القصة نفسها تتكرر بشكل ممل، قوى عظمى تشعل حرباً وتواجه تمرداً أقوى من المتوقع في تلك البلاد البعيدة حيث أشعلت حربها، ولا تملك -بطبيعة الحال- قوات كافية لمواجهة هذا التمرد تحت تأثير القيود السياسية والعسكرية. وعليه تقرر القوى العظمى التعاقد مع مقاولين، بعضهم مسلحون، بغية دعم المجهود الحربي في مناطق الاشتباك. هؤلاء المقاولون، يثبتون دوماً منذ الأزل أنهم نعمة ونقمة في آن معاً، فمن جهة هم ينجحون في توفير الخدمات الأمنية الحيوية لهذه الحملة العسكرية، ولكنهم في بعض الأوقات يتسببون في قتل العديد من المدنيين الأبرياء، وهو ما يتسبب بنكسات استراتيجية للدولة العظمى ويضر بشرعيتها وموقفها الدولي. ومن دون هؤلاء المتعاقدين لن تتمكن قوة عظمى من شن حرب، وبوجودهم يصبح الانتصار ذا مذاق صعب.
لا تعود قصة المقاولين المسلحين إلى ما حدث في العراق وأفغانستان، ولم يكن الحدث الأول في عام 2007 بل تعود تلك القصة إلى مناطق شمال إيطاليا وتحديداً في عام 1377. القوة العظمى حينها لم تكن الولايات المتحدة بل كانت البابوية تحت حكم البابا “غريجوي الحادي عشر” الذي شن حرباً ضد حركة “مناهضة للبابوية” كانت دوقية ميلان تقودها في ذلك الوقت. ولم تكن حوادث القتل الميداني المأساوية للمدنيين تحدث في بغداد حينها، بل كانت تنتشر في شوارع تشيزينا الإيطالية قبل أكثر من 630 عاماً. وحينها أيضاً لم تكن الشركات المستأجرة مثل بلاك ووتر أو غيرها بل كانت حينها تحمل الشركات أسماء كـ “وايت هارت” وغيرها. عرفت هذه الشركات على أنها شركات حرة، تعمل على تنظيم هؤلاء المحاربين المستأجرين بغية الربح وعبر ترتيب هرمي وتسلسل واضح المعالم ابتداءً بالقادة وصولاً إلى الجهاز الإداري، الذي يشرف على توزيع عادل للنهب والغنائم وفق عقود الموظفين. وكانت قادة هذه الشركات بمثابة مدراء نظيراتها الحديثة.
أوجه التشابه بين الشركات العسكرية الخاصة في القرون الوسطى ونظيرتها الحديثة عديدة جداً. فاليوم، تقوم الولايات المتحدة وغيرها من الدول كثيراً باستئجار مقاولين عسكريين لتنفيذ عقود أمنية متعلقة بالأمن في كثير من المناطق الأكثر خطورة حول العالم. في أواخر القرون الوسطى، كان يطلق على هؤلاء الموظفين مسمى ” الكوندوتيريين” وهي تعني حرفياً المتعاقدين، وهم الأشخاص الذين وافقوا على أداء الخدمات الأمنية المذكورة في عقود مكتوبة أو اتفاقات موقعة. كلا الشركات القديمة والحديثة منها خدمت كشركات وساطات تقدم خدماتها إلى “من يدفع أكثر” بغرض الربح البحت، وتملك هذه الشركات مقاتلين من بلدان مختلفة وتستمد تسليحها من مناطق مختلفة أيضاً، والولاء الوحيد هنا للراتب فحسب. خدم هؤلاء المقاولون في الجيوش الخاصة، وعادة ما كانت المهارات القتالية البرية أكثر أهمية من القدرات الجوية أو البحرية بالنسبة لهم، واقتصر عملهم بشكل عام على نشر القوات العسكرية بدلاً من إنفاذ القانون أو القيام بالمهمات الشرطية.
عاد المرتزقة مجدداً، فبعد أن يطردوا على اعتبار أنهم خارجون أخساء عن القانون، يعودون من الظل مجدداً مرة أخرى ليحتلوا مكاناً سيادياً في السياسة العالمية. فمثلاً، وظفت الإمارات العربية المتحدة مئات اللاتينيين المرتزقة لمحاربة الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن. وبعد سنوات من القتال ضد بوكو حرام، وظفت نيجيريا مؤخراً مرتزقة لمحاربة التنظيم وإنجاز مهمة الدولة. فيما بعث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مجموعات من المرتزقة تدعى “ميرس” لـ “تحرير” شرق أوكرانيا في صراع ما يزال مستمراً حتى اللحظة. ووفق تقارير أيضاً فإن شركة “ميرس” تملك مقاتلين محترفين في بعض أجزاء العراق.
ولا يقتصر الطلب على الدول فقط في هذا السوق. فالصناعات الاستخراجية والمنظمات الإنسانية تستأجر مقاتلين من “ميرس” لتوفير الحماية للأشخاص والممتلكات في المناطق الأكثر خطورة في العالم. هناك صنف كامل من المقاولين المسلحين يعملون بمثابة قراصنة في خليج عُمان وغيره من المياه التي تُشتهر بعمليات القرصنة. دخل المرتزقة الفضاء الإلكتروني أيضاً وقدموا خدمات تعرف “بشركات إعادة الاختراق” –cybermercs- وتقدم هذه الشركة مزية إعادة اختراق الحسابات التي اخترقت حسابات وكلائهم بداية، وهو ما يساهم في ردع المخترقين في المقام الأول. وفي عام 2008 اعتبرت الممثلة المعروفة مايا فارو أن تعيين وكلاء شركة “بلاك ووتر” في دارفور سيساهم في تحسين قدرات التدخل الإنساني لإنهاء مظاهر الإبادة الجماعية هناك. فيما يعتبر البعض مثل “مالكوم هاج” في كتابه “خصخصة السلام 2009” أن المرتزقة يجب أن تنشط في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وهو ما يمكن اعتباره اقتراحاً إيجابياً مع بعض الملاحظات، فيما اقترح آخرون أن يستخدم المجتمع الدولي قوات خاصة من المرتزقة لهزيمة داعش، وقد غازل الأمر أصحاب الثراء الفاحش لاستخدام المرتزقة لتحقيق أهدافهم الخاصة.
يحارب المرتزقة من أجل المال والربح في المقام الأول بعيداً عن أي اعتبار سياسي أو وطني. وكلمة المرتزقة تعني بالإنجليزية “Mercenaries” والتي يعود أصلها إلى الكلمة اللاتينية “merces” والتي تعني “الأجر”. واليوم باتت تعني كثيراً من اللؤم والغدر والقتل. لكن الأمر لم يكن هكذا على مدار التاريخ. فجزء كبير من التاريخ اعتبر المرتزقة بمثابة لواء صادق وإن كان يتاجر بالدم. وتوظيف المرتزقة للقتال ضمن الحروب كان يعد أمراً روتينياً في الحروب. فقد كان هناك جيش الملك شولجي من الأور ( 2094- 2047) قبل الميلاد، وهناك جيش المرتزقة اليوناني “زينوفون” الذي كان يعرف بجيش العشرة آلاف ونشط ما بين أعوام (401- 399) قبل الميلاد. وهناك جيوش مرتزقة قرطاج التي نشطت ضد روما خلال الحرب البونيقية في أعوام (264- 146) قبل الميلاد، وكان بينهم جيش هانيبال الضخم ( 60 ألف مقاتل) الذي قام بتسيير الفيلة عبر جبال الألب لمهاجمة روما من الشمال. وعندما غزا الإسكندر المقدوني آسيا عام 334 قبل الميلاد، ضم جيشه ما يصل إلى 5000 مقاتل من المرتزقة، فيما ضم الجيش الفارسي -عدوه في المعركة- ما يزيد على 10 آلاف مقاتل إغريقي مرتزق.
روما من جهتها اعتمدت على المرتزقة طول عهدها الذي امتد لأكثر من ألف عام. فيوليوس قيصر استخدم مرتزقة ألمان لحماية نفسه في إليسيا أثناء حربه ضد فرسن جتريكس في الغال. فيما شكل المرتزقة نصف قوام جيش “وليام الفاتح” في القرن الـ 11 ، حيث لم يستطع حينها توفير جيش كاف من النبلاء والفرسان لإنجاح الغزو النورماندي لإنجلترا. وفي مصر وسوريا، استخدمت سلطنة الممالك (1250- 1517) نظام العبيد المرتزقة الذي تحولوا إلى الإسلام أيضاً. فيما عرف عن الأباطرة البيزنطيين خلال الفترة الممتدة بين القرن 10 و15 جلب العديد من المرتزقة الإسكندنافيين والحرس الفرنجيين الذين عرفوا بولائهم الشديد وبأسهم في المعارك ومهارتهم باستخدام الفؤوس في المعارك واستهلاك كميات كبيرة من الكحول أيضاً. ولم يقتصر الأمر على هذا بل انتشر في إيطاليا وألمانيا وسويسرا. حيث يمكن الجزم بهيمنة المرتزقة على عدد من الحروب والمعارك التي انتشرت ما بين القرن 13 و 16 في هذه الدول.
