كيف يمكن للالتزامات الأميركية في الخليج إعادة بناء النظام الإقليمي
هذه المقالة مترجمة عن موقع Foreign Affairs
جيمس ف. جيفري وإليزابيث دِنت
نوفمبر 2025
جيمس ف. جيفري هو زميل “فيليب سولوندز المتميّز” في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. شغل منصب دبلوماسي في سبع إدارات أميركية، وكان بين عامَي 2018 و2020 الممثّل الخاص للمشاركة في سوريا والمبعوث الخاص للتحالف الدولي لهزيمة داعش.
إليزابيث م. دِنت هي زميلة “ناثان وإستر ك. فاغنر” البارزة في معهد واشنطن، وشغلت سابقًا منصب مديرة ملف الخليج وشبه الجزيرة العربية في مكتب وزير الدفاع الأميركي.
صدمة إقليمية غير مسبوقة
في 9 سبتمبر، أثارت إسرائيل صدمة عالمية إثر قصفها فيلّا داخل حي سكني في الدوحة، في محاولة لاغتيال مسؤولين كبار من حركة حماس. كانت تلك الضربة الثانية لقطر خلال العام نفسه، بعد أن استهدفتها إيران في يونيو بصواريخ موجّهة نحو قاعدة أميركية ردًا على ضربات أميركية–إسرائيلية داخل إيران.
ولكون قطر حليفًا مهمًا لواشنطن ووسيطًا أساسيًا في النزاعات الإقليمية، فقد جرى التعامل معها دائمًا بوصفها منطقة محصّنة ضد الاستهداف. كما أنها استضافت قيادات حماس لسنوات، بموافقة ضمنية من الولايات المتحدة وإسرائيل بحكم دورها الوسيط. وكان المسؤولون المستهدفون منخرطين بالفعل، عبر القنوات القطرية، في مفاوضات محتملة حول اتفاق تبادل أسرى ووقف إطلاق النار في غزة.
ولو خلّفت الضربة الإسرائيلية خسائر فادحة أو أضرارًا أكبر داخل قطر، لكان من الممكن أن تزعزع استقرار المنطقة برمّتها، وتوسّع حدود الحرب إلى الخليج، وتقضي على أي فرصة قريبة لوقف إطلاق النار.
وبرغم فشل الضربة وعدم تحقق هذا السيناريو، فإنّ الحدث أفضى من دون قصد إلى نتيجة محورية: فتح الباب أمام واحد من أهم التحولات المحتملة في مسار السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط منذ عقود.
فقد دفع الهجومُ الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للقبول بوقف إطلاق النار في غزة. كما أصدر ترامب أمرًا تنفيذيًا غير مسبوق يؤكّد فيه التزام الولايات المتحدة الدفاع عن قطر، باعتبار أن أي هجوم مسلح عليها يُعد “تهديدًا للسلم والأمن الأميركيين”.
ويمثّل هذا التعهّد الأقوى من نوعه معيارًا جديدًا محتملًا للعلاقة الأمنية بين واشنطن ودول الخليج.
ومع التحوّلات الواسعة في موازين القوى الإقليمية، تُمهّد هذه الخطوات لظهور نظام جديد في الشرق الأوسط. وإذا اكتمل بناؤه، فسيستند إلى تعميق الروابط الأميركية–الخليجية، وانهيار القوة الإيرانية، وتعزيز التنسيق بين الجيوش الصديقة. وللمرة الأولى منذ جيل، تمتلك الولايات المتحدة فرصة فعلية لبناء بنية أمنية مستقرة في واحدة من أكثر مناطق العالم اضطرابًا.
لكن على إدارة ترامب التحرّك سريعًا لاستثمار هذا الظرف الاستثنائي عبر توحيد التوقعات مع الشركاء، وترسيخ الإطار الأمني الناشئ، وتنشيط الدبلوماسية.
