(ليس من المقبول أن تطلب من طهران تلبية مطالب جديدة)
محمد جواد ظريف: وزير الخارجية الإيراني
يناير 2021
مقال مترجم عن موقع Foreign Affairs
كمرشح للرئاسة في عام 2016، تعهد دونالد ترامب بإيقاف هدر دماء الأمريكيين وأموالهم على الحروب في غرب آسيا، لكن بدلاً من ذلك وخلال فترة توليه الرئاسة، قام ترامب باحتجاز الولايات المتحدة في المنطقة وأشعل الانقسامات لدرجة أن حادثة بسيطة قد تخرج عن السيطرة بسرعة وتؤدي إلى حرب كبرى.
لدى الإدارة الجديدة في واشنطن خيارين رئيسيين: إما أن تتبنى السياسات الفاشلة لإدارة ترامب وأن تواصل السير على طريق ازدراء التعاون الدولي والقانون الدولي، -وهو ازدراء واضح جداً في قرار الولايات المتحدة في 2018 المتضمن الانسحاب أحادي الجانب من خطة العمل الشاملة المشتركة، المعروفة باسم الاتفاق النووي الإيراني، الذي وقعته إيران والصين وفرنسا وألمانيا وروسيا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي قبل ثلاث سنوات فقط-، أو يمكن للإدارة الجديدة أن تتخلى عن الافتراضات السيئة بخصوص الماضي وأن تسعى إلى تعزيز السلام والتعاون في المنطقة.
يمكن للرئيس الأمريكي جو بايدن أن يختار الطريق الأفضل من خلال إنهاء سياسة ترامب الفاشلة القائمة على نهج “الضغط الأقصى” والعودة إلى الصفقة التي تخلى عنها ترامب، إذا فعل ذلك، فستعود إيران بالمثل إلى التنفيذ الكامل لالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي، ولكن بدلاً من ذلك إذا أصرت واشنطن على انتزاع التنازلات، فستضيع هذه الفرصة.
يواصل بعض صانعي السياسة والمحللين الغربيين الحديث عن “احتواء” إيران، لكن من الأفضل لهم أن يتذكروا أنه بصفتها لاعباً قوياً في المنطقة، فإن لإيران مخاوف وحقوق ومصالح أمنية مشروعة – تماماً كما تفعل أي دولة أخرى- وعليهم أن يتفهموا هذه المخاوف بدلاً من المضي في الوهم القائل بأن إيران يجب ألا تتمتع بنفس الحقوق مثل أي دولة أخرى ذات سيادة. لقد أوضحنا دائماً أننا سنستجيب بشكل إيجابي لأي مبادرة للحوار الإقليمي تُقدم بحسن نية، فبالنسبة لنا، فإن النوايا الحسنة تولد النوايا الحسنة.
البحث عن نموذج جديد
تسبب التدخل العسكري الأمريكي في منطقتنا في العقدين الأخيرين بأضرار لا توصف بينما لم تنجز إلا القليل. وفقاً لمعهد واتسون للشؤون الدولية والعامة، أدت الحروب التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر/أيلول إلى مقتل 800 ألف شخص على الأقل بشكل مباشر وعدد أكبر بكثير بشكل غير مباشر، وإضافةً لذلك، منذ عام 2001، أُجبر ما لا يقل عن 37 مليون شخص في المنطقة على ترك منازلهم.
بفضل الغزوات الأمريكية ومبيعات الأسلحة، أصبح جوار إيران المنطقة الأكثر عسكرة في العالم. المملكة العربية السعودية، الدولة التي يبلغ عدد سكانها 27 مليون نسمة فقط، هي أكبر مستورد للأسلحة في العالم، تشتري السلاح بشكل أساسي من الولايات المتحدة، وهناك الإمارات العربية المتحدة، مشتر رئيسي آخر للأسلحة الأمريكية، ليس لديها أكثر من 1.5 مليون مواطن لكنها ثامن أكبر مشتر للأسلحة على هذا الكوكب، واستخدمت هذه الدول الأسلحة التي اشترتها للتسبب بالموت والدمار للمدنيين في اليمن، وأعطاها البيت الأبيض بداية الضوء الأخضر للقيام بذلك، في عهد الرئيس باراك أوباما، ثم تفويضاً مطلقاً في عهد ترامب.
خلال رئاسة ترامب، حملت واشنطن حبها للصراع مباشرة إلى باب إيران. ففي كانون الثاني/يناير الماضي، اغتالت الولايات المتحدة الجنرال قاسم سليماني، مما جعل الوضع -المشحون أصلاً- أكثر اضطراباً في منطقة ابتليت بالعنف الإرهابي، كما أزالت جريمة القتل قائداً بارزاً في مواجهة ما يسمى بالدولة الإسلامية أو (داعش) وغيرها من الجماعات المتشددة من العراق وسوريا – وأضافت جريمة لا تُغتفر إلى السجل الطويل للانتهاكات الأمريكية.
لا تستطيع الولايات المتحدة بسهولة تعويض الضرر الذي تسببت فيه أفعالها، لكن الإدارة الجديدة يمكنها معالجة خطأ فادح واحد لسابقتها، وهو انسحاب ترامب في عام 2018 من الاتفاق النووي الإيراني. حاول الرئيس الأمريكي نسف إنجاز دبلوماسي كبير متعدد الأطراف، ثم بدأ حملة حرب اقتصادية حادة استهدفت الشعب الإيراني، وبالتالي معاقبة إيران على التزامها باتفاقية أقرتها الأمم المتحدة. وتسببت العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب مراراً وتكراراً، بمنع استيراد إيران للعناصر المطلوبة لمواجهة جائحة كوفيد19، لكن هذه المصاعب لم تجبرنا على الاستسلام، ولم تهدم اقتصادنا ولم تجبرنا على تغيير حساباتنا الاستراتيجية.
بدلاً من ذلك، فإن الضغط على إيران قد أدى مراراً وتكراراً – وسيؤدي دائماً – إلى عكس النتيجة المرجوة تماماً، فعلى سبيل المثال، في عام 2005، طالبت الولايات المتحدة وحلفاؤها بتخلي إيران عن حقها في تخصيب اليورانيوم وفرض عقوبات جائرة عليها من خلال مجلس الأمن الدولي، وعلى الرغم من هذا الضغط الاقتصادي، بين عامي 2005 و 2012، زادت إيران عدد أجهزة الطرد المركزي من 200 إلى 20000 وأنتجت أكثر من 17000 رطل من اليورانيوم المخصب بتركيز 3.67 في المائة وأكثر من 440 رطلاً من اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المائة. وبالمثل، فبالتزامن مع حملة “الضغط الأقصى” التي شنتها إدارة ترامب، زاد مخزوننا من اليورانيوم منخفض التخصيب من 660 إلى 8800 رطل وجرى تحديث أجهزة الطرد المركزي لدينا من طرازات IR-1 الأقدم إلى طراز IR-6 الأكثر قوة.
لقد أثبت تخلي الولايات المتحدة عن الاتفاق النووي شيئاً واحداً – أن توقيع وزير خارجية إيران له وزن أكبر من توقيع رئيس الولايات المتحدة القوي. حتى أوباما فشل في منع الكونجرس الأمريكي من تمرير تمديد قانون العقوبات على إيران لمدة عشر سنوات، في انتهاك واضح للصفقة التي تفاوضت عليها إدارته، وعزز تجاهل ترامب لالتزامات الولايات المتحدة – ليس فقط الاتفاق النووي بل قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي صادق على الصفقة – الانطباع بأن الولايات المتحدة شريك غير موثوق به.
لذا، نعم، زادت إيران بشكل كبير من قدراتها النووية منذ مايو 2019 – لكنها فعلت ذلك بما يتفق تمامًا مع الفقرة 36 من الاتفاقية النووية، التي تسمح لإيران “بالتوقف عن تنفيذ التزاماتها” بموجب الاتفاق إذا توقف طرف آخر عن أداء التزاماته الخاصة، فإذا كانت الإدارة الأمريكية الجديدة تأمل في تغيير المسار الحالي، فعليها أن تغير مسارها على الفور.
ما الذي يجب أن يحصل ؟
لا يزال بإمكان إدارة بايدن القادمة إنقاذ الاتفاق النووي، ولكن فقط إذا استطاعت حشد الإرادة السياسية الحقيقية في واشنطن لإثبات أن الولايات المتحدة مستعدة لأن تكون شريكاً حقيقياً في الجهود الجماعية. يجب أن تبدأ الإدارة بإزالة جميع العقوبات المفروضة أو المعاد فرضها أو المعاد تسميتها منذ تولي ترامب منصبه، بأثر كامل، وستلغي إيران بدورها جميع الإجراءات العلاجية التي اتخذتها في أعقاب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، ثم سيقرر الموقعون الباقون على الاتفاق ما إذا كان ينبغي السماح للولايات المتحدة باستعادة مقعدها على الطاولة الذي تخلت عنه في عام 2018. فبعد كل شيء، الاتفاقات الدولية ليست أبواباً دوارة، ولا يحق لمن يغادر لمجرد نزوة العودة إلى اتفاق تفاوضي – والتمتع بامتيازاته .
وستتعرض تلك العودة إلى طاولة المفاوضات للخطر إذا طالبت واشنطن أو حلفاؤها في الاتحاد الأوروبي بشروط جديدة لاتفاق تم عقده بعناية خلال سنوات من المفاوضات.
لنكن واضحين بشأن هذه النقطة: وافقت جميع الأطراف في الاتفاق النووي (بما في ذلك الولايات المتحدة) على قصر نطاقه على القضايا النووية لأسباب عملية للغاية، وتفاوضنا بعناية حول الجداول الزمنية للقيود التي فرضتها الصفقة، ووافقت إيران على التخلي عن العديد من الفوائد الاقتصادية الناتجة عن الصفقة بسبب تلك الجداول الزمنية. لم تكن السياسات الدفاعية والإقليمية لإيران مطروحة للنقاش، لأن الغرب لم يكن مستعداً للتخلي عن تدخله في منطقتنا الذي تسبب في مثل هذه الاضطرابات لعقود من الزمن. ولم تكن الولايات المتحدة – أو فرنسا أو المملكة المتحدة، في هذا الصدد – مستعدة للحد من مبيعاتها من الأسلحة المربحة، التي أججت الصراع واستنزفت موارد منطقتنا. كجزء من المفاوضات النووية، وافقت إيران على قيود مدتها خمس سنوات وثماني سنوات على مشتريات الدفاع والصواريخ على التوالي، لا يمكن التراجع عن الصفقات – ولا التضحيات – التي قطعناها على أنفسنا لتأمين الصفقة، لا الآن ولا لاحقاً. لا يمكن أن يكون هناك أي إعادة تفاوض، ولا تستطيع الولايات المتحدة الإصرار على أن “ما هو ملكي هو ما يخصك وما هو قابل للتفاوض” وتتوقع أن تشق طريقها مع إيران.
بعيدًا عن القضية النووية، كانت إيران دائماً على استعداد لمناقشة المشاكل التي تعاني منها منطقتنا، لكن شعوب المنطقة يجب أن تحل هذه القضايا، وليس الغرباء. لا تتمتع الولايات المتحدة ولا حلفاؤها الأوروبيون بصلاحية قيادة المحادثات المستقبلية أو رعايتها. بدلاً من ذلك، تحتاج منطقة الخليج العربي إلى آلية إقليمية شاملة لتشجيع الدبلوماسية والتعاون وتقليل مخاطر سوء التقدير والصراع.
لطالما دعت إيران إلى إنشاء منتدى للحوار الإقليمي – منذ قرار مجلس الأمن رقم 598 في عام 1987 حتى مبادرة هرمز للسلام، والمعروفة أيضاً باسم HOPE، والتي قدمتها إيران إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2019. في مثل هذا المنتدى (منتدى الحوار الإقليمي)، يمكن للبلدان معالجة المخاوف من خلال تدابير بناء الثقة، وحل المظالم من خلال الحوار، والانخراط في جهود متبادلة المنفعة لحل المشاكل المشتركة وحماية المصالح الجماعية. إن مبادرة “HOPE” ليست مخططاً للمستقبل، فأي ترتيب دائم يجب أن يتم التوصل إليه بشكل جماعي من قبل جميع القوى الإقليمية، لكن الاقتراح يعكس تطلعات إيران إلى مجتمع قوي ومستقر ومسالم ومزدهر البلدان، خالٍ من فرض الهيمنة الإقليمية أو العالمية.
تم بناء إطار عمل مبادرة “HOPE” على مبادئ معترف بها عالمياً، تشمل احترام السيادة والسلامة الإقليمية، حيث تتعهد الدول المشاركة بإظهار الاحترام للرموز التاريخية والدينية والوطنية وتجنب التدخل في الشؤون الداخلية أو الخارجية لبعضها البعض. ضمن ما أطلقنا عليه اسم “مجتمع هرمز”، تلتزم الدول بتسوية النزاعات بالطرق السلمية وتتجنب المشاركة في التحالفات ضد بعضها البعض. في أكتوبر 2019، كتب الرئيس الإيراني حسن روحاني رسائل إلى جميع دول مجتمع هرمز – البحرين والعراق والكويت وعمان وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة – لدعوتهم رسمياً للانضمام إلى المبادرة، ولا تزال هذه الدعوة مطروحة على الطاولة.
من أجل تطبيق مبادرة “HOPE” أو أي محاولة مماثلة لتحقيق النجاح، يجب على دول المنطقة – والقوى الخارجية – قبول حقائق معينة، في مقدمتها حقيقة أن مستقبل المنطقة يمكن ويجب أن تقرره شعوبها فقط، وأي نهج آخر سيؤدي إلى الفشل. ومن أجل هذه الغاية، يجب على الغرب أن يتخلى عن سياسة المحسوبية والدعم الأعمى للسلوك السيئ للعملاء الإقليميين باسم مواجهة التهديد الإيراني الوهمي، ويجب إشراك جميع الدول المطلة على الخليج الفارسي، دون استثناء، في أي مسعى إقليمي، ويجب على كل من الجهات الفاعلة الإقليمية والخارجية أن تعترف وتحترم الحقوق والمصالح والمخاوف الأمنية الوطنية المشروعة للجميع.
يحتاج الغربيون، وخاصة الأمريكيون، إلى تعديل فهمهم لإيران والمنطقة إذا أرادوا تجنب الأخطاء التي ارتكبوها بشكل مزمن في الماضي، وعليهم أن يراعوا ويحترموا حساسيات شعوب المنطقة، وخاصة فيما يتعلق بكرامتهم الوطنية واستقلالهم وإنجازاتهم.
نحن في المنطقة قادرون على معالجة مشاكلنا الخاصة، بشرط ألا يعمل الغرباء كمفسدين من أجل الأرباح قصيرة الأجل أو لتحريض أجندات العملاء عديمي الضمير. خلال السنوات الأربع الماضية، اقتربنا، للأسف، من وقوع كارثة عدة مرات، وقد أظهرت إيران ضبطاً استراتيجياً للنفس طوال هذه الفترة، لكن صبر الإيرانيين ينفد، حيث يشير التشريع الذي أقره برلماننا في ديسمبر بوضوح إلى أن القانون الجديد يطالب إيران بزيادة تخصيب اليورانيوم والحد من عمليات التفتيش التي تقوم بها الأمم المتحدة إذا لم يتم رفع العقوبات بحلول فبراير.
لن تكون نافذة الفرص للإدارة الأمريكية الجديدة مفتوحة إلى الأبد، هذه المبادرة تقع بشكل مباشر على عاتق واشنطن، ويجب أن تكون الخطوة الأولى لإدارة بايدن هي السعي إلى الإصلاح بدلاً من محاولة استغلال إرث ترامب الخطير المتمثل في أقصى درجات الفشل. يمكن للإدارة الجديدة أن تبدأ بإزالة جميع العقوبات المفروضة منذ تولى ترامب منصبه والسعي لإعادة الانضمام إلى الاتفاق النووي لعام 2015 والالتزام به دون تغيير شروطه التي تم التفاوض عليها بشق الأنفس. إن القيام بذلك سيفتح إمكانيات جديدة للسلام والاستقرار في منطقتنا.
الآراء والتوجهات الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي وتوجهات المركز