يمكن تقديم مجموعة من الملاحظات والتوصيات التي يمكن إيجازها في النقاط التالية:
1- الإشادة بالسياسات الرشيدة التي تبنتها “الإدارة” في مجالات: الانفتاح نحو جميع السوريين دون تمييز، والإفراج عن المعتقلين، وصيانة الحريات العامة، والدعوة إلى التسامح، والتحلي بروح المسؤولية، ومنع أعمال التعدي والانتقام، وكبح النزعات الانفصالية، والمحافظة على وحدة البلاد، وتثبيت الأمن، وملاحقة الجناة والمجرمين الذين تلطخت أيديهم بالدم السوري، والسعي إلى التخلص من الإرث الأسدي كالفساد والمحسوبية والطائفية والظلم، والجهود الدؤوبة التي تُبذل في الوقت الحالي لتحقيق الاعتراف الدولي، ورفع العقوبات، والدفع بعجلة الاقتصاد والسعي إلى تحسين حياة ملايين السوريين.
2- الثورة لم تنته بعد، وتحرير البلاد لم يكتمل في ظل استمرار أربعة جيوش دولية في شن عمليات عسكرية، واحتلال بعضها المزيد من أراضي سوريا والإمعان في تدمير قدراتها العسكرية، وسيطرة ميلشيات إثنية وطائفية على مناطق إستراتيجية واستحواذها على قطاع ضخم من موارد البلاد وثرواتها، وبقاء مناطق شاسعة خارج سيطرة “الإدارة” نتيجة محدودية عدد منسوبيها وعجزها عن نشر عناصر الأمن والشرطة والمرور، وعن حماية المنشآت العامة. علماً بأن المتربصين كُثُر، ولا تملك الإدارة -في الوقت الحالي- القدرة على فرض سياسة “احتكار العمل المسلح”، ولذلك فالواقعية مطلوبة في الطرح، والتعجل في إعلان انتهاء الثورة هو الخطأ الأكبر الذي وقع فيه قادة ثورات مجاورة كان مصيرها الفشل الذريع.
3- تجنب مهاجمة الفصائل في اللقاءات العامة والخاصة وعلى وسائل الإعلام، ففصائل الثورة -على علاتها وكثرة أخطائها- شاركت في عملية التحرير، وامتزجت دماء أفرادها مع دماء عناصر “الهيئة”، والحاجة إليها ملحةً لملء الفراغ الناتج عن انهيار سلطة النظام، ومواجهة فلوله، ولاستكمال تحرير البلاد، وبسط الأمن، وردع النزعات الانفصالية. وإذ نشد على أيدي “الإدارة” في تبني سياسة الانتقال من الحالة الفصائلية إلى القوات الاحترافية المنظمة؛ إلا أن ذلك يجب أن يتم ضمن إطار حفظ الكرامة، والاعتراف بالشراكة، وتقدير التضحيات التي بُذلت، والأدوار التي يتعين القيام بها.
4- أحسنت القيادة الجديدة في شجب التنابز بالألقاب والدعوة إلى تقدير ظروف ملايين المكرهين الذين رزحوا تحت سيطرة النظام، لكن الانفتاح الوطني لا يعني تلميع أو احتواء عناصر ثبت إجرامها بحق الشعب السوري (ممارسة أو تحريضاً)، خاصة وأن الشكاوى تتزايد من إغلاق الأبواب أمام شخصيات وجمعيات ومؤسسات وطنية عُرفت بوطنيتها وببذلها، مقابل تقريب جهات مدعومة بميزانيات وأجندات خارجية، ولا يمكن مواجهة فلول النظام التي بدأت تعيد حشد قواها؛ إلا من خلال دعم القوى الوطنية المخلصة وتعزيز أدوار مؤسسات المجتمع المدني لصد تلك المشاريع المشبوهة وكشف أجنداتها.
5- العفوية ميزة في الشخصيات العامة، لكنها ليست كذلك لمن ينبوأ مناصب تتناول مصائر الملايين، فهؤلاء كلماتهم محسوبة، ولا بد من توخي الحذر فيما يقال وما لا يقال، ومن جملة ما لا يقال أن يصرح أحدهم أنه “جلب سوريا للسوريين”، وهي عبارة موهمة، لا شك في أنه لا يقصدها بحرفيتها، خاصة وأنه أكد سابقاً على دور تضحيات الملايين في تحرير البلاد، كما أن الفصل في الحقوق العامة والبت في التعديات التي تم ارتكابها هي أمور لا تملكها أية سلطة تنفيذية، بل يجب أن تحكمها الشرائع والقوانين، فضلاً عن إدلاء بعض منسوبي الإدارة بتصريحات غير مدروسة أتاحت مجال توظيفها بصورة سلبية لا تعكس الواقع.