ومع استعداد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لزيارة واشنطن في 18 نوفمبر، تحين لحظة حاسمة قد تُفضي إلى توسيع التعهّد الأمني المُعلن تجاه قطر ليشمل السعودية والخليج بأكمله. أمّا فقدان التركيز، فقد يهدّد بانهيار فرص هذا التحوّل.
هدوء استثنائي في الإقليم
بعد عامين من الحرب، يجد خصوم الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أنفسهم في أضعف حالاتهم منذ عقود.
فحتى لو لم يصمد وقف إطلاق النار في غزة، فإن الاتفاق الذي أعاد جميع الأسرى الإسرائيليين الأحياء مقابل انسحاب جزئي، يمثّل فعليًا هزيمة لحركة حماس.
في المقابل، تعرّض البرنامج النووي والصاروخي الإيراني لضرر كبير؛ وسقط النظام السوري الحليف لطهران؛ وتراجع نفوذ حزب الله في لبنان؛ وخضعت الميليشيات المدعومة من إيران في العراق لضغوط كبيرة.
والحوثيون في اليمن هم القوة الوحيدة المرتبطة بإيران التي لا تزال تمثل تهديدًا عسكريًا فعليًا، رغم ضغوط إسرائيل المتصاعدة على قيادتهم.
وقد تعود إيران مستقبلًا لاعبًا مزعجًا، لكن قدراتها الآن منهارة. وبناءً على ذلك، يشهد الشرق الأوسط فترة هدوء نادرة تصب في مصلحة الولايات المتحدة.
ولا ترتبط هذه التحولات فقط بالحرب التي تلت هجمات أكتوبر 2023، بل أيضًا بالسياسات المتعاقبة لإدارة ترامب الأولى وإدارة بايدن، اللتين كانت مواقفهما تجاه المنطقة أكثر تشابهًا مما يُعتقد عادة.
فقد اعتمدت إدارة ترامب في ولايته الثانية منهجًا يقوم على العمل “مع ومن خلال” الشركاء المحليين، وهو نهج تعزز في خطاب للرئيس بالرياض في مايو، ركز فيه على مسؤولية دول المنطقة — خصوصًا الخليج وتركيا — في إدارة شؤونها الداخلية والقيام بدور أمني أكبر، مع بقاء الدعم الأميركي الحاسم عند الضرورة.
مقابل ذلك، قدّمت واشنطن حوافز اقتصادية وأمنية ملموسة لشركائها.
وإضافة إلى توسيع الروابط التجارية والاستثمارية، مُنحت الدول العربية فرصًا لفتح قنوات دبلوماسية أعمق مع إسرائيل، امتدادًا لاتفاقيات أبراهام الموقعة خلال ولاية ترامب الأولى.
ولأن هذا النهج يتجنّب الالتزام الأميركي بمشاريع “بناء الدولة” المكلفة، فإنه يقدّم للداخل الأميركي “صفقة أكثر جدوى”: استقرار أكبر في الشرق الأوسط بتكلفة عسكرية أقل وفوائد اقتصادية أعلى.
ومنذ عودته إلى البيت الأبيض، طبّق ترامب هذا النهج بوضوح عبر احتضان القيادة السورية الجديدة، وقصف منشأة فوردو الإيرانية، وتقديم تعهّد دفاعي غير مسبوق لقطر، وانتزاع وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس.
وقد ظهرت بذور هذا التوجّه أصلًا في إدارة بايدن.
فعلى الرغم من خطابه الحاد تجاه السعودية خلال حملته، انتهى الأمر بالرئيس إلى توسيع اتفاقيات أبراهام ومصافحة ولي العهد السعودي في جدة عام 2022.
كما جاءت استراتيجية بايدن للأمن القومي لعام 2022 مشابهة جدًا لاستراتيجية ترامب 2017، إذ ركزت هي الأخرى على منافسة القوى الكبرى من خلال تعزيز الاقتصاد الأميركي والقدرات العسكرية واستخدام القوة بحزم.
