نشرت صحيفة “ألترناتيف هومانيتار” الفرنسية المختصة في دراسة الشأن الإنساني في مختلف أنحاء العالم، بحثا حول “الوضع السوري في ظل صراع القوى”، الذي نُشر بتاريخ 10 آذار/مارس سنة 2017، من قبل الدكتور، سامي عون، أستاذ في معهد العلوم التطبيقية في “جامعة شيربروك” ومدير المرصد الكندي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمركز “راؤول داندوران” للدراسات الإستراتيجية التابع “لجامعة كيبك”.
وأشار عون في هذه الدراسة إلى أن التحدي يكمن أساسا في التوقّع الدقيق للمنحى الذي يتّخذه الوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط، لاسيما في ظلّ التطورات الحاصلة على الأراضي السورية. في واقع الأمر، جمع النّزاع في سوريا بين حرب بالوكالة، وتمرّد على النظام وحرب أهلية. بالإضافة إلى ذلك، اتّسم النزاع بعنف طائفي بين الأوساط السنية العربية من جهة، والأقليات العلوية من جهة أخرى فضلا عن التوتر القائم بين المكونات الحضرية والريفية.
وبغية فهم التغيرات الإستراتيجية والجيوسياسية في سوريا خاصة، والشرق الأوسط عامة، لا بد من إدراك أن النظام في المنطقة حاد عما نصت عليه اتفاقية “كامب ديفيد” سنة 1978 التي جاءت بها الولايات المتحدة على أعقاب طرد خبراء وجنود الإتحاد السوفيتي من مصر. وتجدر الإشارة إلى أن هذا التراجع في الدور الأمريكي مقارنة بفترة السبعينات، كان نتيجة للخيارات التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، التي اعتبرت الشرق الأوسط منطقة أفل نجمها استراتيجيا وجيوسياسيا في ظل تنامي صعود آسيا.
من هذا المنطلق، برز شعار الولايات المتحدة الشهير “تحويل الوجهة نحو الشرق”، وهو ما يفسر تعامل باراك أوباما مع القضية السورية من مبدأ “القيادة من الخلف” أي تجنّب التواجد في الصفوف الأمامية للنزاع، وهو الموقف الذي كان يُنظر إليه على أنه رفع وصاية على الشرق الأوسط من خلال الاستعانة بمصادر خارجية على غرار موسكو.
في الأثناء، تسببت النهاية السريعة “للابتهاج” الذي رافق الربيع العربي في تعزيز خيبة الأمل التي قضت على مطامع التحرر من قبضة الأنظمة الديكتاتورية. نتيجة لذلك، أدّت الأزمة الحاصلة في العديد من البلدان بسبب الأعداد الهائلة للاجئين والمُبعدين عن أوطانهم، فضلا عن العواقب الوخيمة التي طالت التوازنات الديمغرافية، إلى تعميق الهوّة في العلاقات الاجتماعية والثقافية داخل الشعوب المتضررة. علاوة على ذلك، يمكن للأزمة أن تُلقي بظلالها على الولاءات العرقية والطائفية مما يؤجج مشاعر الإقصاء والكراهية ضد الحكومات القائمة والتي تسعى جاهدة لضمان ولاء مواطنيها.
من جهة أخرى، تسجل روسيا عودة قوية إلى صفوف اللعبة في الشرق الأوسط، في أعقاب التدخل الروسي العسكري في أيلول/سبتمبر سنة 2015 بقيادة فلاديمير بوتين، الذي أعلن بكل وضوح عن رغبته في أن يتم الاعتراف بموسكو كشريك فاعل ورئيسي في الشرق الأوسط. بالتالي، يمثل هذا الوضع إحدى التحديات الرئيسية لسياسة دونالد ترامب في المستقبل، الذي سيجد صعوبة في فرض إدارة بلاده لسياستها في المنطقة.
