أشارت مجلة فورين أفيرز في تقرير نشرته إلى أن الانسحاب الروسي من سوريا والذي أعلن عنه في 14 مارس كان مفاجأً إلى حد ما. إلا أن القوات الروسية ما زالت تحتفظ بقواعد عسكرية خاصة بها في المحافظات الساحلية السورية “اللاذقية وطرطوس”، وبهذا فإن الانسحاب المفترض يعد خطوة تتوافق بشكل كبير مع استراتيجية بوتين المتبعة في سوريا.
عاش الكرملين فترات صعبة قبل الموافقة على التدخل الروسي في سوريا، حيث أقرت هيئاته سياسة “الاكتفاء المعقول” لوضع حد لأي تدخل روسي في سوريا، وذلك منعاً لانجرار روسيا نحو مزيد من الفوضى وتكرار سيناريوهات قديمة مشابهة. وزارة الخارجية الروسية من جهتها، أتقنت استخدام مزيج متوازن يجمع بين التدخل العسكري والاستخدام الدبلوماسي ويمكن أن يندرج هذا الامر تحت إطار “الجيل الجديد من الحروب”.
وعلى الرغم من إعلان الإنسحاب، إلا أن الدوائر الرسمية الروسية وقيادات الجيش الروسي تعلم أن العملية الدبلوماسية لم تنته بعد في سوريا، وهو ما لا ينفي تقييمهم لمسار التدخل هناك بالإيجابي خاصة أنه تسبب بعكس مسار الحرب وتحقيق معظم الأهداف الأولية التي وضعت له.
فمن وجهة النظر الروسية، ساهم التدخل الروسي في إضعاف المعارضة إلى حد كبير وتسبب بمقتل عدد كبير من مقاتلي داعش. هذا بالإضافة إلى تعزيزه للنظام السوري وزيادة جاذبية العملية السياسية.ميدانياً، وسعت روسيا معاقلها على الأرض وثبتت نفسها كلاعب لا غنى عنه في الشرق الأوسط، وباختصار نجحت موسكو فيما فشلت فيه واشنطن، هذا كله بالإضافة إلى ابعاد الانظار ولو قليلاً عن أوكرانيا، هذا عدا عن ما تتداوله وسائل الإعلام من الاختبار الروسي لعدد كبير من الأسلحة في سوريا.
تحركات بوتين في سوريا تاتي في صدى استراتيجيته التي اتبعها في الحرب الشيشانية الثانية من 99 إلى 2000 ، حيث كان يسعى في ذلك الوقت إلى تقسيم المعارضة عسكرياً وسياسياً من خلال التملق وتحييد من يمكن كسبهم وضمهم إلى تحالفه ثم الشروع بنبذ الفضائل “غير المتعاونة”. حدث أمر شبيه من هذا في سوريا، حيث ساهم بوتين في تقسيم قوات المعارضة حول وقف إطلاق النار، وفي النهاية اضطر من لا يريد الالتزام بوقف إطلاق النار أن ينضم تحت لواء جبهة النصرة أو داعش – الطرفان المستثنان من الاتفاق-.
فعلياً،بعد اتفاق وقف الاعمال العدائية مع واشنطن خفضت موسكو من ضرباتها الجوية في سوريا، ومع تحقيقها القدر الأكبر من اهدافها كان ذلك فعلا الوقت المثالي للانسحاب. على الأرض، لم يتغير الكثير، إنما حدت موسكو من المخاطر التي كانت ستتعرض لها في سوريا ووسعت مجالها للمناورة وخلقت ظرف مثالياً لقدوم شيء لاحق، داحضة ما تدعيه أمريكا بالتورط الروسي في المستنقع السوري.
تأمل روسيا عبر هذا الإعلان أن يكون مؤشر حسن نوايا وتشجع على التعاون بين أحزاب المعارضة ويحد من الطموحات العسكرية للتحالف الدولي.أما على المستوى الاقليمي فإن الانسحاب الروسي سيسقط أي ذريعة للمملكة العربية السعودية أو تركيا للتدخل العسكري في سوريا.
بالإضافة إلى ما سبق، يشكل عامل استرضاء الجمهور المحلي الروسي أمراً هاماً بالنسبة لبوتين. فمنذ أوائل فبراير سعت الآلة الإعلامية الروسية إلى الإشارة أن المهمة الروسية قد أنجزت في سوريا.وبدأت العديد من التسريبات الإعلامية في الظهور فيما يتعلق بقرار بوتين عبر بعض الجهات الإعلامية غير الرسمية. وفي ظل هذا،حرص الكرملين على إظهار العملية العسكرية في سوريا على أنها ناجحة تماما
يدرك بوتين صعوبة الحفاظ على دعم الجمهور في ظل تراجع الاقتصاد الروسي وخلال حديثه في 18 مارس أمام الكرملين أشار بوتين إلى أهمية المحافظة على التنمية الاقتصادية وتحقيق رفاهية المواطنين. خلال خطابه ذاك، استخدم بوتين عبارات “النصر ” و”انسحاب القوات ” وعمد إلى تجنب أي مرادفة استخدمه اسلافه إبان الانسحاب السوفيتي من افغانستان.
ومن جهة أخرى، أبقى بوتين الباب مفتوحاً أمام عملية تدخل جديدة في حال ما وجد الأمر ضرورياً في اي لحظة.و فعلياً يمكن أن نلحظ أثر رياضة الجودو ومبادئها في تصرفات بوتين السياسية حيث يعتمد سياسة استخدام الجهد الأقل في الهجوم والوصول إلى تحقيق أفضل النتائج مع ضمان الانسحاب السريع.
سياسياً واقليمياً، ضمنت روسيا حصولها على فرص كبيرة في الشرق الأوسط، ونجحت في إبراز دورها كوسيط فعال بين القوى الإقليمية الفعالة مستغلة ذلك للترويج بفعاليتها كوسيط على الأرض ووضعت نفسها على قدم المساواة مع واشنطن. وبذلك يخلص المقال إلى أن بوتين جاء الى الشرق الاوسط كي يبقى ويحافظ على مكانته كلاعب اساسي في المنطقة.