مؤخرا، وفي كتابها الجديد الذي صدر تحت عنوان “الجاسوسات يتحدثن”، أعادت الصحفية الفرنسية، كلوي أبرهارت، رسم ملامح صورة النساء العاملات في أجهزة الاستخبارات، من خلال عرض ثمان شخصيات نسائية لعبن دورا هاما في المعركة الإستخباراتية التي دارت في الحرب الباردة.
في الواقع، وعلى الرغم من الدور البارز الذي لعبته العميلة، مارتا دونكان في الإيقاع بدكتاتور بنما السابق، الجنرال مانويل نورييغا، لم تول أي وسيلة إعلامية أهمية للعملية التي قامت بها دونكان ولم يتم الكشف عن تفاصيلها، في أي مقال صحفي أو وثيقة موجودة على شبكة الانترنت.
في المقابل، ورغم الغموض الذي يكتنفه، فإن دور دونكان كان مصيريا في القبض على الجنرال نورييغا في سنة 1990، من قبل القوات الأمريكية، أثناء لجوئه إلى سفارة دولة الفاتيكان. ومن اللافت للنظر أن دونكان التي كانت تعمل في وكالة الاستخبارات العسكرية الأمريكية، هي من قامت بتجنيد فيكي أمادو، العشيقة المفضلة لنورييغا، وكلفتها مسؤولية إقناعه بتسليم نفسه للولايات المتحدة.
وفي هذا الصدد، صرحت مارتا دونكان للصحفية كلوي أبرهارت، “لقد راهنت على نجاح المهمة ولعبت ورقة التعاطف والتضامن النسائي، ونتيجة لذلك سمحت لي فيكي أمادو بالتقرب منها والتحكم فيها وأصبحت تثق بي بشكل تام، بينما كنت أحتقرها كثيرا في أعماقي، فكيف يمكن لها أن تحب دكتاتورا كريها مثل نورييغا، خاصة وأنه لم يكن يحترمها بتاتا؟”.
وعموما، هذا الكتاب الذي ألفته كلوي أبرهارت، ونشرته دار روبرت لافون للنشر، يعتبر من صنف كتب التحقيقات، وقد كشف كل أسرار العميلة مارتا دونكان، وكيف نجحت في التقرب من فيكي أمادو عبر وساطة بعض معارف الدكتاتور نورييغا. ووضح الكتاب حيثيات العملية انطلاقا من اختطاف دونكان للعشيقة المفضلة لدى نورييغا في سيارة شيفروليه قديمة دون استعمال العنف، وصولا لاستخدامها أساليب التلاعب السيكولوجي والتهديد حتى تضغط على فيكي وتقنعها بإنجاز مهمة لفائدة الاستخبارات الأمريكية.
في الحقيقة، إن مارتا دونكان التي تبلغ اليوم من العمر 61 سنة والتي تقاعدت من الخدمة، تبدو بعيدة كل البعد عن الصور النمطية التي تعود عليها الرأي العام، والتي تكونت من خلال أفلام جيمس بوند الشهيرة. ففي هذه الأفلام تظهر المرأة الجاسوسة دائما مغرية وجذابة ومدركة لقوة أنوثتها، على غرار العميلة ماتا هاري، التي استخدمت سحرها للحصول على معلومات سرية، والعميلة آنّا شيبمان، الحسناء التي تغلغلت في قلب المجتمع الأمريكي لتنفيذ مهام لحساب المخابرات الروسية.
ومن ناحية أخرى، شاركت مارتا دونكان، في الظل، في العديد من المهام الأخرى، المتعلقة بعمليات تسلل داخل الأنظمة الشيوعية في أمريكا اللاتينية، حيث لعبت دور الزوجة التقليدية المزيفة من أجل تجنيد مصادر للمعلومات في هذه الدول. وفي الأثناء، قامت دونكان بتجنيد مهندس من نيكاراغوا كان يعمل لفائدة الاتحاد السوفييتي، وتمت هذه العملية على هامش حفلة كوكتيل أقيمت في إحدى المناسبات. فضلا عن ذلك، نجحت دونكان في التقرب من إحدى النساء المقربات من نظام، فيدل كاسترو، في كوبا. وفي هذا السياق، تقول مارتا وبكل فخر “أنا أعتبر نفسي الدليل الحي على أن عديد العمليات المعقدة نجحت بفضل حضور ومهنية النساء”. وفي الوقت الراهن، ترأس مارتا جمعية أمريكية مناهضة للتمييز الجنسي ضد المرأة في الأجهزة الاستخباراتية.
