للوهلة الأولى، تبدو مدينة العرفان كالمكان الغريب الذي تنطلق منه حرب عالمية ضد أفكار التطرف الإسلامي، تقع منطقة العرفان في ضاحية للطبقة الوسطى الراقية في مدينة الرباط المغربية في مبانٍ ومكاتب ومجمعات سكنية بنيت حديثاً في علامة واضحة على الإزدهار وتوسع رأس المال في المغرب. لكن، تقع وراء هذه الهياكل ما يمثل علامة من نوع مختلف جداً حيث يتواجد حرم أكاديمي كلف عدة ملايين من الدولارات ويضم اكاديمية التدريب الديني في المملكة المغربية أو ما يعرف رسمياً باسم معهد محمد السادس لتكوين الأئمة.
ومع انطلاقته الرسمية في أواخر عام 2015، أصبح المعهد هو عنوان “الاحتراف” في التعليم الديني بالبلاد، إذ شملت برامجه إدراجاً كاملاً لبرامج التدريب الرسمية الأخرى التي تم تنفيذها في السابق في أماكن أخرى، هذا بالإضافة إلى المرافق التي يوفرها المعهد لطلابه والأفكار التي يسعى لترويجها والتي تنصب في قلب الجهود المعقدة الرامية لمكافحة الإرهاب وهو ما يضع المغرب على رأس الدول التي تحارب الإرهاب عبر جهودها التي قدمتها خلال العقد والنصف الماضي.
سبب ونتيجة
يمكن العودة بأصل استراتيجية مكافحة الإرهاب المعاصرة في المغرب إلى ربيع عام 2003، حيث قام 14 انتحارياً بتنفيذ سلسلة من الهجمات المتزامنة في مختلف أنحاء مدينة الدار البيضاء المغربية تحديداً في شهر مايو من ذلك العام. أدت الهجمات إلى مقتل ما يصل إلى 45 شخصاً وإصابة العشرات. بالنسبة للمغرب شكلت التفجيرات ومنفذوها – معظمهم من المغاربة الأصليون من مدن الصفيح القاحلة في الجنوب- دعوة حتمية للاستيقاظ. فهذه الأحداث قدمت دليلاً ملموساً ضد الحتمية التقليدية بين النخب المغربية أن الأمة المغربية والسكان الأصليين ليسوا محصنين ضد التطرف والإرهاب الذي تعاني منه باقي دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
حينها، كان رد الحكومة المغربية حاسماً وسريعاً، فبحلول العام التالي لتلك الحادثة، أطلقت الحكومة عملية إصلاح واسعة لقانون الأسرة في البلاد، والذي يعرف باسم “المدونة”، وجاء ذلك كجزء من الجهود الرامية لتشكيل مجتمع أكثر شمولاً. ومن بين الإنجازات المسجلة في تلك الفترة كان النجاح في تعزيز وضع المرأة في المجتمع، حيث اكتسبت المرأة حينها صفة قانونية تجعلها على قدم المساواة في الأسرة ومنحتها القدرة على بدء الطلاق والحق في الميراث بالتساوي مع الرجل، هذا بالإضافة إلى تعزيز دورها في الحياة الدينية في البلاد بحيث أصبحت على قدم المساواة بالرجال وهو دور لا يمكن تصوره في أي مكان آخر في الشرق الأوسط.
وابتداءً من العام 2006، أطلقت وزارة الشؤون الإسلامية في المغرب برنامجاً تدريبي خاص بالواعظات،يعرف باسم ” المرشدات” ويهدف وفق منظميه إلى تنقية التفسير الديني. واليوم، باتت المئات من هاته المرشدات يعملن في جميع أنحاء البلاد أسوة بنظرائهم من الرجال، وأصبحن يقدمن المشورة في المشكلات الزوجية ويعرضن المساعدة في تفسير النصوص الدينية وغيرها من الوظائف المختلفة، وعلى العكس من الوعاظ الرجال لا يمكن للنساء المرشدات إمامة صلاة الجمعة.
وبشكل متزامن مع هذه التطورات، استفادت المغرب من الشرعية الدينية التي يحوزها ملكها محمد السادس ( أحد القلائل من حكام الشرق الأوسط الذين يمكن تتبع نسبهم بدقه إلى النبي محمد عليه السلام). أطلقت المملكة إصلاحات واسعة متعلقة بطرق تدريس الإسلام وتفسيره وتصديره مفاهيمه للمواطنين.
وساهم العمل من خلال وزارة الشؤون الإسلامية والرابطة المحمدية للعلماء – مجلس من علماء الدين المعين من قبل الملك- بالإضافة إلى جهود الحكومة المغربية في وضع حد لسلسلة التطرف التي كانت تتغذى على افكار التطرف التي تروج لها القاعدة، وساهمت الجهود هذه في فضح وتشويه ونزع الشرعية عن التفسيرات المتطرفة للقرآن الكريم والتي تتبناها شبكة أسامة بن لادن ومؤخراً تبناها تنظيم داعش. حرصت الوزارة أيضاً على إعداد كتب مصورة وألعاب خاصة بالأطفال الصغار وحرصت على جهود تثقيف الأقران والمراهقين وإعادة تشكيل المناهج الدراسية للمؤسسات التعليمية الإبتدائية في المملكة المغربية.
الانتقال إلى أداء الذروة
دخلت جهود الحكومة المغربية الآن مرحلة جديدة، فمع افتتاح معهد محمد السادس العام الماضي لفروع مختلفة في المغرب، قطعت المملكة شوطاً كبيراً نحو تمكين الإناث وتشجيع الاحتراف والتسامح الديني بكشل متوائم مع بعضه البعض.
