ركزت الحرب في سوريا على الاهتمام بدور قوات الميليشيات. وعلى الرغم من أننا قد نرى هذه الظاهرة سلبية تماماً، فإن لها أيضاً جوانب إيجابية، وتعكس حاجة حقيقية تؤثر على حياتنا أيضاً.
قيل الكثير عن الميليشيات الشيعية الإيرانية والعراقية المقاتلة في سوريا، لكن القوات الكردية والقوات المعارضة لنظام الأسد هي في الواقع ميليشيات أيضاً. وللوهلة الأولى لا يبدو أن هناك شيئاً جديداً في هذه الظاهرة، فقد أدت قوات الميليشيات، تاريخياً، دوراً هاماً. في وقت القضاة التوراتيين لم يكن لدى قبائل إسرائيل جيش دائم ومستقر، وكانت الاستعدادات للحرب في المقام الأول قبلية ومحلية. وفي الحرب بين القوات التي خاضها القائد الكنعاني سيسرا والعبرانيون بقيادة ديبورا وبارك بن أفينوام، تم الاستعانة بجيش نظامي مجهز بتسع مئة عربة حديدية أعدت للحرب ضد جيش من المزارعين الذين اتحدوا للعمل على أساس قبلي.
وفي التاريخ الحديث أيضاً سجلت قوات الميليشيات إنجازات هامة، فغاريبالدي، بطل النهضة الإيطالي في القرن التاسع عشر، غزا صقلية مع ميليشيا لم يتجاوز عدد أفرادها أكثر من ألف شخص، وجميعهم من المتطوعين المدنيين.
ومع ذلك هناك شيء جديد حقاً في سوريا؛ ففي الماضي كانت الميليشيات تستخدم بسبب الضرورة الظرفية؛ أي عدم القدرة على تجميع قوة عسكرية منظمة، أما في السنوات الأخيرة فقد أصبحت الميليشيات ضرورة لأسباب أخرى.
مزايا الميليشيات
هناك ميزتان قد تقدمها الميليشيات. إحداهما القدرة على التنظيم، عندما تدعو الحاجة إليها، بسرعة ومرونة أكبر ممَّا يمكن أن يقدمه الجيش المؤسسي. والثاني هو الدافع القوي الناشئ عن الإحساس بالرسالة، مقارنة بالدافع في الأطر العسكرية المؤسسية التي تقوم على الانضباط التنظيمي والطاعة للقوانين. وقد أثبتت هاتان الميزتان فائدتهما خلال القتال في سوريا.
فقد عانى الجيش السوري، في الأشهر الأولى من الحرب الأهلية السورية، من الفشل الناجم عن أساليب العمل التي لم تكن مناسبة للظروف الجديدة، فضلاً عن ضعف روح القتال. وكان الحل الفوري هو اللجوء إلى قوات شعبية غير منظمة، تعمل من دافع الولاء للنظام، وهي القوات التي تصرفت بقسوة كبيرة ودون ضبط النفس.
وفي وقت لاحق انضمت قوات حزب الله إلى القتال. وعلى الرغم من تنظيمهم العسكري المؤسسي، فقد أبدوا روحاً عسكرية مكثفة واستعداداً للتضحية التي تنبع من الدافع الديني والعرقي. وقد أثبتوا أنهم قادرون على اعتماد أشكال جديدة من القتال بسرعة كبيرة.
عندما شاركت القوات الروسية، في خريف عام 2015، بنشاط في الحرب، كان وجود القوات المحلية -الجيش السوري وحزب الله وغيرهم- يؤثر بشكل جوهري على طريقة العمل الروسية. مع القوات المحلية المحاصرة بالفعل في القتال، تم إنقاذ الروس من عناء إدخال قوة أرضية فعالة، ممَّا كان يتطلب وقتاً للتنظيم والإعداد، فضلاً عن خطر المواجهة المستمر. في ظل الظروف التي تطورت، أظهرت الولايات المتحدة وحلفاؤها العسكريون، جنباً إلى جنب مع الروس، الوعي العملي لمدى صعوبة إعداد قوة برية ونشرها كقوة استطلاعية بطريقة تواكب التطورات الاستراتيجية السريعة. وهكذا فإن النهج التشغيلي الروسي يجمع بين القوة الجوية الروسية، التي كانت متاحة على الفور، والحرب البرية التي تقوم أساساً على القوات المحلية التي كانت متورطة بالفعل في القتال وعلى استعداد للعمل.