بدأت الحروب في التغير في القرن السادس عشر، وبالطبع أصاب القطاع الخاص بعض التغيير. فقد أصبحت المعارك الأوروبية أكثر عنفاً وزادت أعداد الجيوش وامتلكت أسلحة أكثر تدميراً وكان القبر أهون العواقب. وخلال حرب الثلاثين عاماً (1618 حتى 1648) على سبيل المثال؛ كانت أعداد قوات المرتزقة في معارك تلك الفترة تصل كثيراً إلى حدود 50 ألف مقاتل، وهو ما يتضح في معارك الجبل الأبيض (1620) ومعارك “بريتن فيلد ولوتزن (1632) ونوردلينجين (1634) وبتستوك (1636) وروكري (1643) وبشكل عام كانت الجيوش عبارة عن أكثرية من المرتزقة وأقلية من القوات الوطنية، وحب الوطن لم يملك الكثير من الروابط مع الخدمة العسكرية.
ولتلبية الطلب المتزايد على هذه القوات، تم استحداث سلالة جديدة من منظمات الصراع “المقاولون العسكريون” وهم الذين حرصوا على تجهيز أفواج عسكرية وتأجيرها لأولئك الذين يحتاجون خدمات الدفاع عن النفس. وبشكل متميز عن المرتزقة البدائية، تمكن المقاولون العسكريون من تشكيل جيوش كاملة. سمحت “أفواج الإيجار” هذه للحكام بشن حرب على نطاق واسع دون إحداث أي تغيير أو إصلاح إداري أو جذري مبرر، ساعد هذا الأمر كثيراً على إذكاء نار الحروب وساهم في تجاوز الكثير من الحكام للعقبات التي كانوا يعانون منها في السابق قبل شن حروبهم، وهو ما زاد في شراسة وضخامة المعارك. ومن الأمثلة على هؤلاء المقاولين ما قام به “كونت أرسنت فون مانسفيلد” الذي أسس جيشاً كاملاً ليخدم حكام منطقة “بلاتينات الانتخابية” التي تقع في ألمانيا الآن. بالإضافة إلى رجل أعمال أمستردام لويس دي جير، الذي ساهم في تشكيل قوات بحرية سويدية، بالإضافة إلى جينوفزي ماركيز سبينولا، الذي أدار شؤون الملك الإسباني العسكرية في هولندا، وبرنارد فون فايمار، الذي قام بتشكيل جيوش للسويد لفرنسا. وكان أشهرهم، الكونت ألبرشت فون ألينشتاين الذي شكل جيشاً ضخماً لخدمة إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة فرديناند الثاني، وصار على إثره الرجل الأغنى في أوروبا. وبحلول نهاية الحرب، كانت السوق قد تخطت المقاولين مثل ألينشتاين وباتت الجهات الصغيرة فيه أكثر فعالية، لا سيما العقداء المرتزقة والممولين التجار، فقد انتشرت شبكات الائتمان والعمل هذه والمعارض في أمستردام وهامبورج وجنوة.
المقاولون العسكريون يملكون صفات تمزج بين المقاتل والحاكم الذي يستخدمه. فهم مثل المرتزقة يعملون من أجل الربح، ويشاركون القطاع العام مهماته تحت هذا الهدف. لكنهم في نفس الوقت يملكون اتفاقية شراكة مع القطاع العام، فيقومون ببناء الجيوش دون التحكم بها مع الاحتفاظ بلمحة وطنية تتعلق بعملهم. وعليه فيمكن تعريف المقاولين على أنهم شركات القطاع الخاص التي تعمل على تسيير المرتزقة للقتال في صفوف القطاع العام بغية الربح المادي مع توفير نوع من الولاء الوطني لهذه الجيوش.
ساهم المقاولون هنا ومشاريعهم في تغيير أعمال الحرب وتحولها من سوق حر إلى سوق وسيط في الصراع. ففي السوق الحرة، يعد الصراع استهلاكياً؛ فكل طرف بالحرب يعتبر مستهلكاً أو مورداً ويتم على أساس هذا التفاوض على السعر وشن الحروب. كان كلا الجانبين غير مقيد في الصفقة هنا، وكان السوق هو المتحكم بطبيعة العمل. فعلى سبيل المثال، يخضع الكوندوتيريون لشروط السوق هذا كمرتزقة، ويتم عقد مزايدات لضمان ولائهم وهو الذي يتجه تلقائياً نحو من يدفع أكثر، وكثيراً ما كان المرتزقة يغيرون ولاءهم وفق ما يرون أو ينسحبون من المعركة إن لم تعجبهم الظروف. وحينما يقل الطلب، يتجهون للأرياف إما للنهب أو العمل هناك. وحين اشتداد السوق يعودون للعمل مجدداً وهكذا.