في المقابل، قد تعني العودة الروسية على الساحة أننا سنشهد في المستقبل القريب عودة الثنائية الروسية-الأمريكية في الشرق الأوسط حتى وإن كانت على صعيد محدود، وهو ما يعني تقسيم النفوذ في المنطقة وفرض قيود على توغل القوى الإقليمية المتنافسة على الأراضي السورية. في الأثناء، تشيح القوى العالمية، ومن بينها العربية، بنظرها عن العنف والتقتيل الذي شهدته مدينة حلب عند الاستيلاء عليها من قبل الموالين للنظام والمقاتلين الشيعة. هذا في الوقت الذي يتم فيه تشديد الحماية على العاصمة دمشق، ضد الهجمات الخارجية باعتبارها مقر الحكومة.
في الواقع، قد يُنبأ هذا الحدث بفترة استراحة دائمة أو حتى هدنة مستقبلية وهو ما تتمناه الأطراف المتنازعة. علاوة على ذلك، تمثل صعوبة إخلاء السكان المدنيين إشارة على إعادة التشكيل الديمغرافي الذي يسبق تقسيم الأراضي والروابط بين مكونات المجتمع على أسس عرقية وطائفية. ونتيجة لذلك، يحتاج الشعب السوري بجميع طبقاته الاجتماعية وفي مختلف المناطق إلى التوحد من أجل الخروج من هذه المحنة.
إن الحرب التي قادها ولا يزال يقودها “الوكلاء” عن مختلف القوى في سوريا تبين الإنهاك الذي لحق بجميع الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالنزاع السوري. من جهتها، تنتظر روسيا بفارغ الصبر إبرام اتفاق جديد مع واشنطن لتجنب “الغرق أكثر في مستنقع” الحرب السورية. وحتى ذلك الحين، لن تتوانى موسكو عن إكمال ما بدأت به لسحق أي معارضة للنظام ومن ثم دعوة الثوار، الراغبين في استئناف الحوار الداخلي، إلى طاولة المفاوضات السياسية.
وعلى المستوى الإقليمي، نجح بوتين في الحصول على الشرعية من الدول ذات الأغلبية السنيّة على غرار الجزائر، ومصر، وبالأخص تركيا. كما يبدو أن الوقت قد حان بالنسبة لروسيا لقطف ثمار سياستها حيث سيتم التخفيض أو إنهاء العقوبات المفروضة عليها من الغرب بخصوص الصراع مع أوكرانيا، وتسوية مسألة ضمّها لشبه جزيرة القرم، فضلا عن الاعتراف بعودتها إلى الشرق الأوسط كطرف رئيسي للعبة في ظل الانكماش الأمريكي.
ومن جهتها، تعيش أنقرة على وقع تراجع دورها بعدما كانت بمثابة نموذج ومرجع للربيع العربي فضلا عن حلمها بعودة المجد العثماني. في الأثناء، تسعى تركيا إلى بناء مستقبلها عن طريق إتّباع سياسة ترتكز أساسا على الخطاب والنهج الإسلامي مبتعدة بذلك عن العلمانية. والجدير بالذكر أن أنقرة وجدت نفسها في مواجهة روسيا في الوقت الذي قام فيه أوباما برسم خطوط حمراء أمامها على غرار عدم فرض سيطرتها الحصرية على مناطق في سوريا، وعدم تجنيد الثوار السوريين.
فضلا عن ذلك، يُمنع على القوات التركية تزويد فصائل المعارضة بمضادات للصواريخ والتي من شأنها تغيير موازين القوى مع نظام بشار الأسد، بالإضافة إلى غياب الضوء الأخضر للإطاحة بالنظام باستعمال القوة. ونتيجة لذلك، وجد أردوغان نفسه مجبرا على التصالح مع فلاديمير بوتين لضمان البقاء في سوريا تزامنا مع عقد شراكة جديدة مع إيران تتسم بالهدوء على الرغم من أنها لا تخلو من الهزّات والتردّدات.