أسرار تسرّب عبر السماعات المخفية
وتماما مثل مارتا دونكان، هنالك ثمان موظفات سابقات في المخابرات، هن على التوالي “تاتيانا” و”لودميلا” من الكي جي بي الروسية، و”جينيفييف” و”مادلين” من شعبة الاستخبارات الداخلية الفرنسية، و”ستيلا ريمنغتون” من الشعبة الخامسة في الاستخبارات العسكرية البريطانية، و”غابرييل غاست” من المخابرات الفيدرالية الألمانية، بالإضافة إلى “يونا ميندز” من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، و”يولا” من الموساد الإسرائيلي. كل هؤلاء النساء قدمن اعترافات وأسرار، بعضها يكشف للمرة الأولى.
ونقلت هؤلاء الجاسوسات تفاصيل حياتهن في عالم الجوسسة وأسرارهن، حتى يكشفن من خلال هذا التحقيق عن خبايا عالمهن. وفي الأثناء، تسعى الكاتبة من خلال هذا الكتاب الذهاب إلى ما هو أعمق من الصور النمطية والأساطير التي ارتبطت بهذا العالم، والتي تتلخص عموما في فكرة أن الجاسوسة توظف جسدها لإغراء الشخص المستهدف وتضع تحت ثيابها سماعة سرية لنقل كل ما يقوله.
و بخصوص هذا الأمر، أفادت كلوي أبرهارت أنه “لا توجد امرأة واحدة من بين اللواتي قابلتهن اضطرت فعلا لممارسة الجنس للحصول على معلومات، وأعتقد أنه لو طلب منهن ذلك سيرفضن بكل تأكيد. لأن هذا بكل وضوح ليس جزءً من العمل، فضلا عن ذلك، تعتبر هؤلاء النساء أن الذهاب إلى السرير مع رجل من أجل الحصول على معلومات هو تصرف غير مهني ويعد تنازلا غير مقبول. ولهذا فإن كسر هذه الصور النمطية كان من بين الأهداف التي دفعتني لنقل شهاداتهن في هذا الكتاب”.
الحبر السري وصناديق البريد الميتة
في الواقع، وعلى الرغم من أن هذا التحقيق يقطع مع الأساطير والحكايات الخيالية، فإنه يتضمن بعض الحقائق المثيرة وأساليب التجسس التي تستحق فعلا أن يتم تحويلها إلى أفلام أو مسلسلات مشوقة.
ومن بين أكثر القصص تشويقا وإثارة هي تجربة عميلة المخابرات السوفييتية لودميلا، التي كانت بالفعل “مواطنة غامضة” نذرت حياتها من أجل العمل الاستخباراتي. فقد أطلقت لودميلا على نفسها اسما مزيفا، وغيرت جنسيتها، وهاجرت إلى الأرجنتين حيث قضت هنالك سنوات طويلة مع شريكها في هذه المهمة، الذي كان بدوره جاسوسا، وعقدت معه زواجا مزيفا، حتى ينجحا في لعب دور الزوجين الأجنبيين، كعملية تمويه أساسية للعملية الكبرى التي سيقومان بها. وكانت المهمة التي كلفا بها هي الذهاب لاحقا إلى الولايات المتحدة بطريقة لا تثير شك العدو، والتغلغل داخل صفوفه.
وتماما مثلما حصل في المسلسل الأمريكي الشهير “ذي أميريكنز”، كان هذا الثنائي يرسلان المعلومات إلى موسكو في الليل. وفي هذا الصدد، قالت الكاتبة “كل الرسائل المتبادلة بين العميلين وموسكو كانت تتم بطريقة مشفرة، حيث يتم استعمال شبكة من الرموز المعقدة وتتم لاحقا ترجمة كل رمز إلى حرف. وحتى يتمكنا من إرسال مقاطع أفلام إلى مركز العمليات، كان العميلان يستعملان “صناديق البريد الميتة”، حيث يتركان فيها الفيلم مع رسم علامة بالقلم أو حرف معين أو صليب لتنبيه الشخص المسؤول عن التقاط ذلك الفيلم إلى أنهم مروا من هناك، وكان هذان العميلان ملتزمان بعدم التحدث باللغة الروسية في المنزل أو في أي مكان آخر، وحتى ابنتهما لم تكن تعلم أن والداها من أصل روسي، كما لم تشعر أبدا بأنهما جاسوسان”.