هذا الأمر يتناقض مع السوق الوسيط الذي أنشأه المقاولون العسكريون، وهو الذي قدم جزءاً من ضبط النفس إلى الحكام. فالشراكة بين القطاعين كانت حصرية وطويلة الأمد، وهو ما يجعل الأمر صعباً على أحد الطرفين للتراجع أو دفع السوق للاستقرار. فألينشتاين مثلاً لم يملك أي حافز لخيانة فرديناند الثاني، وعلى العكس من ذلك، فقد كان مصدره الأساسي لجلب الإيرادات. ولم يخطر ببال فرديناند أيضاً خيانة ألينشتاين، فقد كان هو الوسيط المورد للمقاتلين له في حربه التي كان يخوضها من أجل البقاء. وبعبارة أخرى، فقد كان الطرفان في هذه المرحلة يعتمدان على بعضهما البعض بطريقة لم تكن متوافرة في مرتزقة القرون الوسطى أبداً. ولا يمكن حصر الأمر في ألينشتاين أو زمنه، لكنه لم يكن منتشراً بهذا الشكل في الماضي. ولكن ألينشاتين ساهم في تعزيز السوق المضبوط والمتزن بالمصالح طويلة الأجل وضبط السلوكيات الفاسدة، ومن ثم سيطر على السوق الوسيط المتحكم بالقوة.
عملية الانتقال من الجيوش الخاصة إلى العامة اتسمت بالتدريج البطيء وامتدت لقرون، وتم تعزيزها عبر قوة الدول وتطورات السياسة الأوروبية. فبحلول عام 1650 بات من الواضح للجميع أن مسألة الاعتماد على طلب المرتزقة وقت الحاجة لهم لم تعد مسألة ذات جدوى للحكام. لا سيما مع الدمار الذي أحدثه المرتزقة في الريف والتهديد الذي عاشه أرباب العمل في أوقات تراجع السوق. وكان المطلوب إنشاء جيش عام من الفنيين المدربين والمنضبطين بشكل منهجي يحافظ على تشكيلاته في السلم والحرب والصيف والشتاء، مع ضمان وجود وسيلة منتظمة للحصول على الإمدادات الخاصة به وتعزيز قواه البشرية، والأهم من ذلك أن جيوش كهذه سترفع من شأن القوة العسكرية الخاصة بالدولة وتعزز هيبتها.
فعلى سبيل المثال، وبعد اتفاقية السلام مع جبال ألبرانس (1659) شكلت فرنسا جيشاً دائماً عن طريق استخدام معظم ضباط درك لويس الرابع عشر، وتشكيل ست وحدات من المشاة الدائمين. هذه الجيوش مكنت ملك الشمس من حشد جيوشه بسهولة ويسر في حرب أيلول (حرب بين فرنسا وإسبانيا) بين أعوام 1667 و1668. وتمكن من السيطرة على العديد من المناطق الجديدة. وفي نهاية الحرب، كان لدى لويس الرابع عشر جيشاً أكبر من ذي قبل. في الوقت نفسه، كان النموذج الجديد ينتشر في إنجلترا، حيث قام أوليفر كروميل بتشكيل جيش على الطراز الجديد. وبعد عام 1660 حيث وقع ما يعرف بالاستعادة، سمح لتشارلز الثاني بالاحتفاظ بخمسة أفواج من هذه القوة التي كان يبلغ مجموع رجالها 3000 رجل. كانت هذه القوات التخصصية صغيرة نسبياً لكنها شكلت اللبنة الأولى لتشكل وتطور الجيوش الوطنية التي من شأنها أن تتطور على مدى القرون التالية.
في القرون الثلاثة اللاحقة، واصلت الدول ضغطها على المرتزقة، بالإضافة إلى تأثير انتشار استخدام البارود عليهم، الذي ترافق مع انخفاض مهارة وقيمة المرتزقة القتالية، وهو ما مكن الفلاحين من هزيمتهم. من جهة أخرى، ساهمت بيروقراطية الدولة الصاعدة بقوة في تلك الفترة في زيادة قدرة الدول على إدارة الجيوش وتخصيص مكانة عملية لها واستخدامها في جمع الضرائب، ترافق هذا أيضاً مع بروز الأفكار التنويرية وما صاحب الثورات السياسية المختلفة، التي نتج عنها تعزيز للعلاقة بين الجندي والدولة في إطار العقد الاجتماعي، ولعل أحد أهم المساهمين في هذه التطورات كان نابليون بونابارت الذي شجع على الخدمة العسكرية باعتبارها “واجباً وطنياً أساسياً” وما تزال هذه القاعدة حاكمة لجيوش العالم اليوم. وبحلول القرن 18 برزت جيوش وطنية كبيرة وهو ما دفع الوزير فريدريش فون شروتر إلى القول: “بروسيا لم تكن دولة تملك جيشاً، وإنما جيش يملك دولة”.