ولا يقتصر تعامل المعهد الملكي المغربي على الطلاب المغاربة فحسب، بل يستضيف كثيراً من رجال الدين من دول كمالي وغينيا وكوت ديفوار ونيجيريا وتشاد وفرنسا، وسابقاً استضاف عدداً من الأئمة التونسيين. وبشكل عام يزداد تعداد هذا الكادر الدولي وخلال زيارة العاهل المغربي لروسيا في مارس الماضي وقعت الدولتان اتفاقاً يقضي بتدريب عدد من الأئمة الروس في المغرب خلال الفترة المقبلة وفعلت السنغال الأمر نفسه.
يمكن للمعهد استيعاب ما يصل إلى 1000 طالب وطالبة خلال الفترة الحالية، وتقضي خطط توسيعه إلى وصول سعته إلى 1400 قبل نهاية العام 2016. ينضم إلى المعهد ما يصل إلى 250 طالب وطالبة سنوياً( 150 طالباً و 100 طالبة) في عملية تنافسية ترفض فيها الإدارة ما يصل إلى 90% من طلبات الالتحاق المقدمة لها. ومن حيث المناهج الدراسية، يحتاج الطالب المغربي لإكمال عام واحد ليتخرج من المعهد، فيما يتطلب المعهد من الطلاب الأفارقة الدراسة لمدة سنتان على الأقل، فيما يطلب من الطلاب الفرنسين إمضاء 3 سنوات تعليمية داخل أروقة المعهد، ووفق مديري المعهد فإن هذه الفترة الطويلة تهدف إلى تتبع ونزع المفاهيم الدينية السيئة المتوطنة في جميع أنحاء أوروبا و أفريقيا.
وبالنسبة لطريقة الالتحاق بالمعهد فإنها تختلف من بلد لآخر، ففي بعض الحالات مثل تونس يتم الاختيار من قبل الوزارات الحكومية ذات الصلة في البلد الأم، وفي حالات أخرى كنيجريا مثلاً، تقوم المؤسسات شبه الخاصة مثل مؤسسة العلماء الوطنية بتحديد الاختيار والترشيح وبمجرد تحصيل القبول للدراسة في المعهد، يصبح هؤلاء الطلاب أشبه بالضيوف الرسميين لدى المملكة المغربية بحيث يتم تحمل تكاليف تعليمهم وتوفير راتب شهري لكل طالب من قبل الحكومة المغربية.
يتلقى الطلاب داخل المعهد أيضاً علوماً متنوعة مقارنة بالمراكز الدينية الأخرى حول العالم والتي تركز بشكل حصري على الدراسات القرآنية فحسب، حيث يضم منهج المعهد ما يصل إلى 30 مادة مختلفة مقسمة بالتساوي بين الدين والعلوم الإنسانية. وهكذا يحصل الطلاب على علوم مختلفة في موضوعات العلوم الإجتماعية مثل علم الفلسفة والنفس بالإضافة إلى تخصصات الجغرافية والتاريخ والسياسية علاوة على ذلك يقدم المعهد تدريباً مهنياً في اربع حقول منفصلة هي الهندسة الكهربائية والزراعة والخياطة والكمبيوتر.
وعلى الرغم من هذه البدايات المبشرة إلى أن مسؤولي المعهد يعترفون بأن المشروع – على الأقل في الوقت الراهن- يبقى في الإطار التجريبي، فحتى الآن تخرج من المعهد دفعة واحدة من الأئمة بشكل رسمي منذ افتتاحه رسمياً العام الماضي،يصل قوام الدفعة إلى 100 إمام ومعظمهم من مالي. إلا أن المسؤولين مقتنعين بقدرة المؤسسة على المساعدة بشكل نشط في الحرب ضد الاسلام الراديكالي والمساهمة في اعتماد التفسير “الصحيح ” للاسلام في جميع أنحاء العالم.
وفعلياً لا يوجد سبب لعدم الإيمان بنجاح هذا المعهد، ففي صدى التفكير الاستراتيجي المعاصر في الولايات المتحدة حول أهمية الشبكات المكافحة للشبكات الأخرى، تقوم استراتيجية المعهد على خلق كادر من القادة الدينيين المتعلمين في مختلف البلدان بحيث يمكنهم التفاعل في وقت واحد ونشر تعاليمهم محلياً.
هذا النهج يتمتع باهتمام متزايد من الخارج، فالمعهد حالياً يمتاز بطابع أفريقي أكثر من غيره وتونس هي الدولة العربية الوحيدة التي تملك طلاباً هناك، ويشير مدراء المعهد أن العديد من الدول العربية باتت تراقب عن كثب نشاط المعهد خاصة مثل البحرين التي باتت قريبة من التعاون مع المغرب في مجال الشؤون الدينية.
وبكل تأكيد سيواجه المعهد مقاومة شرسة من خصومه خاصة على مستوى المقاومة العقائدية وربما على صعد أخرى من قبل المتطرفين، لكن مديري المعهد يؤكدون استعدادهم لهكذا احتمالات وظروف.
الانتقال من الدفاع إلى الهجوم
يمثل هذا الرأي تحولاً ملحوظاً في وجهات النظر، فلسنوات اعتبرت المملكة المغربية نفسها استثناءً للمشاكل السياسية الراديكالية التي عج بها الشرق الأوسط وكانت عملية نقل خبرتها وترجمتها أمراً صعباً في العالم الخارجي. ويبدو أن المغرب يسير على نحو متزايد نحو الانتقال إلى نموذج فكري قادر على اتخاذ مواقف حقيقية ضد السلفية الجهادية. وعلى حسب تعبير أحد المسؤولين المغاربة فإن المغرب ترى نفسها في موضع ريادة طبيعة فيما يتعلق بالافكار التي يجري تداولها في العالم الإسلامي.
المصدر: فورين أفيرز