وكان بايدن أول رئيس أميركي يقود عمليات عسكرية مباشرة دفاعًا عن إسرائيل، بما في ذلك اعتراض الصواريخ الإيرانية.
كما شدد على التعاون مع “دول غير ديمقراطية” طالما التزمت بالنظام الدولي القائم على القواعد.
ورغم الضغوط من قواعدهما السياسية، حافظ كل من بايدن وترامب على التزام راسخ بالانخراط الأمني في الشرق الأوسط.
خطوط حمراء جديدة
أصبحت دول الخليج الآن محور النظام الإقليمي المتشكل.
فالهجوم الإسرائيلي على الدوحة كان يمكن — لولا ردّ واشنطن — أن يقوض الثقة الأميركية في المنطقة. لكنه تحوّل إلى لحظة مفصلية دفعت ترامب لتأكيد أهمية الخليج للأمن الأميركي والإقليمي.
وغدا واضحًا أن الردع في الخليج يحتاج إلى ما هو أكثر من الوجود العسكري ومبيعات السلاح، إذ يتطلب إطارًا متكاملاً سياسيًا وأمنيًا.
وبإصداره الأمر التنفيذي، بعث ترامب رسالة بأن الخطوط الحمراء الأميركية تتجاوز أمن إسرائيل وحدها، وأن نطاق الالتزامات الدفاعية الأميركية في المنطقة اتسع — وربما لفترة طويلة.
وتُماثل هذه الخطوة من حيث أثرها اتفاق 2023 بين البحرين وإدارة بايدن، لكنها تتفوق عليه سياسيًا في حالة قطر.
وللمرة الأولى منذ حرب الخليج 1991، تعلن الولايات المتحدة بوضوح أن أمن دولة خليجية يرتبط مباشرة بأمنها القومي.
وقد عبّرت السعودية بالفعل عن رغبتها في الحصول على التزام مشابه خلال زيارة ولي العهد المرتقبة للبيت الأبيض.
وإن كانت هذه الخطوة أقل طموحًا من معاهدة الدفاع الرسمية التي سعت إليها الرياض سابقًا، فإنها تمنح — من وجهة نظر الخليج — حماية أميركية فورية دون تعقيدات مفاوضات التطبيع مع إسرائيل أو المصادقة البرلمانية.
ما بين السياسة والقانون
رفع القرار التنفيذي سقف التوقعات والهواجس في آنٍ معًا لدى قطر والسعودية والإمارات.
فرغم أنه يعكس التزامًا أميركيًا واضحًا بالدفاع عن الشركاء ضد تهديدات الدول والجماعات المسلحة، فإن غموضه القانوني يثير أسئلة حول ديمومته وإمكانية تفعيله.
فقد تلغيه إدارة أميركية جديدة في 2028 — وإن بثمن سياسي مرتفع.
كما لم توضّح إدارة ترامب ما إذا كان هذا القرار يمثل تحولًا استراتيجيًا ثابتًا أم استجابة لحالة استثنائية.
فهل يعني القرار أن واشنطن ستعترض الصواريخ الإسرائيلية إن تكررت الضربة؟ أم سيقتصر الأمر على التحذير؟
تاريخيًا، تكون الالتزامات الأميركية أقل ارتباطًا بالاستجابة لكل حادثة، وأكثر تركيزًا على منع عدوان واسع النطاق — كما حدث عام 1990 في الكويت.
كما أن الولايات المتحدة كابحت — عند الضرورة — حلفاءها، على غرار موقفها من فرنسا وبريطانيا في السويس 1956، أو تركيا في أزمات قبرص.
لكن أزمة الخليج تكشف أيضًا مفارقة أعمق:
فدول الخليج لطالما راوحت بين طلب الحماية الأميركية والتوجّه نحو شراكات بديلة مع الصين وروسيا. وازدادت تلك النزعة مؤخرًا — بما في ذلك اتفاق السعودية الدفاعي مع باكستان في سبتمبر.