وفي المقابل، وبعد أن تم الاشتباه بأمرهما إثر تلقي المخابرات الأمريكية معلومات من عميل آخر انشق عن الاتحاد السوفييتي، تم توقيف هذين الزوجين في الولايات المتحدة أثناء محاولتهما العودة للوطن. وأثناء إيقافهما في أحد المباني بشكل مؤقت نجح الزوجان في الهرب، ولكن لدى عودتهما للاتحاد السوفييتي أصبحا محل شك واتهما بأنه تم تجنيدهما من قبل المخابرات الأمريكية لذلك سمح لهما بالهرب. ونتيجة لذلك، أصدر حكم قاس في حقهما يقضي بمنعهما من النشاط في الحزب الشيوعي أو الدخول إلى العاصمة السوفييتية.
أما بالنسبة للجاسوسة غابرييل غاست، فقد كانت موظفة في شعبة الاستخبارات الداخلية في ألمانيا الغربية، إلا أنه تم تجنيدها من قبل مخابرات ألمانيا الشرقية، وبذلك أصبحت “عميلة مزدوجة”. ومن خلال موقعها الحساس كمحللة للمعلومات ومكلفة بمراقبة الاتحاد السوفييتي، كانت غابرييل تقوم بالنسخ اليدوي لكل الوثائق التي تمر تحت يدها. وكانت تتردد باستمرار على أحد المسابح لتتظاهر بممارسة الرياضة، ولكنها في الواقع كانت تودع كل الوثائق التي قامت بنسخها داخل غرفة تبديل الملابس، قبل أن تسلم المفتاح إلى العميل المكلف بتسلم المعلومات. علاوة على ذلك، كان تبادل المعلومات يتم أيضا من خلال موجة راديو متفق عليها، وفي الحالات القصوى كانت تقوم باستعمال حبر سري لكتابة رسائل حتى لا يكشفها أحد.
ومن ناحية أخرى، تعتبر قصة العميلة الفرنسية مادلين فيرون مليئة بالتشويق والمشاعر. ففي الواقع، كانت فيرون التي بدت للعيان أما لعائلة تقليدية تعيش بطريقة روتينية في موسكو، زوجة ضابط مخابرات فرنسي كلف بتجنيد العقيد الروسي، فلاديمير فيتروف من الكي جي بي، الذي قام بدوره بتسريب معلومات حساسة والآلاف من الوثائق للمخابرات الفرنسية.
والجدير بالذكر أن مادلين كانت طيلة تلك الفترة بمثابة الغطاء المثالي لهذه العملية حتى لا تثار أية شكوك حول حقيقة مساعي الزوجين. وحول حيثيات هذه العملية، أشارت مادلين إلى أنه تم انتدابها من قبل المخابرات الفرنسية وتكليفها بمرافقة زوجها في عدد من المهام الخطيرة، ولعل أبرز هذه المهام كانت تتعلق بإيجاد طريقة للتواصل مع هذا الجنرال السوفييتي. وفي هذا الإطار، أفادت مادلين أنها في إحدى المرات عندما كانت مكلفة بإيصال رسالة خطية إلى الجنرال السوفييتي، انتابتها نوبة من الهلع والألم الشديد في بطنها، حيث كانت خائفة من أن يتم كشف أمرها، خاصة وأن كل الأجانب في ذلك الوقت كانوا محل ريبة، مما دفعها للذهاب أولا إلى السوق، أين ملأت سلتها بالخضر والغلال وأخفت تحتها الوثائق التي كان عليها تمريرها.
رائدات في عالم المخابرات
في الحقيقة، لا تعتبر هؤلاء الجاسوسات أن الأساليب التي عرف بها الرجال مثل استعمال الأسلحة والعنف لتنفيذ المهام هو أمر يدعو للافتخار. وفي الأثناء، تشتكي هؤلاء العميلات من أن هذا الوسط تطغى عليه النزعة الذكورية والتمييز الجنسي والطابع العسكري المحافظ.
ومن هذا المنطلق، تعد هؤلاء النساء رائدات في هذا المجال، إذ نجحن في صعود سلم المناصب في المؤسسات الاستخباراتية وإثبات التزامهن بنفس القدر الذي يظهره الرجال، في كل العمليات النوعية التي يتم تنفيذها، رغم أنهن في البداية دخلن هذا العالم بهدف الاضطلاع بمهام تقليدية وهامشية، مثل مساندة الرجال أو الرقن على الآلات الطابعة.
ولا يمكن أن لا نتطرق لقصة، ستيلا ريمنغتون، التي كانت أول امرأة تترأس الشعبة الخامسة في المخابرات العسكرية البريطانية التابعة لوزارة الداخلية، والتي تبلغ اليوم ثمانين سنة. وتذكر ريمنغتون اليوم الذي أعلن فيه عن تعيينها في منصب مديرة هذه المؤسسة، وحالة الذهول التي اعترت الرجال والإعلام في ذلك الوقت. وفي هذا الصدد، أوردت ريمنغتون “لقد كان الجميع يريدون أن يعرفوا من هذه المرأة التي احتلت موقعا خاصا بالرجال. أن تشغل امرأة، تتمتع بمظهر عادي وتعيش في حي تقليدي وتتصرف بشكل طبيعي، المنصب الأهم في الاستخبارات البريطانية، كان أمرا غريبا للغاية بالنسبة للعامة، مما جعلهم عاجزين عن التفاعل معه”.
وأضافت ريمنغتون “لم يعجب هذا التغيير معظم الرجال، فهم بكل بساطة تعودوا على رؤية زوجاتهم يجلسن في البيت دون عمل، ولذلك لم يفهم ما كنت أقوم به، وتوجب عليا بذل جهد كبير حتى يقبلني زملائي في العمل، وكان عليا أن أنجح وأثبت كفاءتي. وأنا متأكدة من أنني خضعت لاختبارات أكثر من الرجال أثناء ترشحي لهذا المنصب”.
“أن تكون امرأة هو في حد ذاته وسيلة للتمويه”
مؤخرا نشرت تصريحات للمدير السابق للموساد الإسرائيلي، تامير باردو الذي اعتبر أنه “على عكس الأفكار السائدة لدى الكثيرين، فإن النساء هن أكثر موهبة من الرجال فيما يخص فهم الأمور على الميدان، وقراءة الأوضاع بدقة والوعي بالزمان والمكان”.
وخلافا لذلك، وعلى الرغم من أن ستيلا ريمنغتون تعترف بامتلاك النساء للعديد من المزايا والمؤهلات التي يعوزها الرجال مثل القدرة على الاستماع، وإظهار التعاطف، والتعامل بتواضع، وهي كلها مهارات ضرورية لعملاء الاستخبارات للتحرك على الميدان، إلا أنها لا تعتبر أن النساء مؤهلات أكثر من الرجال للقيام بهذا العمل.
ومن جهة أخرى، أوضحت كلوي أبرهارت أن “ما يجمع بين كل هؤلاء النساء هو تمتعهن بحس مدني ووطني قوي، إذ أن جميعهن كانت تحركهن الرغبة في مساعدة بلدانهن، والعمل على تحقيق السلام في سياق دولي كان الجميع فيه موقنا بأن الحرب النووية وشيكة”.
وفي الأثناء فإن كل الجاسوسات اللاتي أدلين بشهادتهن، أجمعن على أنهن كن يمتلكن نقطة قوة مميزة، ألا وهي أنهن كن نساء، حيث ساعدهن ذلك على إبعاد الشبهات. وفي هذا السياق، تساءلت كلوي أبرهارت “من الذي قد يشتبه بامرأة جميلة ورقيقة ترتدي كعب عال وتسير خلف الرجل؟”
وعموما تم استخدام النساء في العمليات الميدانية، ليس لأنهن يمتلكن قدرات تفوق الرجال، ولكن لكونهن نساءً، فقد تمكنت الأجهزة الاستخباراتية من خلالهن من زيادة فرص نجاح عملياتهم واستدراج الشخصيات المستهدفة.
وفي الوقت الراهن، وبسبب غياب أي دراسات أكاديمية مستفيضة حول الدور النسائي في العمليات الاستخباراتية، فإنه لا توجد أي وثائق دقيقة حول تطور هذه المسألة.
وأشارت كلوي أبرهارت إلى أنه “في فرنسا تشير إحصائيات سنة 2015 إلى أن 26 بالمائة فقط من موظفي إدارة الاستخبارات والأمن هم من النساء، وعدد قليل منهن يحتل مناصب هامة. وفي السنة الماضية كانت هنالك امرأة واحدة من بين مديري الأقسام في هذه المؤسسة”.
هذه المادة مترجمة من موقع نوفال أبسرفتور للكاتبة سارة ضيف الله للإطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا