زهير سالم : مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية
تأسيس على النهج النبوي – العمري
وأقر أنني لا أستطيع أن أخوض غمار هذا العنوان عمقاً، تدرك شهرزاد دائماً أنّ هناك سقفاً للكلام المباح، وإنما هي ملامسة سطحية، لما كان، ولما يمكن أن يكون.
نقول ولأمر مهم وعظيم، كان قطعي الدلالة في القرآن هو الأقل على مستوى الأحكام، فكان ذلك مئنة الاجتهاد، ومظنة التيسير.
وكان بين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عهد سيدنا عمر رضي الله عنه بضع سنين، اتسعت فيها رقعة الدولة، وانتشر فيها الإسلام، وامتد جغرافيا وديمغرافيا، فواجه المسلمون في امتداد الإسلام الكثير من التحديات، وقاد كل ذلك سيدنا عمر بقوة ودين و التزام وعقل ورشد.
ولا نرى أن رجلا بعد عمر من المسلمين استطاع أن ينهج نهجه، أو أن ينجزه إنجازه، أو ينحو نحوه لا على مستوى الفقه ولا على مستوى الرشد، ولا على مستوى العزيمة، ورحم الله الفاروق ..
وما تزال السنة العمرية، المستمدة بكل تأكيد من المعطى القرآني النبوي الأقدس، مصدر عطاء، وما يزال النهج العمري منهجا قابلا للتطبيق، بل لفتح آفاق التجدد والارتقاء ..
كان عمر رضي الله عنه، ملتزما بمعين الرسالة، معنيا بأمر هذه الأمة ، حريصا على شوارها، وقالوا: وكان يستشير حتى الأطفال في الأزقة ، يقول : أراهم أحدّ عقولاً، وكان مع كل ذلك جريئاً في الحق يقرر إذا تمحص عنده وجه مصلحة ولا يبالي.
العديد من العقبات التي توضع اليوم في وجه المشروع الإسلامي، واجهها عمر رضي الله عنه، وتجاوزها، وانطلق على طريق التمكين لدولة الإسلام غير متردد ولا هياب، فالتاريخ لا يصنعه المترددون الوجلون.
لا يستطيع مقال أن يحيط بنهج عمر، ولن نستطيع الإحاطة في هذا المقام، ولكن سنحاول أن نقدم شذرات، ليس لاقتناص حكم في واقعة، فليست هذه غاية هذا المقال، وإنما لاكتشاف ملامح منهج، نعتقد أن أصحاب المشروع الإسلامي اليوم، هم أشد حاجة إليه.
نسمع بعنوان: “ودوّن الدواوين” فنظن أنه جعل الشفهي مكتوباً، ولا ندرك كم يختزن هذا النص وراءه من دلالات، أبسطها تحويل المجتمع العفوي إلى دولة منظمة، لكل عامل فيها ومعها اسم ورسم، تحويل الجيش المتطوع إلى جيش منظم، يستحق أفراده المكافأة، ويقر فيه نظام الرخصة والإجازة، وكذا إبداع نظام للمعونة الاجتماعية ، تحت عنوان ديوان العطاء .
نقرأ وعلّق أو جمّد أو أوقف العمل بسهم المؤلفة قلوبهم، وقال قد أعز الله الإسلام و أغنى الله عنهم، مع أنه سهم منصوص عليه في آية الصدقات، فنظن أو يظنون أن فعله حالة عابرة في تاريخ التشريع، ولا نريد أن نفهم، أو لا يريدون أن يفهموا، أن فعله باب من أبواب الفقه، يمكن أن يكون له إخوة وأخوات وأشباه ونظائر، فحتى النص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، يتكيف تنزيله على الواقع مع مصلحة المسلمين ..!!
نقرأ عن عمر: “وأوقف العمل بحد السرقة في عام الرمادة”، فيصر البعض على فهمها حالة عابرة طارئة، ويفهمها العمريون مثلاً وأنموذجاً ومدخلا، لتفهم الجريمة وظروفها وبواعثها وإلى إعمال قاعدة درأ الحدود بالشبهات، وأعظم الشبهات ما تنتشر به البلوى أو تعم ..!!
ونقرأ أنه قال في المجوس: سنوا فيهم سنة أهل الكتاب، فيحتال بعضنا ليقول إن المجوس هم أهل كتاب، ولا يريدون أن يفهموا أن الفقه العمري قام على معاملة كل المخالفين في الدين معاملة أهل الكتاب، ودليلنا على أن عمر رضي الله عنه، لم يلحق المجوس بأهل الكتاب مطلقاً، وأننا لا نعلم من قال بجواز الزواج من مجوسية، كما نتزوج من الكتابية، ولا بأكل طعام المجوسي كما نأكل طعام الكتابي !! سنوا فيهم سنة أهل الكتاب شملت فقط: تخييرهم بين الثلاث.
ونتابع أن عمر رضي الله عنه، قبل من قبيلة تغلب أن تدفع مشاركتها في الصندوق العام، تحت غير مسمى الجزية، فنظن أنّ الأمر كان خصوصية لتغلب بسبب عددها أو عدتها، ولا نريد أو لا يريدون أن يفهموا، أن هذا فقه عمري مفاده بأن العبرة في الحقائق والمعاني وليست في الألفاظ والمباني، وأن أسهل شيء على المسلم أن يتجاوز العناوين إذا تحققت له المضامين ..!!
وأكبر قضية واجهها عمر، أو أعظم درس علمنا إياه عمر رضي الله عن عمر، كانت فقهه في وقف توزيع سواد العراق على المجاهدين، يوما تساءل: وماذا يبقى لذراري المسلمين؟! وأقر أصحاب الأرض على أراضيهم ، وفرض نسبة من الخراج عليهم،
تلك المشكلة نسميها اليوم مشكلة” النص والعقل ” أو ” النص والمصلحة ” واجهها عمر بفقهه وحلمه !! وهل تظنونها، مرت سهوا رهواً ؟! ومما قرأت في كتب التاريخ أنه كان لسيدنا بلال أصحاب، وكانوا يطالبون بحقوقهم في أرض السواد، وكانوا يدخلون على عمر فيغلظون له بالقول، حتى تقول كتب التاريخ أنه دعا: اللهم اكفني بلالا وصحبه ..!!
المشروع الإسلامي لن يقوم إلا بعقل شرعي عمري، قادر على الفقه والاستنباط …
وحين نتحدث اليوم عن بعض المحطات في فقه عمر، بل في منهج عمر، يجب أن نذكر، أن عمر قضى بما قضى، وأقر ما أقر، والصحابة رضي الله عنهم ، حوله متوافرون، يتابعون ويقرون ويؤيدون ..
ليس منهجا عمريا فقط بل هو منهج إسلامي سبق إليه صاحب الأوليات عمر، ورضي الله عن الفاروق …
وتصورنا لدور الدولة المسلمة في العصر الحديث يجب أن يمر من فوق القنطرة النبوية العمرية وعلى جسرها إلى آفاق الزمان والمكان ..
التطور الكبير في مهمة الدولة الحديثة، فيه خير كثير، وتحصيل ثمرات هذا الخير يحتاج إلى فقه أصيل بحجم فقه عمر ..
في فقه الدولة العمرية كان عمر يعُس بالليل ليتفقد أحوال الناس ، ويقضي حاجاتهم ، لا ليتخونهم ويطلع على عوراتهم ..
في عالمنا فقط إذا ذكرت “الدولة” تذكرنا السوط والسجن والمخبر والشرطي ومأمور الضرائب ، وقابض البرطيل وبشار الأسد …!!
تعودنا ونحن في سياراتنا، حتى لو لم نكن مخالفين، إذا رأينا دورية السير من بعيد، أن نقرأ “وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون”
(الآراء والتوجهات الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي وتوجهات المركز)