slot dana slot toto toto 4d slot pulsa slot gopay slot ovo slot bet 200 slot bet 100 situs bet 200 situs bet 100 situs slot dana situs slot toto jagung77
ديسمبر 22, 2024

محمد تركي الربيعو: سياسات الشارع والرهان على الذاكرة في الشرق الأوسط

في كتابها المعنون «السوسيولوجيا السياسية المعاصرة»، ترى السوسيولوجية المحاضرة في جامعة لندن كيت ناش، أن أهم إسهام نظري في السوسيولوجيا السياسية الجديدة يبقى بلا ريب هو تعريف فوكو للسلطة بوصفها موجودة في كل مكان، خاصة أن هذا التعريف جاء ليتجاوز الرؤيتين الليبرالية والماركسية في إغفالهما لكيفية عمل السلطة، التي غدت مع فوكو منتجة للأفراد كاشياء وكذوات بطرق مختلفة في الميدان الاجتماعي (المؤسسة العسكرية والمعامل والمدارس والمستشفيات…الخ).

ومع ذلك فقد حصد هذا التعريف الفوكودي للسلطة انتقادات واسعة، كونه أسس لنظرة سلبية للأفراد بوصفهم مالئي أمكنة وليس لديهم أي فرص للمقاومة. وربما هذه الانتقادات تنطبق على كتابات فوكو الأولى التي تطورت لاحقا، بحيث واجهت هذه الاعتراضات عبر النظر لفكرة المقاومة كشيء وثيق الصلة بالسلطة أينما وجدت، وهو الأمر الذي عبر عنه فوكو بالقول «إنه حيث توجد سلطة لا بد من وجود مقاومة». ما أخذ يعني رؤية إيجابية لدور الفئات الخاضعة للسيطرة بدل الرؤية الفيبرية (السلبية) للشعب بوصفه جاهلا ولا مباليا بالسياسة، أو الرؤية الماركسية التي بقيت منحازة لمركزيتها في تعريف الصراع بوصفه صراعا طبقيا، بدون أن تعطي وزنا للحركات الاجتماعية حول العرق والجنس مثلا.

وعلى كل حال ورغم أن هذا التحول في فهم السلطة كان نموه في الفلسفة أكثر منه في السوسيولوجيا، إلا أن نتائجه جرى تلقفها في الحقل السوسيولوجي، رغم اعتراضه بعض الشيء حول هذا التقبل، وذلك بحكم خلفيته الميدانية، وقد ترافق هذا الانفتاح مع بروز الحركة الطلابية في فرنسا 1968، التي رفعت شعار الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الشهير «ينبغي تغيير الحياة. هذه الحياة الرتيبة، التقليدية لم تعد تناسبنا، نريد شيئا آخر غيرها»، وهذا ما كان يعني طرحا وتعريفا جديدا للسياسة باعتبارها شأنا من شؤون الحياة، وظيفتها إفساح المجال للهويات المقموعة للتعبير عن نفسها.. ما أدى بحسب ـ ناش ـ إلى توظيف مفهوم «الحركات الاجتماعية الجديدة» لوصف هذه الحركات التي برزت في ستينيات القرن العشرين (الطلابية والحقوق المدنية والنسوية والبيئية…الخ) التي كانت تتميز بعدد من السمات ومنها:

-غير مرتبطة بحقوق اجتماعية واقتصادية معينة، كما في الحالة الماركسية، بل هي تعكس رغبة في الاحتجاج والتغيير، كما أنها تعتبر نفسها منخرطة في صراعات حول تعريف المعاني وانشاء الهويات الجديدة.

– الأهم من ذلك أن من يقود هذه الحركات هم الناس العاديون، وهي في غالب الأحيان محجوبة وغير مرئية وتقوم على انتهاك كل ما هو معتاد. كما أنها منخرطة دوما في «شجب السلطة» بكافة أشكالها داخل الحياة الاجتماعية، ولذلك فهي غالبا ما تنظر للتجديدات الثقافية التي تحدث في المأكل واللباس والغناء والعلاقات العاطفية بوصفها محاولات لكسر التقليد.