6- مخاطبة السوريين بصورة مباشرة أمر ملح وضروري، ولا يتحقق هذا الأمر الحيوي والمحوري من خلال وسائل الإعلام الخارجية، ولا عبر مجموعة “مؤثرين” يفتقر بعضهم إلى الخبرة والمهنية، ولا تغني اللقاءات الشخصية مهما ازدحمت الأجندة اليومية، ولا يسوغ أن يسود الغموض فيما يتعلق بالقضايا المصيرية للشعب السوري، وبسير العملية الانتقالية وبالأمور المعيشية لملايين المنكوبين، وأن يتاح لوسائل إعلام خارجية مجال التصرف بمادة المقابلات الحصرية (كل وفق أجندتها)، بل يتعين إيجاد آلية وطنية لمخاطبة الشعب بصورة مباشرة تغنيهم عن تلقط أخبار بلادهم من القنوات الخارجية، وعبر تتبع ما يقوله مسؤولو “الإدارة” لنظرائهم الغربيين والعرب في لقاءات الغرف المغلقة.
7- الانفتاح يجب أن يكون السمة الأساسية للسلطة السورية في حقبة ما بعد الأسد، فالبلاد أحوج ما تكون إلى كفاءاتها، خاصة وأن الشخصية السورية معروفة باحترافيتها وبكفاءتها، ولا شك في أن “الإدارة” تتلقى ملاحظات يومية حول سياسة الاستحواذ والاستئثار، وما ينتج عنها من تفويت فرص مهمة لملء الفراغ الهائل الذي لن تتمكن من ملئه بمفردها، بل يتعين فتح المجال واسعاً لمشاركة الشباب السوري الذي يتميز بالوعي وبالرغبة في المشاركة في الشأن العام، وتجنيبهم الخوض في مبادرات ارتجالية لا تحمد عقباها.
8- المعادلة الأمنية السورية هي الأعقد على مستوى الشرق الأوسط، ولا بد من الاستعانة بالخبرات الوطنية المشهود لها في مجالات الأمن الوطني والإقليمي والدولي، بهدف درء أضرار التدخل العسكري الخارجي، والعمليات المسلحة المستمرة، ومعالجة مشاكل التداخل بين أمن سوريا وأمن دول الجوار، والتخارج من إرث البعث العدائي، مع ضرورة التنبيه إلى أن بعض التطمينات الخارجية تندرج ضمن محاولات بعض القوى الفاعلة تعزيز موقفها، وسبق أن بُذلت تطمينات أكبر لحكام البلاد منذ انقلاب حسني الزعيم، ومن بعده أديب الشيشكلي، وصولاً إلى بشار الأسد، ولغيرهم من الزعماء الذين ركنوا إلى تلك التعهدات وفوجئوا بنقيضها، ما يدعو للتأكيد على أن الضمانة الأساسية للحكم الرشيد هي القبول المجتمعي والشرعية الشعبية وغيرها من العناصر التي لا بد من المسارعة إلى تلافي التقصير فيها.
9- الدولة: شعب، وأرض، وسيادة، ونظام حكم، و”بناء الدولة” ليست مجرد تصريحات عائمة، بل هي عملية شاقة خاضتها العدد من الدول في ثورات ناجحة للوصول إلى الأمن والاستقرار والازدهار، ولذلك فإنه يتعين الاستفادة من تلك التجارب، وتوخي الحذر في خطوات مرحلة التأسيس التي تشيّد فيها البنى التحتية للدولة، والتي تحدد بدورها مدى الاستدامة والقدرة على البقاء، مع ضرورة عدم الاستعجال، وتجنب الارتجالية والانعزالية والانكفاء.
10- النقاط التي تم إيرادها أعلاه تقع في خانة “النصح” وليس في خانتي “النقد” و “المعارضة”… وجميعها مشروع في ظل الحكم الرشيد.
آمل أن تجد الإدارة الحالية في ازدحام أجندتها اليومية وثقل مسؤولياتها الفرصة لتصحيح المسار، وأن تبادر إلى توسيع دائرة المشاركة فيما يحقق الصالح العام، وأن تتحلى بروح الشفافية والمصارحة مع شعب يتطلع لبلد آمن ومستقبل مزدهر.