ومع مرور الوقت، باتت الدول هي الممثل الرئيسي في سوق القوة وحظرت منافسة الجهات الأخرى كالمرتزقة وغيرهم. وكان الاستثناء الوحيد لتلك الدول التي ترغب في تأجير جيوشها لدول أخرى لجني الأرباح هو ما حدث خلال حرب الثورة الأمريكية، حيث قامت بريطانيا العظمى بمضاعفة جيشها من خلال توظيف 30 ألف جندي من الولايات الألمانية معظمهم من ولاية هيسن، بغية قمع التمرد الأمريكي، وحينها أطلق الثوار الأمريكيون على هؤلاء الجنود اسم “Hessians”.
وبالمثل فعلى الرغم من عدم شرعية القرصنة، ومواجهة القرصان لعقوبة الموت في حال إلقاء القبض عليه، فإن الكثير من الدول قامت بتوظيف سفن خاصة حربية وقراصنة بغية مهاجمة سفن العدو. وسمح للقراصنة باختلاس جزء كبير من الغنائم وكان الفارق ضئيلاً جداً بين القرصنة والعمل في الجيوش الخاصة هذه. واعتبرت القرصنة مسألة غير قانونية لأنه وفق الفقهاء القانونيين في القرن 19 فإن القرصنة كانت تتم في ظل ظروف يستحيل معها إقرار دولة بمسؤوليتها عن هذه الجرائم. وبحلول عام 1856 ومع صعود موجة القومية واشتدادها، حرم إعلان باريس البحري المعروف استخدام القراصنة في أعمال القتال الخاصة بهذه الصورة.
كثير من الدول أيضاً في تلك الفترة فوضت إدارة شؤونها العسكرية إلى شركات تجارية شبه حكومية مثل شركة الهند الشرقية الهولندية أو البريطانية، التي كانت تقود القوات المسلحة لكلا البلدين. وكانت آخر مرة استأجرت فيها بريطانيا جنوداً أجانب خلال حرب القرم عام 1854، حيث قامت بريطانيا العظمى حينها باستئجار 16500 جندي من المرتزقة.
ومع حلول القرن العشرين، تعاظمت سلطة الدولة لتصل إلى أوجها وأجبرت سوق الجيوش على الاختفاء. فالصراعات الكبيرة التي دارت في تلك الفترة -الحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الباردة- كانت تتم بين قوى عظمى باستخدام جيوش عامة ضخمة. وباتت مسألة شن حرب على طرف آخر من تخصص الدول فقط وهو الأمر الذي دفع إلى تجاهل الجهات المسلحة غير الحكومية. وفي كتابه “الإنسانية في الحرب” الذي نشره عام 1980 يقول المؤرخ والباحث القانوني جيفري بيست إن الفترة ما بين 1856 و 1909 كانت الفترة صاحبة السمعة الأفضل في الحروب بين البشر، هذا مع تجاهل عدد من الإبادات الجماعية وبعض الحروب الصغيرة التي شهدتها بعض المستعمرات والبلدان المختلفة.
وعلى الرغم من التحرك نحو نزع الشرعية عن المرتزقة، إلا أن الدول استمرت في رعاية وتعزيز المقاتلين المرتزقة على مدار القرن العشرين. ففرقة المجندين الأجانب الفرنسية تعمل على تجنيد المقاتلين من مختلف مناطق العالم، لكنهم يبقون جزءاً من الجيش الفرنسي؛ حيث تأخذ الفرقة أوامرها حصراً من باريس، وتتبع المذهب العسكري الفرنسي ويقودها ضباط فرنسيون. وهناك أيضاً فرقة “النمور الطائرة -The Flying Tigers” التي نفذت مهام قتالية ضد القوات اليابانية إبان احتلالها الصين بين أعوام 1940 و1941، كان قوام هذه الفرقة من أفراد الجيش الأمريكي القدامى واعتبرت كوسيلة استخدمتها الولايات المتحدة لمحاربة اليابان قبل إعلان الحرب رسمياً. وفي بريطانيا، تعمل الشركة البريطانية “WatchGuard International” وهي التي تأسست عام 1965 وتعد أولى الشركات العسكرية الخاصة البريطانية الخاصة، وتعتمد بشكل كامل على قدامى المحاربين والمقاتلين المتقاعدين من القوات الخاصة البريطانية، موفرة خياراً جيداً للساسة البريطانيين حال ما أرادوا استخدام قوات عسكرية خاصة في منطقة ما. وبرغم هذه الأمثلة، فإن هؤلاء المرتزقة يبقون في إطار الاستثناء خلال القرن 20.