وإذا لم تُظهر واشنطن فعالية حقيقية في تنفيذ التزامها، فقد تجد نفسها محاصرة في “منطقة رمادية”: التزامات غير قابلة للتراجع لكنها غير كافية للردع، ما قد يدفع الشركاء لصفقات بديلة تُقوّض النفوذ الأميركي.
وتكمن الخطورة في سوء الفهم. فقد تُفسَّر التعهدات الأميركية — خطأ — بأنها تعادل المادة الخامسة في الناتو، ما قد يجر الولايات المتحدة إلى نزاعات لا تريد خوضها، أو يضعها في موقف “الانسحاب تحت الضغط” إذا لم تستجب كما يتوقع الحلفاء.
ويحتاج التعهّد لقطر إلى صياغة مؤسسية واضحة تضمن توازنًا بين الردع والمرونة السياسية والعسكرية.
بناء السلام
رغم التحديات، تمتلك الولايات المتحدة فرصة نادرة لإعادة تشكيل أمن الشرق الأوسط.
فمع تراجع خصومها، وصعود شركائها، وتنشيط الدبلوماسية، تستطيع واشنطن بناء نظام إقليمي جديد لم يكن ممكنًا قبل سنوات قليلة.
يمكن لإدارة ترامب تعزيز التعهدات الأمنية الحالية عبر إنشاء منظومات دفاعية متعددة الأطراف قد تشمل إسرائيل؛ أو توسيع اتفاقيات أبراهام لتصبح منصة سياسية إقليمية؛ أو توظيف التعاون الأمني لتعزيز التكامل الاقتصادي في المنطقة.
وبرغم انزعاج دول الخليج من الحرب في غزة والضربة الإسرائيلية لقطر، فهي تدرك أن تقليص قدرات إيران ووكلائها عزّز أمن الخليج — ولو بصورة غير مباشرة — ما يجعل التعاون مع إسرائيل خيارًا عمليًا، وإن بقي ضمن قنوات غير علنية.
وقد امتلكت الولايات المتحدة فرصًا مماثلة لتشكيل النظام الإقليمي في 1974 و1991، أعقبتها مبادرات دبلوماسية كبرى. لكن أياً من تلك الفرص لم تتحول إلى سلام دائم.
وانطلاقًا من هذه التجارب، ينبغي لواشنطن وشركائها تجنب تكرار الإخفاق، والعمل على تحويل الهدوء الحالي إلى حالة مستدامة.
كما آن الأوان لإعادة تقييم الوجود العسكري الأميركي.
فالظرف الجديد يسمح بالانتقال من الانتشار الواسع إلى نموذج “القدرة على الإسقاط السريع للقوة”، مع الاعتماد على القواعد الأمامية وتوسيع التكامل العسكري بين الشركاء.
ويمكن للولايات المتحدة أيضًا استثمار نفوذها لمعالجة الأزمات المستمرة في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وتوجيه قطر والسعودية نحو أدوار أكبر في كبح اختراق الميليشيات لمؤسسات الدولة العراقية، أو في دعم إعادة إعمار لبنان.
ومن دون متابعة أميركية جادة، قد تُغلق نافذة الفرصة، تاركة شركاء محبطين، وخصومًا أكثر جرأة، وتراجعًا في المصداقية الأميركية.
فبعد استثمار ضخم لتحقيق الاستقرار، تقف الولايات المتحدة أمام اصطفاف إقليمي يجعل الأمن المستدام هدفًا واقعيًا — وسيكون التفريط به خطأ كبيرًا.
الآراء والمصطلحات الواردة في هذا الملخص/الترجمة لا تعبر بالضرورة عن رأي وتوجهات مركز إدراك للدراسات والاستشارات