أما على الصعيد الداخلي، تعاني تركيا من ثغرات كبيرة على الصعيد الأمني، الأمر الذي ظهر جليا إثر محاولة الانقلاب في تموز/يوليو سنة 2016، وعمليات التطهير التي أعقبت ذلك. في الواقع، يواجه الرئيس التركي أعداء مُعلنين، على سبيل المثال، الأكراد “العدو الأزلي”، فضلا عن اليسار العلماني وجماعة فتح الله غولن. وفي حال تقرّبت تركيا من روسيا، فإن ذلك سيكون بغرض التمكّن من الضغط على الدول الأوروبية والحدّ من الدعم الغربي لأكراد تركيا.
في السياق نفسه، لا بد لنا من تأمّل قوة التحالفات داخل مثلث موسكو-أنقرة-طهران في أعقاب وصول دونالد ترامب على رأس السلطة الأمريكية، حيث أن هذه الأخيرة قد تقدّم دعما كبيرا لتركيا نظرا لأهميتها الجيوسياسية، الأمر الذي سيسمح لأنقرة باستعادة المرونة المفقودة في ظل إدارة أوباما.
من جانبها، تخشى طهران الحاضرة بقوة على الأراضي السورية، “مزاجية” ترامب التي يغلب عليها العداء الموّجه لإيران، ذلك أن الرئيس الأمريكي لم يُخف رغبته في مراجعة أو حتّى إسقاط الاتفاق النووي الذي دعمته إدارة أوباما. في الأثناء، فرضت إيران وجودها بالقوة حينما أخذت على عاتقها تقرير مصير أربعة عواصم عربية وهم بغداد، ودمشق، وصنعاء، وبيروت سعيا منها لإرساء هيمنتها على المنطقة. في هذا الإطار، لم تتوان طهران عن تعزيز قوة المجتمعات الشيعية المحلية.
والجدير بالذكر أن المناورات الإيرانية قد اصطدمت بالتدخل الروسي غير أن ذلك لم يمنع إيران من إعلان فوزها في نقطتين رئيسيتين ألا وهما بقاء الأسد على رأس السلطة والفوز الذي حققته المليشيات الشيعية الموالية لإيران. وبالتالي، لا يبدو أن الإيرانيين على استعداد لمغادرة سوريا دون عقد اتفاق يقضي بحماية نظام الأسد والعلويين والشيعة على حد سواء.
بالعودة إلى معركة الأتراك التقليدية ضد الأكراد، تخشى أنقرة تفرّد أكراد سوريا بحكم ذاتي، مما سيمهّد الطريق أمام أكراد تركيا لخلق منصّة يستخدمونها لشن هجمات تستهدف المصالح التركية. ونتيجة لذلك، حوّلت أنقرة موقفها المعادي للنظام السوري إلى موقف الوسيط بين موسكو وفصائل المعارضة. وعلى الرغم من التقدّم الواضح للقوات الكردية على الأراضي السورية، في ظل الدعم الأمريكي، والروسي، والإيراني، إلا أن التوازن الديموغرافي لا يصب في صالح الأكراد الذين يمثّلون أقلية وبالتالي تُعتبر حظوظهم ضعيفة في إنشاء دولة خاصة بهم.
في الحقيقة، بيّنت الهيمنة التي يفرضها الشركاء الثلاثة، أي طهران وأنقرة وموسكو، على الوضع السوري، حجم الانهيار الذي لحق العالم العربي. فالمملكة العربية السعودية، التي خاب أملها في إدارة ترامب، فضّلت التزام الحذر تجاه الرئيس الروسي وسياسته المُتّبعة في سوريا، فضلا عن أن الرياض تتوقع من موسكو وضع حدّ للطموحات الإيرانية. في الأثناء، لا تزال روسيا تمثل تهديدا أقل بالنسبة للرياض وذلك مقارنة بإيران التي تحمل أجندات طائفية ومذهبية لا تستسيغها السعودية. بالتالي، تتابع السعودية مراقبتها الحذرة للوضع في المنطقة عاقدة آمالها على الثنائي التركي-الروسي فضلا عن التقارب الأمريكي-الروسي لوقف زحف المليشيات الشيعية وتقليص دورها في سوريا.
من جانبها، تبذل مصر، المؤيدة للنظام السوري، جهودها لمواجهة أي صعود للإسلاميين في سوريا وليبيا، فضلا عن اشتباهها في طموحات الأتراك الداعمين لجماعة الإخوان. أما الحكومة الإسرائيلية، وعلى الرغم من تلقّيها المساعدة العسكرية من إدارة أوباما، إلا أنها لم تُخف امتعاضها من الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران، فضلا عن امتناع الولايات المتحدة عن استعمال “الفيتو” ضد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 2334 القاضي بوضع نهاية لإنشاء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية.
في المقابل، لم تُبد تل أبيب قلقها إزاء تواجد روسيا في سوريا حيث أن بوتين نجح في تهدئة الأوضاع بين الإسرائيليين وحزب الله، من خلال تقسيم مناطق التأثير، وهو الأمر الذي يضمن لإسرائيل حق الهجوم على الأراضي السورية دون أن يتمكن حزب الله من ردّ الفعل. علاوة على ذلك، لا تمانع إسرائيل بقاء بشار الأسد على رأس السلطة حيث أنه الضامن لحماية حدودها مع سوريا من الإسلاميين.
أما على الأراضي السورية، فتمسّك الأسد بالحكم يبدو أمرا مناسبا للجميع بما فيهم النظام السوري الذي يشعر أنه قد ضمن بقاءه، نظرا للدعم الذي يتلقاه من روسيا وإيران، وذلك على الرغم من كلفة هذا البقاء. وفي حال أمر الرئيس ترامب، بموافقة بوتين، بإنشاء مناطق معزولة في سوريا، فسيكون ذلك مؤشرا على بداية تقسيم البلاد.
في المقابل، سوف تتأكد تركيا من بناء حدود عازلة في وجه الأكراد، وذلك على طول منطقة الباب أي على مساحة تبلغ 900 كيلومترا مربعا، وفق أهداف عملية درع الفرات. من ناحية أخرى، يتوقف مستقبل حزب الله في المنطقة على التطورات الإستراتيجية الإيرانية التي تسعى لضمان وجود قوي في منطقة البحر الأبيض المتوسط. غير أن روسيا، بدعم من تركيا، قادرة على أن تدفع بالمليشيات الشيعية إلى الانسحاب، مقابل ضغط أنقرة على الفصائل السنية من أجل قبول استمرار ولاية الأسد والالتزام بوقف إطلاق النار.
من جهتها، تشهد السياسة الروسية نشاطا هائلا في الآونة الأخيرة، منذ إعلان موسكو في 20 كانون الأول/ديسمبر، عن جدول زمني من أجل التوصل إلى حل سياسي، يقضي بانتهاء العمليات العسكرية الإيرانية وقبول تركيا لبقاء الأسد إلى غاية 2021. بالإضافة إلى ذلك، تسعى الأطراف الراعية للحوار إلى جمع المعارضة السورية والنظام حول طاولة الحوار مع التأكيد على ضرورة وقف إطلاق النار.
وبعد مرور ست سنوات على بدايتها، كشفت الحرب في سوريا النقاب عن هشاشة الحداثة والديمقراطية الليبرالية. فضلا عن ذلك، أدى الانشقاق بين قوات المعارضة وقياداتها العسكرية إلى تراجع الفصائل المعتدلة وفقدانها للمصداقية في ظل صعود الجماعات الإرهابية المتطرفة.
هذه المادة مترجمة من ألترناتيف هومانيتار للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا