يُعد سقوط حلب في ديسمبر 2016 نقطة تحول في الانتفاضة السورية من حرب أهلية حيث كان لا يزال هناك فرصة للمعارضة الى وضع آخر حيث أصبح النظام يسير على طريق النصر.
وفي وسط هذا المحور المتسم بتوسع التفاوت العسكري والمجاملة الدولية للنظام السوري بدأت الحكومات والوكالات المانحة متعددة الأطراف والمجموعات العاملة بالنظر في استراتيجيات إعادة الإعمار في سوريا.
لابد من المعونة لتخفيف معاناة المدنيين ومساعدة الكيانات المحلية للبقاء على مدى ما يبدوا أنه سيكون سنوات من العنف الممتد. رغم ذلك ورغم مستوى الحاجة الملح فإن من الضروري بنفس القدر تجنب جهود إعادة الإعمار التي تقوي النظام السوري لتمديد عقوبات المدنيين في زمن الحرب من خلال إعادة الإعمار القسري أو المثير للانقسام وهذا هو الحاصل حالياً. فعلى سبيل المثال تقوم الحكومة السورية بتنفيذ خطة إعادة اعمار تدعى بـ ” المرسوم 66 ” الذي يعد مخططاً لجهودٍ قسريةٍ راميةٍ الى إعادة رسم حدود البلديات وتجريد السكان من منازلهم وأملاكهم بحسب ولائهم السياسي فقبل أن تتدفق المعونات، على استراتيجيات إعادة إعمار سوريا أن تكون حذرة من التعثر بمغالطتين:
أولاً عليهم تجنب “مغالطة ما بعد الصراع” بافتراض أنه ستكون للأزمة نهاية محددة.
ثانياً عليهم تجنب “مغالطة خطة مارشال” بتركيز الكثير من الموارد في وقت مبكر جداً على المباني والبنية التحتية.
فهاتان المغالطتان تحدان من خيارات التنمية وتمنحان المكافأة للفاعل الأكثر تدميرا في الصراع السوري
بدلاً من ذلك فان إعادة البناء في سوريا يجب أن:
1_ تكون غير مركزية لتعزيز صمود المجتمعات المحلية والأفراد.
2_ قابلة للبقاء بالنسبة للمدنيين الذين يواجهون صراعاً دائماً.
3_ ناتجة عن الحيادية من حيث انها تستطيع النجاح بغض النظر عن المفاوضات السياسية.
مغالطة ما بعد الصراع
إن استراتيجيات إعادة الإعمار التي تقسم الصراع السوري بين زمن الحرب وزمن السلم تخلق مصيدة فكرية تنتج بدورها حلولاً غير قابلة للتخيل وغير مرنة، وبالتفكير في سوريا من خلال مرحلتي الصراع في الحاضر ومستقبل غير متوقع “لما بعد الصراع” فإننا مجبرين على استنباط افتراضات لسيناريوهات مستقبلية فالوقت الذي يمضي في تطوير حلول قد تساعد السوريين اليوم يُضيّع بدلاً من ذلك في وصف سيناريوهات مستقبلية لأزمة غير قابلة للتنبؤ وإن أياً من هذه السيناريوهات ليست محددة بشكل كافي لإنتاج خطة إعادة اعمار مفصلة وفي هذه الحالة فان افتراضاتهم غالباً محددة جداً بالنسبة لنظام موائمة معقد أو أنها مبهمة جداً فتصبح عديمة الفائدة في توجيه تخطيط إعادة البناء علاوة على ذلك فان جهوداً كهذه غالباً ما تصرف الانتباه عن الجوانب الأساسية للازمة عبر إدراج الفاعلين في مجموعات متجانسة غير ممثلة للواقع كـ “الإسلاميين” و”المعارضة السورية” و”الحكومة السورية”، وتشترط ثنائية “الصراع” مقابل “ما بعد الصراع”. هذه التعميمات لا تتجاهل فقط الحقيقة المهمة بأن هناك تنافسا في التأثير ضمن كل مجموعة ولكنها أيضا تفترض أن الفاعلين سيتقاتلون في طور “الصراع” وسيتنافسون للحصول على الدعم السياسي في طور “ما بعد الصراع”.
إن هذا النموذج هش وتفاعلي أكثر من كونه تقادمياً، وهكذا فإن إعادة البناء ستعني استمراراً للحرب بوسائل أخرى.
من شأن نموذج أكثر تنوعاً أن يتجاهل التسميات وأن يقيس الارتفاع والانخفاض في مختلف أنواع العنف في مناطق جغرافية مختلفة وأن يتأقلم مع تلك التغييرات. وقد أشار الاقتصادي البريطاني المشهور جون ماينارد كينس إلى هذه المغالطة عندما تحدث عن التأثير الخبيث للتخطيط الاقتصادي “طويل الأمد”، حيث أوضح أن طول الأمد هو دليل مضلل بالنسبة للأوضاع الجارية، “فالاقتصاديون وضعوا لأنفسهم مهمة سهلة جداً وغير مجدية، فإذا كنا في موسم العواصف فليس باستطاعتهم سوى إخبارنا بأن المحيط سيعود إلى الاستقرار مجدداً بعد أن تمر العاصفة”، فمن السخرية التخطيط في سوريا لمستقبل مستبعد الحدوث قد يحدث وقد لا يحدث في زمن غير محدد. فالوضع في سوريا هو أن هناك نظاماً معقداً عنيفاً يتحرك بسهولة بين “الصراع” و”ما بعد الصراع” في مناطق محدودة ولعقود من الزمن. خطِّط الآن لأن كل ما نعرفه هو “الآن”، بعد ذلك خطط لـ “لاحقاً” عندما يأتي “لاحقاً”.
مغالطة خطة مارشال
كذلك فمن غير المعقول وبنفس القدر التخطيط لجهدٍ دولي واسع النطاق لإعادة اعمار سوريا قد يكافئ أكثر الفاعلين عنفاً في الصراع بأكبر قدر من الموارد. هذه هي مغالطة خطة مارشال والفرق الوحيد بين أوروبا وسوريا ما بعد الحرب أنه عملياً لا يوجد مستقبل يمكن تخيله قادر على انتاج حكومة شرعية في سوريا. فالحقيقة انه لا أحد ذو شعبية من أطراف الصراع لا المليشيات الداعمة للأسد ولا محاربوهم الباقين من المليشيات الإسلامية المتطرفة مثل جيش الإسلام وجبهة النصرة ولا المعارضة المسلحة (المعتدلة) او المعارضة السياسية.
وحتى لو تحققت الشرعية على نحو ما نتيجة تفاوض (مثل اليمن) او عبر سلسلة انتخابات (مثل ليبيا) فان لمحة على الساحة السياسية لباقي الشرق الأوسط تظهر كم من الممكن أن يصبح مصطلح الشرعية اشكالياً وكم من الممكن أن ينكشف بسهولة. وإذا فترضنا اذن أنه لا يوجد ناتج مستقبل سياسي في سوريا ينتج حكومة من الشعب وبالشعب وللشعب عندها يجب ان نتوقف عن التفكير في توجيه مبالغ ضخمة من المال (لن تأتي) عبر توافق دولي (لن يتحقق) لدعمها. ما مشاريع الاغاثية التي يجب تجنبها؟ أي مشروع قد يعزز سلطة الدولة عبر إعطائها قدرة على توجيه مبالغ مالية وموارد ضخمة لإعادة الإعمار فقد أظهرت الأبحاث ان المشاريع التي تتضمنها اشكالية بالغة هي عمليات إعادة بناء البنية التحتية واسعة النطاق، كبناء شبكات الطرق أو البنية التحتية المادية كما ان تدريب ودعم الجيش والشرطة يحتوي على عيوب أيضا فمثلا السبعمئة مليون دولار التي انفقتها الولايات المتحدة لوحدها على تدريب الشرطة العراقية هو البرنامج الذي وصفه المفتش الأمريكي العام لإعادة الإعمار في العراق بـ ” الهاوية السحيقة” عام 2011.على اية حال هذا ما يحصل فعلاً خصوصاً في الاحياء التي تم تهجيرها مؤخراً مثل داريا والمخاطرة بمكافئة استراتيجية زمن الحرب التي ادانتها الأمم المتحدة كجريمة بوسائل قشرية مشابهة في زمن السلم.
ليست مشاريع إعادة الإعمار أدوات واسعة النطاق في الشرق الأوسط وأماكن أخرى غير فاعلة وغالباً داعمه للسلطوية فقط، بل ولكن الأبحاث المتأخرة أظهرت كيف يمكن استخدام إعادة بناء بيئة معينة لمفاقمة الصراع وكبت الحريات. وقد بين مركز بحوث الصراعات الحضرية في كامبريدج كيف أن الطرق في بيروت والقدس تعزز الانقسامات الطائفية وتستبعد كيانات اجتماعية من الفرص الاقتصادية. وقد يحدث الشيء نفسه في سوريا فقد تُستخدم أموال إعادة الإعمار لتطويق الأجزاء المضطربة من حلب الشرقية أو ضواحي دمشق مُضفية الطابع المؤسسي على نفس التفاوت الذي قاد في المقام الأول إلى انتفاضة السوريين.