وخلال هذه الفترة عمل المرتزقة بشكل غير مشروع كمقاتلين خاصين في الظل بدلاً من العمل عبر الشركات الربحية في السوق المفتوح. وجند المقاتلون من دول كالصين وأمريكا اللاتينية وأفريقيا للعمل في المناطق الأكثر اضطراباً في العالم. فيما كانت جماعات العمل كثيراً من الحكومات الضعيفة والجماعات المتمردة والشركات متعددة الجنسية العاملة في المناطق غير المستقرة بالإضافة إلى القوى الاستعمارية السابقة التي تسعى لتعزيز نفوذها في شؤون مستعمراتها السابقة. ومثلت حقبة نهاية الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية فرصة لتوفير عدد كبير من المقاتلين القدامى للعمل في الشركات الخاصة. وجذبت أزمة انفصال كاتانغا والكونغو بين أعوام 1960 و1968 مئات المرتزقة للقتال بها وكان من بينهم الإيرلندي “ماد مايد هور” والفرنسي بوب دينار. وكثيراً ما كانت هذه المشاركات ممثلة في أفلام سينمائية مثل “الأوزة البرية (1980) “والذي مثل دور ماد مايد حين عمل مستشاراً تقنياً و فيلم “كلاب الحرب (1980)” استناداً إلى رواية فريدريك فورسيث المستوحاة من حياة بوب دينار.
وقعت معظم هذه الحروب بعد إنهاء الاستعمار في أفريقيا التي دفعت إلى إعلان اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة لحظر المرتزقة. فيما يعد تعريف المرتزقة الأكثر قبولاً على نطاق واسع والوارد في المادة 47 من البروتوكول الأول ذا لغة مقيدة جداً وغير دقيقة، ومع ذلك فإن أياً من المرتزقة أولئك لم يقعوا ضمن هذا التعريف. وكما أشار “بيست” فإن “المرتزق الذي لا يستطيع استبعاد نفسه من هذا التعريف يستحق أن نطلق عليه وعلى محاميه النار”. والأهم من هذا أن التعريفات لا تعد مشكلة أساسية فالقانون الدولي لتنظيم المرتزقة لا يمكن أن يتغلب على قدرة المرتزقة على تجاوزه.
بعد فترة وجيزة من نهاية حقبة الحرب الباردة، شهد العالم انبعاث قوة عسكرية خاصة، حيث ظهرت أول شركة حقيقية للمرتزقة في جنوب أفريقيا، خاصة بعد سقوط نظام الفصل العنصري هناك، وهو ما تسبب في وجود كثير من الجنود العاطلين عن العمل خاصة من القوات الخاصة مثل الكتيبة 32 و فرقة “Koevoet” واللتين شكلتا اللبنة الأولى لإنشاء أول شركة عسكرية خاصة حديثة وتم تسميتها بما يتوافق مع عملها “النتائج التنفيذية – Executive Outcomes” وعلى العكس من سابقتها لم تكن المجموعة الجديدة مجموعة مقاتلين مرتزقة جدد، وإنما كانت شركة مرتزقة حقيقية تقاتل في صفوف من يدفع أكثر. وكانت تعمل هذه الشركة في أنغولا وموزمبيق وأوغندا وكينيا، وعرضت المساعدة لوقف الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، إلا أن كوفي عنان -رئيس عمليات حفظ السلام للأمم المتحدة حينها- رفض ذلك مدعياً “أن العالم غير مستعد لخصخصة السلام”. ونظرياً كانت أيديولوجيا عنان هذه مكلفة للغاية، إذ لقي 800 ألف شخص حتفهم في تلك المجازر. ومع حلول عام 1998 أغلقت الشركة أبوابها، لكن ذلك كان بعد صعود بورصة المرتزقة حول العالم.