نهج القتال الذي عمل به الأمريكيون في تحرير شمالي العراق ومدينة الموصل من قوات داعش نابع من منطق مشابه. وعلى الرغم من الاختلافات في الثقافة والتقاليد العسكرية بين المؤسسات العسكرية الأميركية والروسية، فقد امتنعت القوتان حتى الآن عن إدراج قواتهما البرية في ساحات القتال في سوريا أو العراق. فهم يريدون، قبل كل شيء، إبقاء جنودهم خارج القتال للحد من عدد الضحايا في صفوفهم. غير أن هذا الامتناع هو من أجل تجنب مغامرة قد تخرج عن نطاق السيطرة قبل بلوغ الهدف. وفي ظل هذه الظروف، عندما يحين الوقت لاتخاذ قرار بشأن استخدام القوة العسكرية، يميل القادة الوطنيون إلى اللجوء إلى قوات الميليشيات المحلية كمورد من نوع آخر؛ وهو ما يجنبهم خطر الدخول في متاهة من عدم اليقين.
إمكانية الغموض الاستراتيجي
من وجهة نظر المصلحة الروسية، استخدام الانفصاليين من دونيتسك، أي المواطنين الأصليين، كميليشيات، يعكس المنطق الكلاسيكي للحفاظ على الغموض الاستراتيجي في منطقة محفوفة بالتوتر. من وجهة النظر الروسية ، وجود الانفصاليين يحمل عنهم عبء المعارك البرية ويجنب بوتين الحاجة إلى استخدام جنوده ويجنبه تساؤلات أولياء أمور الجنود: “ماذا نفعل في دونيتسك؟”.أما بالنسبة لوجهة النظر العالمية، وبالرغم من انتقادات المجتمع الدولي، فإن هذا النهج يوفر ميزة مهمة: الهوية الهجينة من الروس من دونيتسك. وفي حين أنهم مواطنون أوكرانيون، فإن نضالهم مدفوع بهويتهم الروسية نيابة عن المصلحة الوطنية الروسية. إن الحفاظ على هذه الميليشيات يعني أن بوتين يمكن أن يتجنب المسؤولية المباشرة عن القتال.
كلما زاد الطلب الدولي على شفافية السياسات، وكلما زاد انتشار المعرفة الدولية والإشراف الدولي على شرعية استخدام القوة في الحرب المفتوحة والمباشرة، أصبح هذا الغموض أكثر حيوية.
وتلقي السياسة الروسية في دونيتسك الضوء على دينامية العامين الماضيين من القتال في سوريا. حيث أدت اتفاقات وقف إطلاق النار بين القوى، أكثر من مرة، إلى تسهيل لعبة مزدوجة: فبينما تمتثل القوات الروسية والسورية العادية لوقف إطلاق النار، فإن قوات الميليشيات، التي لا تخضع لسلسلة القيادة والسيطرة المؤسسية، تحافظ على زخم القتال .
إن الطرق التي يستخدم بها هذا المنطق تسلط الضوء على الساحات الأخرى، على سبيل المثال تواصل السلطة الفلسطينية الحفاظ على الصلات بين القوات التنظيمية “قوات دايتون”، التي تخضع للسلطة الكاملة للرئيس محمود عباس ونشرت تحت إشراف أمريكي، وقوات أخرى مثل مجموعات “التنظيم”، التي هي أيضاً مسلحة ولكن لها طبيعة من الميليشيات.
الجانب الإيجابي من ظاهرة الميليشيات
إن الميليشيات الشيعية الإيرانية في سوريا والقوات الانفصالية في دونيتسك يمكن أن تقودنا إلى إدانة هذه الظاهرة تماماً. ولكن مع ذلك فإن لها جوانب إيجابية أيضاً، وتلبي حاجة حقيقية تؤثر أيضاً على حيواتنا. الفيلم الأخير “دونكيرك” يسلط الضوء على الجوانب الإيجابية لتوظيف روح التطوع الشعبية في أوقات الطوارئ. حيث يصف الفيلم إبحار آلاف البحارة المدنيين الذين تم تجنيدهم شرقاً فى قواربهم الصغيرة، تحت رعب القصف الجوى الألمانى، وإنقاذ مئات الآلاف من جنود القوات الملكية البريطانية من الوقوع في أيدي الألمان. إن روح الأمة البريطانية، بكل أشكالها الوطنية، هي بطل الفيلم.
بصرف النظر عن تصوير حدث تاريخي كتجربة سينمائية متحركة، فإن اتجاه الفيلم ينقل رسالة بسيطة وذات صلة بطولية إلى المجتمع الغربي. الرسالة البسيطة والمفصلة: ليس فقط أن روح الجيش وقدراته تعتمد على روح الشعب، ولكن في وقت الأزمات، مثل دونكيرك، روح التضحية الشعبية وحيلة وذكاء المواطنين توفر للجيش شبكة الأمان.
عندما يتعلق الأمر بالقدرة الإسرائيلية على الصمود في أوقات الطوارئ، فإن تلك الروح هي فرضية لا جدال فيها. فبعد تأسيس الدولة، تم دمج مختلف الجهود في مجالات الأمن، والمستوطنات، والصناعة، والعلوم، والثقافة في نظام واحد. ولكن داخل إسرائيل أيضاً، كما هو الحال في الدول الغربية، تسعى الاتجاهات النيوليبرالية، إلى التمييز بين مسؤولية قوات الأمن، المكلفة بالدفاع عن البلاد، وحقوق المواطنين الذين يفترض أنهم آمنون حتى في المستوطنات الحدودية، ويركزون على الاستفادة القصوى من أرواحهم.
وتجدر الإشارة تحديداً إلى خطط المؤسسة الدفاعية لإخلاء عشرات الآلاف من سكان خطوط المواجهة على الحدود الشمالية وغزة في حالة الطوارئ. وكان النهج التقليدي لمؤسسة الدفاع، حتى فترة ولاية رئيس الأركان رفائيل إيتان، جعل المستوطنات عنصراً للدفاع بموجب مفهوم الدفاع الإقليمي. وقد اشتكى سكان عدة مستوطنات من اضطرارهم إلى التخلي عن منازلهم في حالة الطوارئ، بدلاً من الدفاع عن الحدود من داخل منازلهم. وهم يتطلعون إلى جيش الدفاع الإسرائيلي لتسليحهم وإدراجهم في صفوف الدفاع. ويمكن حتى لرجل أو أنثى يبلغ من العمر ثمانين عاماً أن يسهم إسهاماً حقيقياً في حالة الطوارئ إذا كان مسلحاً ويألف المنطقة.
إن إعادة إرساء روح التطوع الرائدة، والمسؤولية المشتركة والجهد المشترك، لا تزال حتى الآن مهمة الساعة.
خطر فقدان احتكار الدولة لاستخدام القوات المسلحة
إن استخدام قوات الميليشيات المحلية له ثمنه. فمنذ معاهدة وستفاليا في القرن السابع عشر، كان استخدام القوات المسلحة في الدول ذات السيادة في أوروبا حقاً حصرياً لحكومات الولايات. واستناداً إلى هذا المنطق تتمسك الحكومة الإسرائيلية بمطالبتها بأن تمارس السلطة الفلسطينية احتكاراً حصرياً لاستخدام القوات المسلحة “سيادة واحدة، قانون واحد، سلاح واحد”.
ومع الاتجاه المتزايد للبلدان المتقدمة والقوى العظمى لاستخدام القوات المحلية وغير الحكومية لأغراضها الاستراتيجية الخاصة، تم فصل سلسلة القيادة ، التي يفترض أن يتم من خلالها تنفيذ سلطة الدولة السيادية كاملة، عن الانتشار الفعلي للقوة .
عندما تكون سلطة الدولة بأيدي أمراء الحرب، يسترشد هؤلاء بمصالحهم المحلية. وتوجد مجموعة من الاعتبارات والقيود خارج سلسلة القيادة المؤسسية، وهي معرضة جداً للخروج عن نطاق السيطرة. وهذا هو ما حدث عندما فقد جيش الدفاع الإسرائيلي السيطرة على الكتائب المسيحية في صبرا وشاتيلا في خريف عام 1982. وهو يشكل تهديداً للأمريكيين فضلاً عن أنهم يعتمدون بشكل كبير على القوات المحلية.
يبدو أن مزايا وحسنات نقل عبء القتال إلى القوات المحلية (الميليشيات) قد قادت رئيس الوزراء إسحاق رابين إلى القول، فيما يتعلق بعملية أوسلو: “جبريل الرجوب سوف يقوم بالعمل دون المحكمة العليا ودون جمعية “بتسيلم””. رابين على ما يبدو توقع نوعاً من التعاون مثل الذي تم الحفاظ عليه مع جيش لبنان الجنوبي، الذي كان يعمل في ذلك الوقت في المنطقة الأمنية بجنوبي لبنان، بالتنسيق مع جيش الدفاع الإسرائيلي وتحت قيادة اللواء لحد. في حالة الرجوب، وبالرغم من اعتباره “أمير حرب”، فقد استغل ذلك بالإضافة إلى اتفاق أوسلو للدفع بمصلحته الخاصة. وليس من المستغرب أن تطورت الأمور من هذا المنعطف بحيث فقدت دولة إسرائيل السيطرة عليها.
المصدر: مركز بيجين-السادات
الرابط: https://besacenter.org/perspectives-papers/militia-option-syria/