خلال إلقائه خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الأسبوع، أشار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى المملكة العربية السعودية، مفيدا أنه سيتجنب انتقاد إجراءاتها التي تهدف من خلالها إلى زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط. عوضاً عن ذلك، ألقى ترامب اللوم على إيران فقط، وهي المنافس الإقليمي للمملكة العربية السعودية، لتمويلها أعمال الفوضى والمجازر.
من جهة أخرى، أشاد ترامب بالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على تعهدهما بتقديم مساعدات بقيمة مليارات الدولارات، والسعي إلى إيجاد طرق متعددة لإنهاء الحرب الأهلية الفظيعة والمروعة في اليمن.
من الواضح أن ترامب فشل في الإشارة إلى أن الصراع الحالي في اليمن قد تفاقم بشكل كبير في مطلع سنة 2015، وذلك عندما قادت المملكة العربية السعودية ائتلافا من الدول العربية للتدخل في الحرب اليمنية.
ومنذ زمن بعيد، أصبحت تلك الحرب بمثابة كارثة إنسانية، حيث توقفت الأمم المتحدة عن إحصاء عدد القتلى من المدنيين منذ سنتين، تحديداً عندما وصل العدد إلى عشرة آلاف قتيل.
في تقدير مستقل قام به موقع بيانات النزاع والأحداث المسلحة، الذي يتابع النزاعات القائمة في جميع أنحاء العالم، لتحديد العدد الإجمالي للقتلى، تبين أن قرابة 50 ألف شخص، بما في ذلك المقاتلون، لقوا حتفهم في الفترة الممتدة بين كانون الثاني/ يناير 2016 وتموز/ يوليو 2018.
كما تركت الحرب أكثر من 22 مليون شخص، أي 75 بالمائة من سكان اليمن -أحد أفقر دول العالم بالفعل- في حاجة إلى مساعدات إنسانية.
مع تزايد غضب الرأي العام بشأن دور الولايات المتحدة في الحرب التي قادتها السعودية ضد المتمردين الحوثيين في اليمن، حاول الكونغرس ممارسة الضغوط على حلفاء الولايات المتحدة منذ فترة طويلة للحد من الخسائر في صفوف المدنيين.
وفي الشهر الماضي، قدم حزبان من المشرّعين مشروع قانون الإنفاق على الدفاع، حيث طلبوا من إدارة ترامب إثبات أن كلّاً من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تتخذان إجراءات جدية لتجنب إلحاق الأذى بالمدنيين، وأنهما تبذلان جهودا لإيجاد تسوية سياسية في سبيل إنهاء هذه الحرب.
في هذا الإطار، طلب الكونغرس من إدارة ترامب أن تجعل هذا الإثبات شرطا أساسيا كي يتمكن البنتاغون من مواصلة تقديم المساعدات العسكرية للتحالف.
وتشمل هذه المساعدات، التي بدأ تقديمها أساسا في عهد إدارة أوباما، إعادة تزويد الطائرات السعودية والإماراتية بالوقود في الجو، وتوفير المساعدات الاستخبارية، بالإضافة إلى تقديم صواريخ وقنابل وقطع غيار تساوي مليارات الدولارات للقوات الجوية السعودية.
في 12 أيلول/ سبتمبر، طمأن وزير الخارجية مايك بومبيو الكونغرس، مؤكدا أن التحالف كان يحاول تقليل الخسائر في صفوف المدنيين كما كان يساعد في إيصال المساعدات الإنسانية إلى اليمن. لكن كل تصريحات بومبيو كانت متناقضة مع أي تقييم مستقل للحرب، بما في ذلك التقرير الذي صدر مؤخرا عن مجموعة من خبراء الأمم المتحدة.
كما تعارضت هذه التصريحات أيضاً مع بعض التحقيقات التي أجرتها منظمة “هيومن رايتس ووتش”، التي تزعم أن التحالف ارتكب جرائم حرب.
في الأثناء، أرسل بومبيو مذكرة إلى الكونغرس، أشار فيها إلى سبب آخر لاستمرار تقديم الولايات المتحدة الدعم للتحالف، يتمثل في احتواء إيران والحد من تأثيرها على الحوثيين.
شأنها شأن السعوديين والإماراتيين، ترى إدارة ترامب أن الحوثيين يشكلون التهديد ذاته الذي تمثله الجماعات الأخرى المدعومة من قبل إيران على غرار حزب الله، الذي أرسل آلاف المقاتلين لمساعدة نظام بشار الأسد في سوريا.
في أواخر آب/ أغسطس، قامت بعثة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة بنشر صورة على تويتر تم تداولها في الصحافة العربية، كانت حول اجتماع انعقد في بيروت بين زعيم حزب الله، حسن نصر الله، وبعض المسؤولين الحوثيين.
في هذا الصدد، زعم المسؤولون الأمريكيون أن هذه الصورة أظهرت طبيعة التهديد الإرهابي الإقليمي.
وقد قال المسؤولون: إن “الوكلاء الإيرانيين في كل من لبنان واليمن يشكلون خطرا كبيرا على السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بأكملها”.
لكن، وبعيدا عن الهجمات الصاروخية الأخيرة على المملكة العربية السعودية، التي كانت بمثابة رد على الغارات الجوية التي شنتها السعودية أولا، أظهر الحوثيون طموحات إقليمية محدودة. ومن المفارقات، أنه مع استمرار الحرب، سيعتمد الحوثيون أكثر على الدعم القادم من إيران وحلفائها.
من خلال القبول بمحاولات التحالف للتقليل من عدد الإصابات في صفوف المدنيين، أخبرت إدارة ترامب الزعماء السعوديين والإماراتيين أنه لا زال بالإمكان تحقيق انتصار عسكري في اليمن.
وطالما أن التحالف يشعر بأنه قادر على التغلب على الحوثيين، فمن الواضح أنه ليس هناك أي فرصة للتفاوض.
الجدير بالذكر أن ترامب أيّد حسابات السعوديين ذات المجموع الصفري؛ التي تفيد أن النصر العسكري للمملكة العربية السعودية وحلفائها في اليمن سيكون بمثابة هزيمة لإيران، في حين أن التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض مع الحوثيين سيكون انتصارا لطهران.
ومن الجلي أن إدارة ترامب، التي أصابها العمى بسبب هوسها بإيران، تعمل على استمرارية حرب لا يمكن الفوز بها وتقويض احتمال التوصل إلى تسوية سياسية.
بدأت المرحلة الحالية من الصراع في اليمن في أيلول/ سبتمبر سنة 2014، عندما أجبر الحوثيون، وهم مجموعة من المتمردين الشيعة المتحالفين مع الدكتاتور اليمني المخلوع، علي عبد الله صالح، حكومة الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، على الفرار إلى السعودية. كما هددوا بالسيطرة على أجزاء واسعة من البلاد.
في سنة 2015، دخل التحالف بقيادة السعودية اليمن، من أجل إعادة هادي إلى السلطة والقضاء على الحوثيين. منذ ذلك الحين، وعلى الرغم من آلاف الغارات الجوية والحصار الجوي والبحري، الذي يكلف الرياض بين 5 و6 مليارات دولار شهريا، فشل التحالف بقيادة السعودية في طرد الحوثيين من العاصمة صنعاء.
في الوقت الذي يسارع فيه السعوديون لإلقاء اللوم على إيران لكونها طرفا في الحرب اليمنية، يؤكد العديد من الباحثين، على غرار توماس جونو -بروفيسور في جامعة أوتاوا ومحلل سابق في وزارة الدفاع الوطني الكندية- أن الحوثيين لم يتلقوا دعمًا كبيرًا من طهران قبل التدخل السعودي سنة 2015.
في المقابل، كثّفت إيران من تقديمها للمساعدات العسكرية للحوثيين منذ اندلاع الحرب، فضلا عن أن حزب الله شرع في إرسال مستشارين عسكريين لتدريب المتمردين اليمنيين.
مع ذلك، لا ترقى تكلفة هذا الدعم العسكري الإيراني إلى قيمة الخسائر التي تكبدتها المملكة العربية السعودية وحلفاؤها. فبالنسبة لإيران، يعد الصراع في اليمن طريقة دنيئة لتدمير منافستها الإقليمية.
تجدر الإشارة إلى أن كلّاً من المملكة العربية السعودية والإمارات تجاهلتا بشكل كبير الانتقادات الدولية الموجهة لهما بسبب قتل المدنيين، فضلا عن تجاهل المطالب من أجل إيجاد حل سياسي لتسوية الوضع في اليمن.
وتُظهر آخر إشارة على الدعم الذي تقدمه إدارة ترامب أن إستراتيجية التجاهل هذه ناجحة.
من جهة أخرى، كشفت التحقيقات التي أجرتها الأمم المتحدة وهيئات أخرى عن مسؤولية الحوثيين والتحالف الذي تقوده السعودية عن جرائم حرب محتملة.
وقد تسببت الغارات الجوية التي شنتها القوات السعودية وحلفاؤها “في سقوط أغلب الضحايا المدنيين الذين تم توثيق أعدادهم”، وفقا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة الشهر الماضي.
وفي التاسع من آب/ أغسطس، قصف التحالف السعودي حافلة مدرسية في بلدة ضحيان، مما أسفر عن مقتل 54 شخصاً، بينهم 44 طفلاً، وجرح العشرات، وفقاً لمسؤولي الصحة اليمنيين.
على امتداد أسابيع، دافع التحالف عن الضربة الجوية. لكن في الفاتح من أيلول/ سبتمبر، ومع اقتراب الموعد النهائي لمصادقة إدارة ترامب على الجهود السعودية والإماراتية للحد من سقوط المدنيين، اعترف التحالف بأن القصف كان خطأ وأنه “سيقدم أولئك الذين ارتكبوا الأخطاء” للمساءلة.
اعتبر مسؤولون أمريكيون هذا البيان كدليل على استعداد التحالف الذي تقوده السعودية لتغيير النهج الذي يتبعه في اليمن.
في المقابل، صرّح رئيس فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة الذي يقوم بتوثيق جرائم الحرب، كمال الجندوبي، أنه بعد مرور ثلاث سنوات ونصف على اندلاع الحرب اليمنية، ليس هناك ما يشير إلى “أي محاولة جدية من قبل أي طرف من أطراف النزاع للحد من سقوط المدنيين”.
من جانبها، لا ترى إدارة ترامب أن استخدام صفقات الأسلحة سيكون حلا ناجعا لتحقيق الاستقرار السياسي، أو لإجبار السعوديين على أخذ مسألة قتل المدنيين على محمل الجد أكثر.
وفي آذار/مارس 2017، عكس ترامب القرار الذي كانت قد أصدرته إدارة أوباما والذي يقضي بتعليق بيع عتاد عسكري بقيمة تتجاوز 500 مليون دولار، يتضمن قنابل موجهة بالليزر وذخائر أخرى، للجيش السعودي. ومع تزايد عدد أعضاء الكونغرس الذين أعربوا عن انتقادهم لما تقوم به السعودية في اليمن، صوّت مجلس الشيوخ للموافقة على إتمام هذه الصفقة بصعوبة.
بعد أن أطلق الحوثيون صواريخ بالستية على العديد من المدن السعودية في أواخر سنة 2017، كثّفت إدارة ترامب من مشاركة الولايات المتحدة في الحرب.
في هذا الشأن، كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” عن خبر مفاده أن وزارة الدفاع الأمريكية أرسلت بشكل سرّي قوات خاصة أمريكية إلى الحدود السعودية اليمنية لمساعدة الجيش السعودي في تحديد وتدمير المواقع التي يحتفظ فيها الحوثيون بالصواريخ.
نظرا لشعورهم بالإحباط بسبب الدور العميق الذي تلعبه الولايات المتحدة في الحرب اليمنية، قدّم 24 عضوا من مجلس النواب قرارا هذا الأسبوع يستحضر “قانون سلطات الحرب 1973″، بحجة أن الكونغرس لم يصادق أبدا على تقديم أي دعم للتحالف السعودي، ويطلب من ترامب سحب القوات الأمريكية من اليمن.
أبدى كل من القادة السعوديين والإماراتيين رغبتهم في تحقيق نصر واضح في حربهم الإقليمية ضد إيران، وقد منحهم الدعم غير المشروط الذي تقدمه الإدارة الأمريكية الجرأة لتعطيل المفاوضات.
وفي مطلع أيلول/ سبتمبر، انهارت الجهود الأخيرة التي بذلتها الأمم المتحدة لإجراء محادثات سلام بين الحوثيين وحكومة عبد ربه منصور هادي والتحالف الذي تقوده السعودية، إبّان عدم حضور الوفد الحوثي في جنيف.
في هذا الشأن، قال زعماء الوفد الحوثي إنهم لا يضمنون تأمين سفرهم لأن المجال الجوي اليمني خاضع لسيطرة القوات السعودية.
بعد مرور أيام على ذلك، شنت القوات اليمنية الموالية للتحالف السعودي الإماراتي هجومًا جديدًا بهدف إجبار الحوثيين على الخروج من ميناء الحديدة، الذي يمثل المعبر الرئيسي لإيصال المساعدات الإنسانية للأراضي اليمنية.
ويحذر مسؤولو الأمم المتحدة من أن المعركة المطولة لاستعادة الميناء والمناطق المحيطة به ستؤدي إلى وفاة 250 ألف شخص، جرّاء مجاعة جماعية.
بعد الحصول على تأييد إدارة ترامب هذا الشهر، لم يعد للتحالف السعودي الإماراتي أي دافع لمنع وقوع ضحايا في صفوف المدنيين ومنع حدوث كوارث إنسانية جديدة.
ومن المرجح أن توافق المملكة العربية السعودية وحلفاؤها على إطلاق عملية سلام في المنطقة في حال كان من الواضح أن الولايات المتحدة لن تدعم حربا لا تلوح نهايتها في الأفق في اليمن، ناهيك عن عدم تقديم المساعدات العسكرية اللازمة لضمان استمرارية عمل أجهزة الحرب.
لكن لا يبدو أن ترامب يمارس أي ضغوط على حلفائه السعوديين والإماراتيين فيما يتعلق باليمن. نتيجة لذلك، بات الكونغرس الطرف الوحيد الذي سيتطرق بشكل واقعي لهذه المسألة، حيث ترتفع المزيد من الأصوات التي تتساءل عن السبب الذي يجعل أقوى بلد في العالم يساعد على استمرار أسوأ أزمة إنسانية في العالم.
المجلة: الأتلنتك
الكاتب: محمد بازي
الرابط: https://www.theatlantic.com/