وبعد حل الشركة، ساعد أعضاؤها في إطلاق شركة جديدة تحمل اسم “ساندلاين الدولية”، وهي الشركة التي كان مقرها في لندن ويديرها اللفتنانت كولونيل البريطاني السابق “تيم سبايسر” والضابط السابق في القوات البريطانية “سيمون مان”، بالإضافة إلى العقيد المتقاعد “برنارد ماكبي” من القوات الخاصة للجيش الأمريكي. وفي عام 1997 تعاقدت الشركة مع رئيس وزراء بابو غينيا الجديدة “جوليوس تشان” لاستعادة مناجم النحاس التي سيطر عليها الانفصاليون في جزيرة بوغانفيل مقابل 36 مليون دولار أمريكي. رفض جيش باباوا غينيا وجود مقاتلي ساندلاين، وقام باعتقالهم وترحيلهم من البلاد دون إطلاق نار، فيما اضطر تشان لاحقاً للاستقالة، وتصدرت شركة “ساندلاين” الأخبار. وبالمثل تعاقد الرئيس السيراليوني المخلوع أحمد تيجان مع ساندلاين من أجل تدريب وتجهيز 40 ألف مقاتل من أبناء الشعب للعمل كمقاتلين مأجورين ومليشيات تابعة له بالإضافة إلى حماية مناطق المدنيين. وتورطت الشركة أيضاً في دعم انقلاب غينيا المجاورة، وهو الانقلاب الذي انتهى بالفشل وأدى إلى ظهور فضيحة الأسلحة البريطانية في أفريقيا.
وفي وقت لاحق، وجد المقاتلون الخاصون أنفسهم يعملون لجوانب مختلفة، ففي عام 2004 قاد مان مجموعة من المرتزقة وبدعم مالي مزعوم من مارك تاتشر، نجل رئيسة الوزراء السابقة في المملكة المتحدة، وكانت تلك محاولة للإطاحة بحكومة غينيا الاستوائية -البلد الغني نفطياً- وعرفت تلك المحاولة بانقلاب “Wonga”. ومع فشل الشركة، تم اعتقال مان، فيما ترك مكابي “ساندلاين” وأصبح رئيس الأمن في شركة “ماراثون أويل” في ولاية تكساس، وهي التي استثمرت في غينيا الاستوائية. أما سبيسر، فقد أسس بعد وقت قصير من غزو العراق عام 2003 شركة جديدة تحمل اسم “إيجيس للخدمات الدفاعية” التي كان مقرها لندن، وتمكنت من الحصول على عقد الحفاظ على الأمن بقيمة وصلت إلى 239 مليون دولار عن طريق الحكومة الأمريكية في العراق. واليوم نعيش نحن نتائج شركة “التنفيذيين” الأولى.
وفعلياً، فقد كانت الولايات المتحدة وحروبها في العراق وأفغانستان ما أعاد حقاً السوق إلى قوته السابقة. فصناع السياسة الأمريكيون ولا سيما نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، توقعوا أن تنتهي حروبهم تلك في أسابيع وليس أشهر. وبالطبع كان هذا قبل عقد من الزمان. وسرعان ما اكتشف الجيش الأمريكي صعوبة توظيفه عدداً كبيراً من الجنود الأمريكيين لدعم هذه الجهود والحروب، وهو ما ترك صناع القرار أمام بعض الخيارات القبيحة. أولها أن الولايات المتحدة قد تضطر إلى الانسحاب والاعتراف بالهزيمة، والثاني إمكانية قيامها بتأسيس مشروع لملء الصفوف والتجنيد، والثالث أن تعتمد الولايات المتحدة بعض الشيء على حلفائها لإنقاذها من حروبها. وأخيراً، كان بإمكان الولايات المتحدة الإبقاء على الحرب فعالة عبر استخدامها للمقاولين. وعلى أرض الواقع، كانت الخيارات الثلاثة الأولى أشبه بالانتحار السياسي أو أنها تفتقر إلى الواقعية، حتى وجدنا الولايات المتحدة تتعاقد مع المقاولين وهي السياسة التي استمرت في عهد أوباما أيضاً.
قد يكون التعاقد على الطريقة الأمريكية هي الطريقة الجديدة للحرب. فهي الطريقة المنطقية لمشروع خاص ببلد غني يريد أن يعززأاو يكتسب قوة لمشروعه في الخارج، في حين لا يرغب مواطنوه في بذل دمائهم في سبيل هذا المشروع. يحتل المقاولون العسكريون ما يصل إلى 50% من قوم القوات الأمريكية في العراق فيما ترتفع نسبتهم في أفغانستان لتصل إلى 55%.
وبالنسبة لأعداد القتلى، فقد احتل المقاولون ما نسبته 25% من مجموع القتلى الأمريكيين منذ بدء الحرب في العراق وأفغانستان. وفي عام 2003 لم تكن نسبة المقاتلين بالوكالة القتلى تتجاوز 4% من جميع الوفيات. وبحلول عام 2010 كانت أعداد المتعاقدين أكثر من العسكريين الأمريكيين، وهي المرة الأولى في التاريخ التي كانت فيها خسائر الشركات أكبر من خسائر الولايات المتحدة المباشرة في ميادين القتال. وتبقى هذه الأرقام في إطار التقديرات المتحفظة، لا سيما وأن الشركات تسعى إلى إخفاء خسائرها بالقدر الأكبر للحيلولة دون إحداث أي ضرر بسمعتها التجارية.