لماذا تهمنا لا مركزة إعادة الإعمار
إن الحكومة السورية هي المرتكب الوحيد الأكبر للعنف في البلاد. حيث تقوم بقمع مليشيات المتمردين وتجبر المدنيين على دعم الحكومة من خلال العنف والحرمان من الخدمات الحكومية. ويعد حصار حلب والأحياء الأخرى حول حمص ودمشق مثالاً عن هذا التكتيك، التجويع أو الاستسلام للدولة. لذلك كلما قلت القسرية التي تحتاجها الدولة للحفاظ على الأمور تحت السيطرة كلما قل الشعور بالحاجة للاحتجاج لدى المجتمعات المحلية للحصول على الخدمات الأساسية.
على جهود إعادة الإعمار دعم البقاء المعزز بدعم الابتكارات التي طورتها الكيانات المجتمعية بالفعل للنجاة من الحرب بواسطة تقنيات مدعومة والتدريب على الأساليب فقد أظهر السوريون فعلياً قدرتهم على التكيف ففي حلب وضواحي دمشق قام الناس بإشعال البلاستيك المعاد تدويره للحصول على الوقود وتقوم المجتمعات المحلية في كل مكان بزراعة غذائها وتسخير الطاقة الشمسية للحصول على الطاقة وتعليم الأطفال في مدارس على شكل أقبية، وجمع القمامة وتنسيق عمليات تسليم المساعدات وتنظيم تخزين وتوزيع الأدوية.
يجب توجيه هذه الجهود الإبداعية ذات القاعدة الشعبية التي يقودها المجتمع وجعلها مستدامة كخطوة أولى من خلال جهود إعادة الإعمار التي تعلم بالمقام الأول أن إعادة سوريا إلى ما كانت عليه قبل 2011 لن يحدث بين عشية وضحاها. فتستطيع هذه الجهود على سبيل المثال دعم لا مركزة توليد الطاقة عبر استخدام منزلي مدعوم للألواح الشمسية، ولا مركزة الوصول إلى الانترنت من خلال وصول شامل إلى الانترنت ممول دولياً وبدعم من مشروع جوجل “Loon”، أو لا مركزة تنمية زراعة الأغذية عبر دعم المزارعين المحليين بالتدريب والتقنيات ودعم الأنشطة النامية.
وقد تتضمن الحلول الأكثر إبداعاً الجهود الرامية لتقليل الاعتماد المدني على المهام الأساسية للدولة بما في ذلك لا مركزة الاقتصادات والبيروقراطية مثل المشاريع التي تشجع التبادل الذي لا يركز على استخدام العملة السورية والتي ستبقى واحدة من أقل عملات العالم موثوقية وقابلية للتبديل. أن جهود إعادة الإعمار الدولية قد تنظر بعين الاعتبار أيضاً إلى توفير خدمات حكومية الكترونية على غرار استونيا والتي من شأنها إدارة الوظائف الأساسية للدولة الكترونياً بدلاً من الدولة. فالبيروقراطية الدنيوية للدولة السورية تمارس قوة قسرية لا تصدق وكلما قل لزوم أن يسجل السوريون معلوماتهم الشخصية من خلالها كلما كان ذلك أفضل.
تبدو بعض هذه المقترحات بعيدة المنال في البداية، لكن بالنظر إلى ما تم تجريبه واختباره فإن خطوات إبداعية كهذه ضرورية لعنونة إعادة بناء سوريا كما أن الاستراتيجيات اللامركزية لإعادة الإعمار ليست مثالية فهي تشجع على تقسيم سوريا وبالتالي تحد من الازدهار العام المحتمل للدولة السورية المستقبلية. كما أن تشجيع سكان شمال وشرق سوريا على تطوير منتجات صديقة للبيئة ولا يعد بسقفٍ عالٍ للإقتصاد السوري. فضلاً عن ذلك فإن استراتيجية لا مركزية لإعادة الإعمار سينظر لها من قبل الحكومة السورية على أنها تقويض لسلطتها ولذلك فمن المستبعد أن تحظى بدعمٍ في دمشق. لكن الحكومة السورية تحتاج لتمويل إعادة الإعمار وقد يشترط الدعم الدولي لاستراتيجية إعادة إعمار لا مركزية تمويل الحكومة المركزية على دعم جهودٍ كتلك في مناطق خارج سيطرتها. في حين أن المسؤولين الحكوميين السوريين يعترفون بأنهم يفتقدون الموارد لإعادة إعمار تلك المناطق.
من ناحية أخرى فإن استراتيجية لا مركزية تخاطر أيضاً باستبدال فاعل عنيف واحد بأطراف متعددة أصغر. لكنهم يتعاملون مع الوضع الراهن لا مع سيناريو افتراضي لما بعد الصراع، وبتشجيع الحكم الذاتي المحلي والسماح للمجتمعات المحلية بتجاوز ما يبدو انه عقود من العنف السياسي بالاستفادة من ابداعهم ومهارتهم في النجاة من الحرب فإن هذا ما يجب أن يكون محور تطوير وإعادة الإعمار في سوريا.
هذه المادة مترجمة عن موقع “أتلانتك كونسول“