في صباح يوم 8 فبراير، توجهت طائرة الموظف الحكومي في بافالو في نيويورك – الصومالي المولد والحاصل على الجنسية الأمريكية- توجهت طائرته الخاضعة للحراسة المشددة إلى عاصمة موطنه الأصلي الذي دمرته الحرب حيث كانت تجري هناك عملية التصويت لاختيار الرئيس الجديد، ومع انتهاء تلك الليلة كان هذا الموظف قد أصبح رئيساً في بلاده. فوزه المفاجئ، والذي احتفل به في مقديشو عبر إطلاق النار وذبح الجمال، بينما كان احتفال نيويورك أقل صخباً في مكتب قسم النقل في بافالو، حيث كان لا زال يعمل كضابط فني في المكتب، وفي نفس تلك اللحظة كانت المحكمة الاتحادية تنظر في تقرير مصير اللاجئين القادمين من بلده مثله ومثل غيره.
قصة وصول محمد عبدالله محمد لمنصب رئيس دولة تعمها الفوضى والإرهاب يتوازى مع الحكاية الأمريكية الكلاسيكية التي تجسد المهاجر الذي يعيش صراعاً قديماً بين قيم ومبادئ الديمقراطية الأساسية وقوى الفساد السياسي. هذه القصة تبدأ عام 1988 عندما قرر محمد، السكرتير الأول في السفارة الصومالية في الولايات المتحدة أن عودته إلى بلاده باتت خطيرة للغاية وقدم طلباً لجوء في امريكا. في ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة تميل لقبول مثل هذه الطلبات.
وعلى مدى السنوات ال25 المقبلة، تمكن محمد من الحصول على شهادة في مجال التاريخ والعلوم السياسية، وعمل في العديد من الحملات المحلية، وقام بدور المتحدث باسم اللاجئين الآخرين كمسؤول منتخب يمثلهم، واستوعب ببطء الدروس المستفادة من المجتمع المدني وأساسيات الإدارة الأمريكية كما لو أنه كان يعرف أنه سيعود إلى الصومال رئيساً يوماً ما. وكان بهذا الشكل أشبه بالمنتج القابل للتصدير، لكنه هذه المرة لم يكن كفول الصويا أو رقائق الكمبيوتر وإنما كان نموذجاً من القيم الديمقراطية.
وكما يقول جويل جيامبرا، المدير التنفيذي السابق في مقاطعة إيري والذي أدار من نيويورك حملة محمد الانتخابية:” لقد كان دوماً يسعى للعودة إلى الوطن ومحاولة إحلال السلام فيه، كان هذا هو طموحه دوماً”.
ويمثل تحول حياة محمد بهذا الشكل أحد أهم الحجج القوية ضد حظر ترامب لدخول اللاجئين، فصحيح أن هذا الأمر سيمنع محمد وأمثاله من دخول الولايات المتحدة، لكنه بلا شك سيقلل من نفوذ الولايات المتحدة في الخارج. وينتظر الجميع مزيداً من النفوذ الأمريكي في الصومال التي تمثل أهمية كبيرة لمحاربة الإرهاب وتنظيم القاعدة عدا عن كمية الاستثمارات الكبيرة التي يمكن للولايات المتحدة أن تخص بها الصومال وتستفيد منها.
لم يكن محمد حريصا على مغادرة الصومال في البداية. فقد ولد في عشيرة تحظى بعلاقات جيدة مع الجميع، وقضى والده معظم حياته تحت الاستعمار الإيطالي وهو يعمل كموظف حكومي. لقب ابنه “فرماجو” وهي كلمة محلية تعني “الجبن” أحد الأطعمة المفضلة لذاك الطفل. وبعد تخرجه من المدرسة الثانوية، تمكن محمد من الحصول على وظيفة مع وزارة الخارجية الصومالية، وأرسل في عام 1985 للعمل في سفارة بلاده في واشنطن. وفي عام 1988 انتقد محمد الحكومة الاستبدادية في بلاده، ولخوفه من عدم العودة بأمان إلى الصومال تقدم بطلب اللجوء السياسي في الولايات المتحدة.