ووفق الإحصاءات فإن معظم المتعاقدين في العراق وأفغانستان لم يكونوا مسلحين، بل إنهم عملوا على توفير الدعم اللوجستي غير المسلح. ولم تكن نسبة المسلحين من المتعاقدين سوى 12% إلى 15% مقارنة بباقي المقاتلين. وتبقى أحداث فشل المتعاقدين المسلحين ذات تأثير استراتيجي ضخم، وكما يتضح من أحداث ساحة النسور في بغداد عام 2007 عندما قامت مجموعة من أفراد بلاك ووتر بقتل 17 مدنياً في دائرة المرور في واحدة من الحوادث المشهودة في الحرب.
ويضاف إلى هذا ما حققته الاستثمارات الأمريكية في الصناعة العسكرية ومساهمتها بجعل الحرب تجارة أكبر وأفضل. وفي حين ما تزال القيمة السوقية غير معروفة، تتراوح تقديرات الخبراء أن قيمة هذه التجارة تتراوح بين 20 مليار و100 مليار دولار سنوياً. وبشكل أكثر دقة، فإن التزامات وزارة الدفاع الأمريكية للعقود تضاعفت من 165 مليار دولار إلى 414 مليار دولار بين عام 1999 وعام 2008. وفي عام 2010 لوحده التزم الجيش الأمريكي بدفع 366 مليار دولار على عقود الأمن، هذا الرقم لوحده يكافئ ستة أضعاف ميزانية الدفاع البريطانية بأكملها. وتجدر الملاحظة هنا أن هذه الأرقام تلتزم بالعقود العسكرية فحسب، ولا تشمل تلك العقود التي يتم تنفيذها عبر وكالات حكومية أخرى مثل وزارة الخارجية أو الوكالة الأمريكية للتنمية أو من خلال الشركاء المنفذين. وعليه فإن المبلغ الفعلي الإجمالي الذي دفعته الولايات المتحدة للعقود الأمنية بشكل خاص ما يزال مجهولاً.
الاعتماد الأمريكي على المتعاقدين الخاصين يشبه ما تقوم به أي قوة عظمى من اعتمادها على قطاع خاص لشن الحروب. وبحكم الواقع، شرعت الولايات المتحدة استخدام الصناعة العسكرية الخاصة، وهو ما شجع دولاً كنيجيريا والإمارات العربية المتحدة وروسيا على استئجار المرتزقة أسوة بها. بل إن شركات النفط وخطوط الشحن باتت توظف الكثير منهم الآن. هذه الأحداث التي تسبب غضب الجمهور أو تجلب اهتمامهم نحوه تسجل زيادة من القبول في الأوساط والعلاقات الدولية، وباختصار فإن المرتزقة يعودون.
ودون الذهاب بعيداً، يمكننا الجزم بأن الحرب الخاصة كانت هي القاعدة وليس الاستثناء عبر التاريخ، على اعتبار شذوذ السنوات الـ400 الأخيرة وعودة مثل نظام كهذا سيحمل آثاراً كبيرة في طياته. وتبقى مسألة منح وسائل الحرب إلى أي شخص ذات تأثير كبير على تغير مسارات الحروب وسبب الحرب ومستقبلها. وإذا كان المال وحده كاف لشراء القوة النارية، فإن الشركات الكبرى والأثرياء سيصبحون قريباً جداً من بين القوى العظمى في العالم. وستظهر مجموعات جديدة من المرتزقة هنا لتلبية هذا الطلب وتقديم خدمات أكثر فتكاً دون أي إعاقة من قوانين الحرب.
مزيد من المرتزقة يعني أن هناك المزيد من الحروب، إذ ستتحفز هذه الشركات لبدء وتوسيع الحرب من أجل الربح، ويتحول الإجرام إلى صيغ العقود. وهناك نوع جديد ينشأ أيضاً مثل حرب العقد، وهي الحرب التي تستجيب لمنطق السوق مثل الرشوة والخداع ورفض الشراء. والسوق النشط هذا سيملك كثيراً من القدرة على تغيير العلاقات الدولية والنظام العالمي على نحو متزايد مثل العصور الوسطى الأوروبية عندما كان المرتزقة يقررون طرق شن الحروب، وكان الأثرياء يشنون حرباً لأي سبب كان. ولعل الوصف الأفضل لهذا النظام العالمي هو “الاضطراب الدائم”، أي النظام العالمي الذي يحتوي المشاكل بدلاً من أن يحلها، وهو العالم الذي يتحكم بنا فعلياً.
هذه المادة مترجمة من موقع أيون للحصول على المادة الأصلية اضغط هنا