الاستثناء الشرق أوسطي:

رغم ذلك وأمام هذه الرؤية الجديدة للسياسة وللحركات الاجتماعية التي تعيش بشكل غير مرئي، بقي الباحث المحلي في الشرق الأوسط يميل في أغلب الأحيان إلى الاعتماد على الرؤية السوسيولوجية التقليدية في دراسة واقعه المأزوم، وهو ما منعه من رصد هذه الظواهر الاجتماعية الجديدة داخل حياتنا اليومية. كما أن فكرة وجود شرق أوسط له ظروف استثنائية كانت تدغدغ عواطف بعض الرؤى الاستشراقية التي بقيت تميل، إما إلى فكرة «التاريخ البارد» لهذا الجزء من العالم المائل للسكون والحكم الأحادي، أو إلى فكرة أن التغيير يجري عبر النخب الفردية ورجال الجيش والقوى الخارجية. لذلك فغالبا ما تم استبعاد دراسة الشرق الأوسط من منظورات علم الاجتماع الجديد وهو ما تنبهت إليه الباحثة الأمريكية القادمة من حقل العلوم السياسية ليزا وادين، ولاحقا السوسيولوجي الإيراني/الأمريكي آصف بيات.

فقد أظهرت وادين من خلال رسالتها للدكتوراه «السيطرة الغامضة: السياسة والخطاب والرموز في سوريا المعاصرة» التي نشرت بداية باللغة الإنكليزية 1999، وترجمت لاحقا إلى العربية عام 2009 (وللتواريخ هنا دلالات معينة سنأتي على ذكرها)، إن الاشكالية في دراسات الأنظمة السلطوية، هي في بقائها غير قادرة – وربما غير مكترثة- على التمييز بين التظاهر العام بالولاء والتصديق به من ناحية، وبين الولاء والتصديق الحقيقيين. وبالتالي فغالبا ما نظر لظاهرة تقديس الحاكم، والأعمال الثقافية والفنية الساخرة والنكات من هذه الظاهرة بوصفها صمامات أمان، أو «تنفيس» معدة لتأكيد الوضع الراهن، أمام جمهور سلبي بدون أن تكون قادرة على إثارة أي فعل جماعي.

ومن هنا أخذت وادين تسعى إلى تأسيس سوسيولوجيا جديدة للنكتة في سوريا، باعتبارها بقيت «تعمل بشكل فعال كمقاومة لظاهرة تقديس الحاكم، للدرجة التي تمكن الراوين والمستمعين من التغلب على العزلة والتفتيت اللذين تحرض عليهما ممارسات ظاهرة التقديس، حيث يشترك كل من المنكتين والمستمعين بحقيقة التغلب على رقابتهم الذاتية، وبتجاوز المحرمات، ودعوة خطر الإفصاح عن عدم التصديق حتى في الفضاء العام المحدد لأصدقاء الموثوق بهم للشخص في البيوت الخاصة… وبفعلتهم هذه، فإنهم يثيرون المعاني حول ظاهرة تقديس الحاكم: العزلة والتفتيت مقابل المجتمع والتضامن، المبالغة والنفاق مقابل الفهم العام البسيط للشروط القاسية، التعظيم مقابل الرفض والعدائية».

وبرأينا فقد شكل هذا الكتاب مدخلا جديدا لقراءة تاريخ العلاقة بين السلطة والمقاومة في المنطقة العربية، وربما سبقتها دراسات في هذا السياق، لكن تبقى هي الأولى من نوعها، في ما يخص الشأن السوري. والمثير أن هذه الدراسة باتت بمثابة المدخل المعتمد لدراسات جديدة في هذا السياق، وآخرها دراسة المؤرخ البريطاني تشارلز تريب «السلطة والشعب: مسارات المقاومة في الشرق الأوسط»، التي سنتطرق لها لاحقا، كما أن أهميتها بالنسبة لنا تعود إلى ثلاثة أمور:

الأول أن دراسة وادين صدرت تقريبا في السنة نفسها التي نشر فيها المؤرخ الماركسي حنا بطاطو كتابه «فلاحو سوريا»، الذي استمر من خلاله بالسعي إلى تطويع التاريخ ليبقى قائما على ثنائية الريف/المدينة. ولذلك فعند إجراء مقارنة بين رؤية بطاطو ووادين لشكل السلطة والمقاومة في التاريخ السوري المعاصر، يبدو بطاطو منحازا لرؤية سوسيولوجية ماركسية (تقليدية) حيال سوريا، بعكس وادين التي أظهرت ومن خلال دراستها مثلا لدور النكتة في انتهاك السردية الرسمية للسلطة، فهما جديدا للسلطة والسوسيولوجيا السياسية الجديدة.

أما الأمر الثاني فيتعلق برؤية مترجم الكتاب نجيب الغضبان (استاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة اركنسا – الولايات المتحدة وأحد الفاعلين السياسيين اليوم في المعارضة السياسية السورية (ولهذا الامر دلالته)، حيث بدا من خلال تقديمه للكتاب في 2009، أي قبل عامين من أحداث الربيع العربي، غير مكترث كثيرا بالجديد في دراسة وادين، وأعني بذلك مسألة المقاومة الرمزية اليومية للسلطة، وبدلا من ذلك بدا مهتما بالتركيز على الكتاب باعتباره «مادة قد تفسر لهم (المثقفين) بعض جوانب الحكم السلطوي في بلدانهم». ولعل ما يؤكد عدم اهتمامه بهذا البعد الجديد عند وادين هو حديثه اللاحق عن الحراك السوري، حيث حصر المقاومة المجتمعية السورية ببيان الألف وإعلان دمشق وحراك بعض المثقفين والفنانين. وهي رؤية تتناقض مع هدف وادين من الرسالة، كونها جاءت لتقطع مع هذه الرؤية النخبوية للسياسة التي لا ترى الحراك إلا ضمن أطر نخب وأحزاب، وهي مفارقة لها دلالتها (باعتقادنا) كونها تكشف عن رؤية مثال من النخب السياسية الناطقة بالثورات، التي بدت أنها ليست على دراية كافية بهذه المعادلات الجديدة للسلطة والمقاومة، ولذا ظهرت في أحيان عديدة تعالج مسارات الانتقال في الربيع العربي وفق أيديولوجيا «معيارية» بدل اعتماد منهجية بديلة في الحكم.

أما الملاحظة الثالثة فهي تتعلق بالكاتبة، كونها لم تستطع أن ترى المقاومة إلا في الفضاء الرمزي (سينما، مسلسلات، نكتا)، وربما يعود ذلك إلى أن ليزا بقيت أسيرة لمقولة فوكو حول السيطرة التي تتيح للمسيطر وبحسب المعنى الفوكوي فسحة ضيقة للمناورة يكون فيه قلب السلطة غير ممكن عمليا، لكنه ليس بالأمر المستحيل. ولا نقصد هنا محاكمة عمل ليزا في ظل المستحيل الذي عشناه وما نزال، خاصة أنه ليس مطلوبا من السوسيولوجيا السياسية الجديدة أي تنبوءات مستقبلية كونها بالأساس هي حوارية كما يرى زيغمونت باومان، أي بمعنى أن هدفها لم يعد يكمن في الوصول إلى الحقيقة، وإنما إبقاء المحادثة مستمرة عبر الشك الدائم في الاتفاق الجاري وإطلاق المحادثة في اتجاهات جديدة، ولكن الاعتراض هو عدم ملاحظة أشكال المقاومة الأخرى التي كشف عنها آصف بيات بشكل عميق عبر اعتماد تعاريف الحركات الاجتماعية الجديدة.

الزحف الهادىء للمعتاد:

هذه المرة جاء الدرس من المدرسة السوسيولوجية وتحديدا من الباحث الإيراني/الأمريكي آصف بيات، حيث يبدو لنا من خلال تتبعنا للعديد من دراساته التي نشرها بين عامي 2001 و2009 والتي جمعت لاحقا في كتاب بعنوان «الحياة سياسة» بأنه ابن المناخ السوسيولجي الجديد الذي أشرنا إليه في بداية المقال، وهو ما بدا بشكل جلي من خلال حديثه عن سمات ما دعاها بـ»اللاحركات الاجتماعية» في الشرق الأوسط، والتي أخذ يقودها «الناس العاديون» داخل فضاءات السلطة (الشوارع، والأسواق، والميادين) بشكل سلبي. فقد بدى لبيات أن تجار التجزئة الذين يفرشون بضاعتهم في الشوارع، وسكان العشوائيات الذين يحتلون الحدائق العامة ويستولون على الأرض أو الشوارع الخلفية، والشباب الذين يحتلون فضاءات على ناصية الشوارع، والنساء اللواتي يهملن رموز اللباس في الأماكن العامة، كل هؤلاء يتحدون تنظيمات الدولة عبر ممارسات تخلط الانتهاك الصامت لكل ما هو معتاد في الممارسات العادية للحياة اليومية، وهو ما أخذ يؤدي إلى إحداث تغيير اجتماعي كبير وخلق هويات مشتركة جديدة داخل يوميات الشرق الأوسط.

بيد أن المأخذ على رؤية بيات رغم جديتها على المستوى السوسيولوجي، إنه بقي يقدم في دراسته لهذه العلاقة بين السلطة/الحركات اللاجتماعية (المقاومة)، تصورا معينا لممارسة السلطة وكأنها عملية خارجية يمكن أن تكون قادرة على إكراه سلوك المسيطر عليه، بدون أن تتغلغل في وجدانه وعقله.

ولتوضيح هذه المسألة، يمكن الإشارة هنا إلى دراسته «النسوية في الحياة اليومية»، حيث يشير بيات في هذه الدراسة إلى أن النشاطية السياسية للمرأة الإيرانية تتوافق مع ما سماه جيمس سكوت في دراسته «الاقتصاد الأخلاقي للفلاح» بـ»أشكال المقاومة اليومية»، التي وصف من خلالها نضالات الفلاحين الفقراء في جزيرة جاوه في إندونيسيا للتعايش مع تجاوزات الطبقات المسيطرة عن طريق ذلك النوع من الافعال الفردية غير المتفرقة وغير المباشرة مثل الاستقطاب والطاعة الزائفة وتشويه السمعة والتجسس. إذ يرى بيات أنه اذا ما نظرنا إلى حالة المرأة الايرانية من هذا المنظور فإنه يمكن القول إنها تقاوم في ممارساتها اليومية سياسة الدولة التي تقلل من حقوق المرأة.

بيد أن ما لم يتنبه اليه بيات عند اعتماده على دراسة جيمس سكوت، هو أن الفكرة الرئيسية لهذا الكتاب تقوم على أن العوام كانوا قبل انتصار الرأسمالية يتقاسمون أخلاقا قائمة على التبادل المتقابل للهدايا والخدمات واعادة التوزيع في أوقات الحاجة، وأن اعمالهم هذه رغم عشوائيتها فهي تؤهلهم لاعتبارهم قوى تاريخية. ولذلك فان ما يأمل سكوت كشفه في هذا المجال الاجتماعي الصغير (كما أشار إلى ذلك تيموثي ميتشل في سياق قراءته لدراسة سكوت السابقة)، هو أن الأخير غالبا ما يسعى إلى العثور على «مكان لا تخترقه لعبة السلطة، مكان يصبح فيه الخطاب حقيقيا، وهو يبحث عن ذات جماعية هي كاتبة أبنيتها الثقافية وأفعالها، تشكل «بداية» أو نقطة أصالة جنينية.. وتتمثل وسيلة تأكيد كونهم قوى تاريخية في اكتشاف اصالتهم، استقلالهم الاصيل، والنتيجة هي فكرة جوهر مستقل عن التابع، ونظرية عن السلطة تقبل دون تساؤل القطيعة بين المادي والايديولوجي، فهي سلطة تمارس الاكراه وتفرض قيودا على خيارات الناس، لا سلطة تعمل من بين أمور أخرى من خلال خلق حقائق وموضوعات استقلال ظاهري»( تيموثي ميتشل ..المجازات اليومية للسلطة، ص153).

وهو خطأ وقع به بيات كما نعتقد، من خلال تضييق مفهوم السلطة التي مارستها الثورة الاسلامية في ايران 1979 على المجال العام الايراني عبر افتراض ثورة اسلامية مسيطرة مقابل ذهنية ايرانية منفتحة ومسيطر عليها، أي انه افترض نظرية عن السلطة تقبل القطيعة بين المادي (الشارع الايراني) والايديولوجي (الثورة) الذي يمارس الاكراه ويفرض قيودا على خيارات الناس فقط عبر فرض القوانين وقوات الباسيج، دون أي محاولة للكشف عن دور السلطة التي تعمل على ترتيب الأشياء بأسلوب مرهف وغير مرئي» كما يرى فوكو، وهو الأمر الذي بينته باتقان الانثربولوجية الفرنسية اميلي لورنار في سياق دراستها لمسألة الفصل المجالي بين الرجال والنساء في مدينة الرياض، والذي غالبا ما نظر له اما على أنه من معالم تقاليد عريقة أو انه يعبر عن ثقافة وهابية (فرض ايديولوجي سلطوي) في مقابل «مجتمع ما قبل الغزو النجدي» كما لمحت إلى ذلك الأنثربولوجية السعودية مي يماني في كتابها «الهوية الحجازية». وهذا ما رفضته لورنار كونه يهمل السياسات العامة التي وضعتها الدولة السعودية في الستينيات والتي أخذت تبدو بمثابة العامل الغير مرئي او الحيادي لدى جل الباحثين، مع أنها قد تكون العامل الرئيسي الذي أفرز فضاءات عامة مخصصة للرجال وممنوعة عن النساء. ذلك أن اعادة بناء المدينة على نمط المدن الأمريكية حيث الشوارع الرئيسية المشكلة للاحياء السكنية طويلة وتتلاقى باتجاه تقاطعات الطرق الرئيسية، وتعميم نمط الفيلات بين الناس الميسورين بجدران مرتفعة، قد اختلف مع مخطط المدينة العتيقة الذي كان يتميز بأزقته القصيرة وقرب المنازل من بعضها، مما كان يسمح بتجول النساء على اقدامهن بين المنازل، ولكون المدن الجديدة باتت ممتدة جدا وتحتاج للسيارات فان الزيارات العائلية لم تعد تقع فجأة، بل بدأت تقل تدريجيا، وهذا يعني أن التطبيق الصارم للفصل الجنسي اخذ يصدر في الوقت نفسه عن ترتيبات الدولة.

ولعل هذا البعد الذي لا تبدو فيه تقنيات السلطة, هو ما نفتقده في دراسات بيات رغم أن حديثه حول دور اللاحركات قد أثبت نجاعته الاجتماعية كما بدى في احداث الربيع العربي، بيد أنها بقيت كما يرى ساري حنفي في قراءته لعمل بيات «غير قادرة على توفير بديل عن الدكتاتوريات، ولذلك غالبا ما بدى الكتاب مبالغا في تنظير الجانب الاجتماعي ومقل في تنظير الجانب السياسي» (مراجعة في مجلة عمران) وربما ادراك هذا القصور هو ما دفع بيات لاحقا إلى وصف الثورات العربية ب»الاصلاحات الثورية» في ظل بقاء وعودة دوائر النظام القديم للعمل من جديد.

الذاكرة في مقابل السلطة:

مع ذلك يبدو أن هذه الأعمال رغم الملاحظات السابقة ما زالت تطرح عددا من الاسئلة، وخاصة في ظل هذا الواقع الصعب الذي أخذت تعيشه المنطقة بعد خمس سنوات من اندلاع الثورات العربية، وما شهدته من تحولات على المستوى الاجتماعي والسياسي وحتى الديموغرافي.

وهو ما كان محل اجابة في دراسة تشارلز تريب «السلطة والشعب: مسارات المقاومة في الشرق الاوسط» الصادرة قبل ايام معدودة عن الشبكة العربية للابحاث والنشر. اذ يلحظ القارىء أن الكتاب هو عبارة عن تقديم قراءة تاريخية لمسار المقاومة المجتمعية في الشرق الاوسط عبر الاستعانة بالدراسات الجديدة حول السوسيولوجيا السياسية والتي اشرنا اليها سابقا، وهو ما بدى من الصفحات الاولى للمقدمة عبر اعتماد تريب على المنهج الذي اعتمدته ليزا وادين في قراءتها لتاريخ المقاومة الرمزية في سوريا. حيث يرى تريب أن روايات المقاومة والتي يخصص لها ستة فصول في دراسته للتحدث عن كافة أشكالها (العنيفة، الجسدية، الرمزية) داخل الشرق الأوسط، قد تشجع على رؤية اطول تتجاوز المحصلات قصيرة المدى المباشرة لعملية المقاومة. فالحركة التي قد تكون نورت الالاف والهمتهم يمكن أن تعيش في قوة الذاكرة. وهو ما قد يوفر الذخائر للمقاومة الهادفة في المواجهات المستمرة مع السلطة على مدى عقود.

فالرواية والمخيلة الفنية والتاريخية لا تنطوي على تاثير مساعد فحسب، بل لديها القدرة على اخراج الناس من انفسهم وتخيل السلطة على نحو مختلف، وهو ما يشجع الناس على التفكير في السلطة خارج التصنيفات التي يستخدمها النظام القائم. مما يمكن أن يكون غاية في الاهمية من حيث المساعدة في منع المقاومة من أن تصبح مشابهة كثيرا للسلطة حيث أنها بالفعل متشابكة معها بصورة وثيقة إلى درجة أنها في نهاية الحال تقوم باعادة انتاج كثير من أكثر ملامحها القمعية.

ولعل ما يؤكد على رؤية تشارلز تريب حيال الرهان على الذاكرة، هو مضمون الهتافات المناوئة لوزارة الداخلية المصرية التي أطلقها مشجعو «الالتراس الاهلاوي» قبل أيام قليلة في ذكرى تخليد شهداء النادي الأهلي بأحداث بورسعيد، مما دفع برئيس البلاد السيسي والذي كان قد تجاهل مئات الدعوات من قبل الاحزاب والجماعات السياسية إلى أن يقوم بطرح مبادرة للحد من اثار هذه الهتافات الموجهة إلى وزارة الداخلية (الدولة العميقة) عبر محاولة تحويل هذه الفعل الاحتجاجي ضد السلطة المصرية إلى حدث جنائي يتعلق بكشف الملابسات عن الواقعة وذلك خوفا من تكرار دور هذه الحركات في احياء ذاكرة مقاومة السلطة والاحتجاجات لدى الناس العاديين (وخاصة أن الالتراس من خلال هذه الهتافات استطاع توسيع قاعدته الشعبية). وهو ما يعني بأن الذاكرة الاحتجاجية ما تزال تقض مضجع هذه السلطات، وأن احياء هذه الذاكرة بات بمثابة شكل جديد من أشكال المقاومة التي لا بد من تفعيلها في ظل الشتاء الذي تعيشه المنطقة.

المصدر

ضع تعليقاَ