جلب محمد زوجته لاحقاً إلى بافالو، حيث يتجمع هناك عدد من اللاجئين الصوماليين. وانتقل إلى الإسكان العام ليكمل دراسته ويحصل على درجة البكالوريوس في التاريخ من جامعة ولاية نيويورك في بافالو. وبعد عام من تخرجه انتخب من قبل زملائه المستأجرين كمفوض عن المقيمين، وهو الأمر الذي وضعه تلقائياً في الهيئة العامة للإسكان في بافالو. وحصل من هناك على سمعة جيدة كمنظم مجتمعي حيث بدأ في قيادة المهاجرين والمسلمين المتواجدين في بافالو. وفي عام 1999، برز محمد كناشط داعم لانتخاب جيامبرا عن الحزب الجمهوري في المقاطعة. وعقب فوز جيامبرا تولى محمد وظيفة في مكتبه كمنسق للأقليات في المقاطعة. وفي عام 2002 حصل على وظيفة مماثلة مع وزارة النقل في نيويورك، ولأكثر من 8 سنوات شاهد محمد أطر عدم التمييز والعمل الإيجابي بين المقاولين وسياسات التوظيف التي تختلف تماماً عما كان عليه الوضع في الصومال حيث تعتمد الوظائف الحكومية على عضوية العشائر والملكية وتعطى عادة للحلفاء والأصدقاء المقربين من السلطة.
جميع من عمل مع محمد خلال تلك السنوات يصفونه بأنه متواضع ورجل أسرة ملتزم بها. ولكن طموحه كان واضحاً أيضاً، فلم يقتصر الأمر بالنسبة له على التحسن في السلك الوظيفي فحسب، بل أتم درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة بافالو وكان عنوان أطروحته “الفائدة الاستراتيجية للولايات المتحدة من الصومال”.
تقول زميلة محمد في وزارة النقل بنيويورك “جانين شيبرد” لقد كان ظاهراً انتماء محمد وحنينه لوطنه وانزعج دوماً من حجم الفساد هناك”.
اما مشرفه في دراسته للماجستير فقد أشار إلى أنه ومحمد أجريا العديد من المناقشات المكثفة حول البلدان النامية التي تشهد حالات استبداد وعن طبيعة الخطوات اللازمة لتحقيق الديمقراطية. وسبق لهم أن ناقشوا ايضاً نماذج مختلفة من الحكم الديمقراطي والتطرف الديني وأمراء الحرب في مختلف البلاد الاستبدادية.
وفي اطروحته حدد محمد المتطرفين الإسلاميين على أنهم عقبة رئيسية في وجه الاستقرار في الصومال. وقال أن حركة الشباب وغيرها من التنظيمات المتطرفة تمكنت من الازدهار بسبب السياسة الأمريكية غير المدروسة في المنطقة. وأضاف أيضاً أن الشعب الصومالي كان ضحية الاستعمار والدكتاتورية وبلطجة أمراء الحرب. وأشار أيضاً إلى أن الصومال يقبع – حينها- على مفترق اثنتين من الأيديولوجيات المتطرفة، الأولى ايديولوجية جورج بوش المتطرفة والثانية استراتيجة التطرف الإسلامي، هاتان الاستراتيجيان تستندان إلى مبدأ شن حرب مقدسة على بعضها البعض ليس في العراق وافغانستان فحسب، بل في الصومال أيضاً وفي نهاية المطاف، يعاني الناس من هذه الأيديولوجيات رغم عدم ايمانهم بها.
وفي عام 2010 التقى محمد بالرئيس الصومالي حينها، شيخ شريف أحمد الذي كان قد جاء إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ونجح محمد في ترتيب لقاء معه وناقش طرق خفض الفساد في الصومال. بعدها بأيام تلقى محمد اتصالاً من مدير مكتب الرئيس الصومالي يعلمه بأنه أصبح على قائمة الرئيس القصيرة المرشحة لمنصب رئيس الوزراء. وهناك توجه محمد إلى الصومال ليؤدي لاحقاً اليمين كرئيس للوزراء.
يشكل الساسة الصوماليون في الشتات ثلث أعضاء البرلمان الاتحادي للصومال. وكثيراً ما كان الساسة الصوماليون يحملون جوازات سفر أجنبية، ومن الجدير بالملاحظة أن وزير الدفاع الصومالي مثلا قضى معظم حياته في ولاية كاليفورنيا الأمريكية ثم عاد إلى البلاد عام 2011 ليشغل منصب وزير الدفاع. وهذا العام ترشح 24 شخص لمنصب رئيس الصومال، 9 منهم يحملون جوازات سفر أمريكية.
ولعل قصة العودة الى الوطن الاكثر دهشة تلك التي قام بها حسين محمد فرح الذي عاد إلى البلاد عام 1996 بعد أن انتخب رئيساً لمجلس القبائل وكان حينها يبلغ من العمر 33عاماً.
من جهته يقول محمد أنه ومع توليه منصب رئيس الوزراء عام 2010 قام بالعمل على ابعاد حركة الشباب الإرهابية وساعد الجيش في بسط سيطرته على 60% من مناطق مقديشو. وهو ما ساعده على تكوين علاقة طيبة مع المواطنين وعزز منزلته لديهم.
ساهم محمد كثيراً في تخفيف حدة الفساد واستفاد من تواجد قوات الاتحاد الافريقي التي فرضت الأمن وساهمت في تحييد مقاتلي حركة الشباب بعيداً عن مناطق العاصمة الرئيسية.
ساهم هذا الأمر في تعزيز مكانة محمد كبطل شعبي في الصومال خاصة بعد سقوطه كضحية لترتيبات ما وراء الكواليس في يونيو 2011 حيث وقع ضحية لصفقة خفية بين الرئيس الصومالي شريف أحمد وشريف حسن شيخ عدن رئيس البرلمان الذي رآى في محمد كحجر عثرة أمام طموحاته. حينها اتفق الرجلان على إزاحة محمد من طريق الثاني وتأجيل الانتخابات حتى اغسطس 2012 بحيث يحظى الرئيس الصومالي بعام آخر من القوة أما رئيس وزارئه القوي فيبتعد عن المشهد مفسحاً المجال أمام رئيس البرلمان لتولي مهامه لاحقاً.
اندلعت احتجاجات عنيفة رافضة لقرار عزل محمد، وانضم الجنود إلى الاحتجاجات مؤكدين ولائهم لرئيس الوزراء الذي ضمن لهم حياتهم ورواتبهم بشكل منتظم. حينها قرر محمد العودة إلى الولايات المتحدة واكمال العمل في وظيفته السابقة التي كان قد بقي له فيها 7 سنوات للحصول على راتب تقاعدي.
وصف زملاء محمد عودته بالخيبة للأمل، فقد كان قد تغير كثيراً، وأكد التزامه وتصميمه على العودة إلى وطنه مجدداً وأخذ فرصة جديدة للنهوض ببلاده مجدداً.
كان محمد سعيداً بعودته إلى أسرته، ولا يمكن له أن ينسى كيف قتل 5 من حراسه في إطلاق للنار تجاه منزله. لكن زملاءه أكدوا أنه لم يتخلى أبداً عن احلامه بالعودة إلى الصومال مجدداً وقرر الترشح للانتخابات 2012، وحينها قام بتأسيس حزب سياسي جديد يحمل اسم “تايو” أي الجودة. خسر حينها محمد الجولة الأولى من الانتخابات ولم يحصل سوى على 5% من الأصوات وفاز الرجل الذي كان وراء اقالته بتلك الانتخابات.
لم يستسلم محمد للهزيمة، بدأ على الفور بتاسيس مرحلة جديدة ونظم رحلات الى الجالية الصومالية في مختلف مناطق العالم بما فيها مينابولوس وكولومبوس وحتى أوسلو في النرويج. هذه الجاليات بامكانها تقرير الكثير في نتائج الانتخابات الصومالية حقيقية عدا عن كونها مصدراً مهماً للتبرعات. وفي عام 2015 ترك محمد عمله بإجازة طويلة وقرر التفرغ والتحضير على نطاق واسع لحملته الانتخابية وفق نهج مدروس ومطور.
استخدم محمد قواعد اللعبة المألوفة لدى الأمريكيين للوصول إلى كرسي الرئاسة، شهدت الفترة ما قبل الانتخابات احداثاً ماساوية راح ضحيتها أكثر من 28 صومالي نتيجة تفجير سيارة مفخخة قبل اسبوعين من الانتخابات. وهذا يعني أن أعضاء البرلمان سيكونون مجدداً من تلك الفئة التي تستفيد من هذه التفجيرات وتسيرها لصالحها.
ووفق مراقبين فقد كانت أسعار التصويت عالية للغاية، فقد عرض على عضو البرلمان مبلغ 50 ألف دولار أمريكي مقابل اختيار رئيس معين في عملية الاقتراع السري التي تجرى في البرلمان.
في يوم الانتخابات اجتمع النواب في صالة المطار التي تخضع لحراسة مشددة في مقديشو . وكانت قوات حفظ السلام تراقب المنطقة الخارجية لمنع أي من هجمات حركة الشباب عليهم. كما تم منع البرلمانيين من استخدام كميات كبيرة من النقود كانت بحوزتهم او حتى من استخدام الهواتف المحمولة للحيلولة دون أن تصبح عملية التصويت عملية مزاد علني كما كان في السابق. وهكذا خسر 17 مرشحاً من أصل 21 في الجولة الأولى من التصويت. ثم انسحب مرشح اضافي وترك التنافس بين ثلاثة متنافسين هم الرئيس الحال محمود والرئيس السابق أحمد ومحمد.
اصابت العديد من وكالات الانباء الصدمة نتيجة تأهل محمد للمرحلة النهائية من التصويت، وازدادت الصدمة بعد فوز محمد بما يزيد على 50% من الأصوات في الجولة الثانية. وفي المرحلة الثانية اقصي الرئيس السابق أحمد، ليفوز محمد بأغلبية الثلثين المطلوبة وحينها هرع الآلاف إلى شوارع مقديشو للاحتفال بإطلاق النار من أسلحتهم فيما أعلن محمد في خطابه للانتصار أن هذه هي بداية وحدة الامة الصومالية وهي بداية الحرب ضد حركة الشباب والفساد.
ورغم اتهامات الفساد والاستغلال إلا أن محمد ينفي استخدامه لأي من هذه الطرق للوصول إلى سدة الحكم فيما يؤكد دوماً على اتباعه النهج الديمقراطي للوصول إلى سدة الحكم.
قد يشعر المسؤولون الأمريكيون أن هذا الرجل يملك المؤهلات للمعرفة الكافية بطرق السياسة وأصول الحكم ويحظى بشعبية كبيرة في بلاده ويظهر استعداداً للتصدي للقوى الارهابية ويظهر التزاماً بتحقيق الاستقرار في المؤسسات وهو ما عجزت عنه السلطات الصومالية في السابق ويمكن أن يفيد في نهج امريكي جديد الصومال.
وعن هذا يقول ريتشارد داوني، نائب مدير برنامج افريقيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدلوية :” اعتقد أن هذه المفاجأة مدوية جداً، ليس بسبب علاقة محمد مع الولايات المتحدة بل بسبب عمله السابق كرئيس للوزراء أيضاً.
هذه المادة مترجمة من موقع بوليتيكو للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا