بعد ما يزيد على العامين من الحرب الأهلية بين القوات المسلحة المدعومة من أطراف النزاع الليبي ( الحكومة المعترف بها دوليا ومجلس نوابها والذي مقره في مدينة طبرق شرق ليبيا، أو المؤتمر الوطني العام المنافس في طرابلس). بعد هذه الفترة، حققت ليبيا أخيراً بعض التقدم نحو إقامة حكومة وحدة وطنية. ففي 30 مارس الماضي، سافر رئيس الوزراء المعين من الأمم المتحدة وستة من مستشاريه في حكومة الوحدة الوطنية إلى مدينة طرابلس سراً، وبدؤوا بالعمل انطلاقاً من قاعدة أبوستا البحرية المعروفة بأمانتها العالية. ومنذ ذلك الحين، تمكنت حكومة الوحدة الوطنية من السيطرة على عدد قليل من الوزارات وفندق ريكسوس، حيث سبق للمؤتمر الوطني العام أن اجتمع فيها. وعلى الرغم من النجاح المحدود الذي حققته الحكومة في العاصمة إلا أنها ما زالت تواجه عقبات كبيرة.
يبقى المؤتمر الوطني العام الليبي واحداً من هذه العقبات، وبلاشك فإن التحدي الرئيسي يأتي من مجلس النواب وحلفائه. فقد طلب من مجلس النواب سابقاً التصويت على قبول الإنضمام إلى حكومة الوحدة الوطنية بعد 10 أيام من توقيع اتفاق السلام الذي توسطت فيه الأمم المتحدة في 17 ديسمبر 2015، ولكن بعد ما يصل إلى قرابة نصف العام، لم يوافق المجلس بعد. وعلى الرغم من امتلاكهم لمكانة جيدة في حكومة الوحدة الوطنية إلا أن مجلس النواب وحلفائه يستمرون في رفضهم لهذا الاتفاق وبدلاً من المساومة يسعى المجلس إلى نزع الشرعية بشكل تام عن خصومه.
الإنحياز
اعترف الغرب بمجلس النواب الليبي بعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت في ينويو \ حزيران عام 2014، وهو ما أعطاه قدراً من الشرعية على الرغم من أن إقبال الناخبين على هذه الانتخابات كان أقل من 20%. وشمل مجلس النواب العديد من الوجوه المألوفة مثل محمود جبريل، وهو شخصية مشهورة عمل في المجلس الوطني الانتقالي والحكومة المؤقتة التي حكمت ليبيا بعد سقوط القذافي، وخلال تلك الفترة أظهر جبريل ميوله العلمانية وتفاخر بها على ما يبدو لكسب ود الغرب.
أما المؤتمر الليبي العام فقد كان أقل جاذبية للغرب، حيث هيمن الإخوان المسلمون عليه، وشملت تحالفاته العسكرية بعض الشخصيات الشائكة ضمن ما بات يعرف بميليشيات “فجر ليبيا”، ويشتهر عن العديد من قادة هذه الميليشيا علاقتهم بالقوى المعارضة للقذافي والتي شكلت علاقة مع تنظيم القاعدة في أفغانستان خلال التسعينات.
يرفض المؤتمر الوطني “الليبي ” العام الاعتراف بشرعية الانتخابات البرلمانية في يونيو 2014، وينظر إليها على أنها وسيلة لتقويض التصويت الذي جرى في فبراير عام 2014 حول تمديد ولايتها للحكم حتى نهاية العام. وتعزز قوى المؤتمر الليبي نظريتها بعدم الاعتراف بالانتخابات البرلمانية من باب ضعف إقبال الناخبين على الانتخابات، وهو الذي جاء جزئياً بسبب الحملة العسكرية التي حملت اسم “عملية الكرامة” وقام بشنها العقيد الليبي “خليفة حفتر” وهو الذي حارب القذافي وقاتل بجانبه على حد سواء في الماضي وهو نفسه الذي سيصبح لاحقاً حليفاً مهماً لمجلس النواب. وفقط قبل أشهر من الانتخابات البرلمانية أطلق حفتر هجوماً واسعاً ضد المؤتمر الليبي العام وحلفائه، فيما تسببت هجمات انتقامية بالحيلولة دون وصول سيطرة مجلس النواب إلى طرابلس وانتقلت بذلك تحت تأُير هذه الهجمات إلى طبرق.
عندما اشتد القتال، اتخذت القوى الغربية خطوة إلى الوراء مصرة في الوقت نفسه على إطلاق المفاوضات بين الحكومات المتنافسة. ومع ذلك، يبدو أن الغرب، في إطار بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا، واصل دعمه لمجلس النواب، بل إن النسخة النهائية من اتفاق السلام الذي صاغته الأمم المتحدة و المعروف أيضاً باسم الاتفاق السياسي الليبي، والذي تستند عليه حكومة الوحدة الوطنية الليبية الجديدة أعطى مجلس النواب أكثر بكثير مما قدمه للمؤتمر العام. حيث أصبح البرلمان صاحب “مجلس الدولة” والحاكم الفعلي، بينما تحول المؤتمر إلى سلطة استشارية وليس حقيقية.
فشل التصويت
يبدو أن قادة برلمان طبرق لم يأخذوا المفاوضات على محمل الجد، خاصة وأنهم أيقنوا أن الأمم المتحدة تفضلهم على أقرانهم. ففي مارس 2015، قام رئيس وزراء مجلس النواب ” عبد الله آل ثاني ” بتسمية حفتر، الذي كان يقاتل ضد جماعات فجر ليبيا والمؤتمر الليبي العام، كقائد عام للقوات المسلحة. استمر حفتر بعمليته التي أسماها “الكرامة” والتي كانت ظاهرياً للدفاع عن مجلس النواب، لكنها لم تتعدى في الواقع فرصة مواتية لرفع مكانة البرلمان ونزع الشرعية عن معارضيه، والتي من بينها جماعة الإخوان المسلمين الذين وصفهم حفتر بـ”المرض الخبيث”.
وحتى بعد هذه التطورات، لم يتوقف التفضيل والدعم الدولي لمجلس النواب، ففي يناير 2016، عينت حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها السراج أشخاصاً يتوافقون مع مجلس النواب وحلفائه في مواقع حساسة كوزراء النفط والماية والدفاع. بل إن حكومة الوحدة الوطنية عرضت منصب نائب رئيس الوزراء إلى علي الغتراني وهو الحليف المقرب للغاية من حفتر.
وعلى الرغم من كل هذا، فشل مجلس النواب في إجراء تصويت على قبول حكومة الوحدة الوطنية مرة تلو الأخرى، وكانت آخر تلك المحاولات في 18 ابريل الماضي، حيث لم يحضر هناك ما يكفي من المندوبين لإكتمال النصاب القانوني. وبالإضافة إلى حفتر وحلفائه الذين يرون في حكومة الوحدة الوطنية تهديداً للمكاسب التي حققها حديثاً، توجد مجموعة من أعضاء البرلمان نجحت بخلق لوبي معارض للتصويت أو لحكومة الوحدة الوطنية، ووفق تقارير فقد تعرض بعض النواب للتهديد أو اضرب أو حتى التهديد بالاعتقال لتعزيز هذا التحالف، وهذه ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها أعضاء البرلمان تكتيكات مماثلة لتعطيل قرار لا يروق لهم.
وبعد أيام قليلة من فشل مشروع الإقرار في البرلمان قام “امحمد شعيب” و”احميد هوما” ، النائب الأول والثاني لرئيس مجلس النواب بالإضافة إلى 100 من أعضاء البرلمان بإصدار بيان قالوا فيه :” أنه على الرغم من منعهم من الإدلاء بصوتهم بشكل رسمي بشأن قبول حكومة الوحدة الوطنية، إلا أنهم يؤدونها”. أشادت الولايات المتحدة والدول الأوروبية بهذه الجهود “الشجاعة” لكنها فشلت في ملاحظة خلو البيان من الدعم غير المشروط لحكومة الوحدة الوطنية، حيث دعا البيان إلى إسقاط المادة رقم 8 من اتفاقية السلام والذي يتيح لمجلس رئاسة حكومة الوحدة الوطنية إمكانية تعيين رئيس الجهاز العسكري الليبي ورئيس أمن الدولة الليبي.
ينظر أنصار حفتر إلى هذه المادة على أنها وسيلة لتغيير حفتر بقائد آخر للقوات المسلحة بعد فترة، وهو ما يبدو أن حكومة الوحدة الوطنية ستفعله فعلاً من أجل الحفاظ على دعم “مصراته” المدينة الساحلية والتي سبق لها أن دعمت المؤتمر الليبي العام. تعاونت مصراتة بشكل كبير مع الأمم المتحدة ودعمت جهودها وقبل بحكومة الوحدة الوطنية التي يهيمن عليها منافسيها في طبرق، إلا أن مصراتة تعارض حفتر بشدة. وهذا موقف مفهوم لمصراته، فسعي حفتر لإلغاء جميع خصومه وتشبهه بالقذافي سواء بالزي او التصرف أثار حفيظة الجميع بما فيهم بعض مؤيديه السابقين. ومع عدم إظهار مصراته أي تنازلات، يبدو أن حفتر في طريقه للابتعاد عن قيادة القوات المسحلة من أجل إنجاح حكومة الوحدة الوطنية، وهذه المهمة بالذات ليست سهلة. فعلى الرغم من الخلاف بين أعضاء البرلمان في طبرق حول دوره، إلا أن حفتر لا يزال أقوى حليف لهم، وسيكون من الصعب فصله من قبل مجلس النواب دون تنفيذ ضغط غربي كبير.
الهدوء سيد الموقف على الجهة الغربية
في الوقت نفسه،لا تجد حكومة الوحدة الوطنية كثيراً من المعارضة بين صفوف قوات المؤتمر العام، فحلفاء المؤتمر العام كانوا من الكتائب القوية في مصراته، وهذ الكتائب كانت بسبب الحجم والطبيعة أكثر ثورية من الإسلاميين، بل إن بعضهم يحتقر الميليشيات الإسلامية وتحالفوا معها ضمن لواء فجر ليبيا بهدف محاربة حفتر ومجلس النواب الذي رأوا فيه امتداداً وغطاءً لأنصار القذافي. وكان حفتر قد استضاف مؤخراً الطيب الصافي، وهو اليد اليمنى للقذافي وانتقل إلى المنفى منذ عام 2011 بعد اندلاع احتجاجات الثورة الليبية، لكنه عاد إلى طبرق في أوائل ابريل 2016 وهو ما يعزز التصورات التي تتهم حفتر وطبرق بموالاة القذافي.ولهذا السبب – ولأسباب أخرى بطبيعة الحال – كانت علاقة مقاتلي مصراتة مع المؤتمر العام قوية بعض الشيء.
تحالف مصراته والمؤتمر بدأ في الانهيار عندما حصل كل واحد من أطرافه على عرض أفضل. ففي وقت مبكر من فبراير 2015، بدأت بعثة الأمم المتحدة بالوصول مباشرة إلى بعض الشخصيات النافذة في مصراتة وهو ما أتاح لها التفاوض معهم مباشرة بمعزل عن المؤتمر. وكان مجتمع رجال الأعمال والاقتصاديين في مصراتة على اهتمام بالغ بإنهاء الصراع الذي عزلهم اقتصادياً عن المدينة. وفعلاً، عينت الحكومة التي يقودها السراج السياسي المصراتي “عبد الرحمن السويحلي” رئيساً لمجلس الدولة الجديد، في تم تعيين أحمد معيتيق كأحد نواب رئيس الوزراء. وفي أواخر مارس 2016، أعلن المجلس البلدي في مصراته أعلن اعترافه بشرعية حكومة الوحدة وبالتالي تخلى عن المؤتمر العام. بعدها بأيام، انضمت عشر مدن أخرى كانت تدعم المؤتمر العام لدعوى مصراته، متعهدة بدعم حكومة الوحدة الوطنية. ومع ذلك، لا تزال مصراته تملك بقايا مليشيات من فجر ليبيا، وكثير منها متشدد يرفض الاستمرار بعملية السلام ويعارضها، لكنها حتى الآن تبدو مهتمة أكثر بحماية أحيائها الخاصة عوضاً عن المشاركة في هجوم عسكري نيابة عن المؤتمر الوطني الليبي العام.
لاحقاً، وتحت هذه الظروف أعلن المؤتمر الليبي العام في 5 ابريل أنه على وشك حل نفسه لافساح الطريق أمام حكومة الوحدة الوطنية، لكن رئيس وزراء المؤتمر العام، خليفة الغويل ألغى الإعلان في اليوم التلي، ويبدو أنه هذا الإلغاء غير مجد خاصة وان المؤتمر خسر كثيراً من داعميه ومؤيديه. لاحقاً، وفي 19 إبريل، أعلنت الولايات المتحدة إضافة اسم الغويل على لائحة عقوباتها الخاصة بدعوى عرقلته لعملية السلام.
والآن، أكبر عقبة أمام حكومة الوحدة الوطنية هو مجلس النواب، فالأمم المتحدة عرضت ضمن إطار اتفاق السلام على برلمان طبرق أكثر من نصيبه العادل من المناصب، كلن العديد من قادته واعضائه اختاروا الاستمرار في تقويض عملية السلام. ورداً على ذلك، يتعين على الغرب الحفاظ على العقوبات القائمة وسن قوانين عقوبات جديدة على كل الرموز المانعة لاتمام الاتفاق مثل حفتر وقائد قواته الجوية صقر الجروشي، وكلاهما عوقب من قبل الاتحاد الاوروبي العام الماضي. ويجب أيضاً على مجلس الأمن مواصلة تجميد الأصول الليبية، وتكييف الإفراج عن الأموال وفقاً للتطورات في ملف قبلو حكومة الوطنية، هذا بالاضافة إلى استمرار فرض القيود على بيع النفط بحيث تصبح عمليات البيع محصورة بحكومة الوحدة الوطنية فقط، هذا بالإضافة إلى فرض الأمم المتحدة لحظر تسليح الجماعات في ليبيا وتفعيل هذ الحظر على دولة الإمارات تحديداً وغيرها ممن اتهم بالتورط بتسليح الميليشيات.
وفي حال استمرت الولايات المتحدة والغرب بتنفيذ هذا الضغط وحافظوا عليه، يمكنهم حينها اجبار برلمان طبرق على القبول بالمادة رقم 8 من اتفاق السلام. وفي حال عصيان طبرق، يمكن للغرب أن يقوض دعمه لمجلس النواب هناك وفي الحد الأدنى يتعين على الغرب إدراك أن تحيزه لمجلس طبرق – سواء أكان حقيقياً أو متخيلاً- ساهم في إخلال التوازن في ليبيا وهو ما يهدد الوحدة الوطنية الليبية بشكل كبير.
ألكسندر ديسينا: باحث متخصص في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط عمل سابقاً ضمن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، وعمل سابقاً في بيروت وكردستان العراق.