لتحميل كامل الترجمة بهيئة ملف (PDF)
قبل عدة أشهر من نهاية ولايته الرئاسية ومغادرته البيت الأبيض، أدلى الرئيس الأميركي باراك أوباما بسلسلة مقابلات للصحافي الأميركي في صحيفة «ذي اتلانتيك» جيفري غولدبرغ المؤيد لإسرائيل أظهر فيها القصة الحقيقية لموقف أوباما من العديد من القضايا التي واجهت العالم ومنطقة الشرق الأوسط وهاجم فيها دولاً ذات دور محوري مثل السعودية وشخصيات مهمة مثل الرئيس أردوغان.
ودرج أوباما في ربيع كل عام في شهر مارس، على منح غولدبرغ مقابلة تتسم عادة بالصراحة.
في هذا العام(2016)، حصل غولدبرغ على عدة مقابلات، إذ سمح له أن يزور البيت الأبيض أكثر من مرة، وأن يرافقه في الطائرة الرئاسية إلى كوالالمبور، وأن يلتقي مع كبار مسؤولي أوباما، بمن فيهم وزير خارجيته جون كيري، ومستشارة الأمن القومي سوزان رايس، ورئيس «وكالة الاستخبارات المركزية» (سي آي اي) جون برينان.
ولكن بدلاً من أن ينشر غولدبرغ المقابلة على شكل سؤال وجواب مع أوباما، نشر مقالة مطولة جاءت بمثابة مراجعة كاملة وعميقة لسياسة الرئيس الأميركي الخارجية، وحملت عنوان «عقيدة أوباما».
وقد أثارت هذه المقالة الكثير من الجدل، بسبب المواقف التي أظهرتها عن السياسة الخارجية للرئيس الأميركي إزاء قضايا عدة وعلى رأسها ملفات الشرق الأوسط، مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وسوريا، والعلاقات الأميركية مع دول الخليج وغيرها. وحمل فيها أوباما كل فشل أو كارثة حول العالم للآخرين.
ولعل أبرز ما جاء فيها هو حديثه التدخل العسكري الأمريكي في سوريا، حيث قال: “إنني فخور جدا بهذه اللحظة، لقد ذهب عني العبء الثقيل للحكمة التقليدية وآلية أجهزة أمننا الوطني. إن فكرة تعرض مصداقيتي للخطر، وأن مصداقية أمريكا كانت على المحك. ولذا كان علي أن أضغط على زر التوقف في تلك اللحظة، كنت أعرف أن هذا سيكلفني سياسيا. وحقيقة أنني كنت قادراً على التراجع بعيدًا عن الضغوط المباشرة والتفكير في مصلحة أمريكا، وليس فقط في ما يتعلق بسوريا ولكن أيضا فيما يتعلق بديمقراطيتنا، كان أصعب قرار اتخذته، وأعتقد أنه كان في نهاية المطاف قراراً صحيحاً”.
لاشك أن الكثيرين لم يعجبهم ما جاء في المقابلة، ولكن البعض وبدل العمل على تقييم ما جاء فيها، عمل على إلقاء اللوم على هوية الصحفي الذي أجرى المقابلة (جيفري غولدبيرغ) واستحضر ارتباطه باللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، بينما حاول آخرون الرد على ما جاء فيها ونقد نظرة أوباما إلى العالم وإلى الشرق الأوسط تحديداً.
أما المدافعون عنها فيعتبرون عقيدة أوباما نهجاً أكثر فاعلية وحكمة من أي نهج آخر خصوصاً أنه حقق العديد من الانجازات بأقل تكلفة متوقعة بالنسبة للمواطن الأمريكي.
مع ذلك تعد هذه المقابلة من أهم ما يجب الإطلاع عليه حول السياسة الدولية، وعقيدة – أو عقدة – تعامل الولايات المتحدة في سياستها الخارجية مع القضايا المختلفة حول العالم.
في الأسطر التالية الترجمة الكاملة لهذه المقالة…
عقيدة أوباما
يوم الجمعة، ٣٠ آب/ أغسطس ٢٠١٣، اليوم الذي أعلن فيه الرئيس العاجز باراك أوباما النهاية المبكرة لعهد أمريكا كقوة عظمى وحيدة في العام، أو، بشكل آخر، اليوم الذي نظر به باراك أوباما الحكيم في هاوية الشرق الأوسط، وتراجع من الفوضى المستهلكة، بدأ بخطاب ناري ألقاه بالنيابة عن أوباما وزير خارجيته جون كيري، في العاصمة الأمريكية واشنطن. كان موضوع خطاب كيري، الشبيه بخطابات تشيرشل، هو قصف المدنيين بالغازات الكيميائية على يد رئيس النظام السوري بشار الأسد.
أوباما، الذي يخدمه كيري بإخلاص مع بعض السخط أحيانا، مرتبط بخطاب متماسك ومرتفع، وإن لم يكن ذات الخطاب العسكري المرتبط بتشيرشل، إذ أن أوباما يعتقد أن المانوية، أو العدائية الحادة المشكلة ببلاغة، والمرتبطة عادة بتشيرشل، كانت بسبب صعود هتلر، وكانت أحيانا دفاعية أمام الاتحاد السوفييتي، لكنه يعتقد كذلك أن الخطاب يجب أن يكون مدعوما بالسلاح باعتدال، خصوصا في المجال الدولي المعقد والمبهم الذي نعيشه اليوم.
يعتقد الرئيس أن الخطاب التشيرشلي، والأهم، التفكير التشيرشلي، هو الذي أخذ سلفه الرئيس الأمريكي جورج بوش نحو الحرب المدمرة في العراق، أما هو فدخل البيت الأبيض على أساس الخروج من العراق وأفغانستان، ولم يكن يبحث عن تنانين جديدة ليواجهها، وكان مهتما بانتصارات واعدة في صراعات اعتقد أنها غير قابلة للربح، إذ أخبرني بين رودز، نائب مستشاره لشؤون الأمن القومي، وأمين سره للسياسة الخارجية: “إذا قلت، مثلا، أننا سنخلص أفغانستان من طالبان ونبني ديمقراطية مناسبة مكانها، فإن الرئيس واعٍ أن شخصا ما، بعد سبع سنوات، سيحاسبك على هذا الوعد”.
لكن ملاحظات كيري في ذلك اليوم من أغسطس، والتي صاغ رودز جزءاً من مسودتها، تخللها غضب محق ووعود كبيرة، بما فيها التهديد الصريح بالهجوم القريب. كيري، مثل أوباما، كان خائفا من الخطايا التي يرتكبها النظام السوري ضمن محاولاته لإخماد الثورة التي كان عمرها عامين. في غوطة دمشق، قبل ذلك بتسعة أيام، قتل جيش الأسد أكثر من ١٤٠٠ شخص بغاز السارين. كان الرأي القوي داخل إداراة أوباما هو أن الأسد يستحق عقابا أليما. في اجتماعات “غرفة الأوضاع” التي تبعت هجوم الغوطة، كان رئيس عمال البيت الأبيض دينيس مكدونوج، هو الوحيد الذي حذر علانية من تبعات التدخل، وحتى جون كيري نفسه دعا للتدخل.
قال كيري في خطابه “كما اجتمعت العواصف الماضية في التاريخ؛ عندما تحصل جرائم واضحة ضمن قدرتنا على تغييرها، فإننا تلقينا تحذيرات من إغراءات النظر لجهة أخرى”، مضيفا أن “التاريخ مليء بالزعماء الذين حذروا من عدم التصرف، واللامبالاة، وخصوصا من الصمت عندما يكون الأخطر”.
كيري عد الرئيس أوباما واحدا من هؤلاء الرؤساء، وبعد عام من ذلك الخطاب، عندما شكت الإدارة بأن نظام الأسد كان مستمرا باستخدام الأسلحة الكيماوية، أعلن أوباما: “نحن كنا واضحين مع نظام الأسد أن رؤيتنا لنقل أو استخدام الأسحلة الكيماوية خط أحمر بالنسبة لنا، قد يغير حساباتي، وقد يغير معادلتي”.
وبالرغم من هذا التهديد، فإن أوباما بدا لعديد من النقاد غير مبال بمعاناة السوريين الأبرياء، ففي وقت مؤخر من صيف ٢٠١١، دعا أوباما لرحيل الأسد: “لأجل الشعب السوري، حان وقت تنحي الأسد”، دون أن يفعل شيئا ليقرب نهاية الأسد.
أوباما قاوم المطالب بالتحرك لأنه افترض، بناء على تحليلات المخابرات الأمريكية، أن الأسد سيسقط دون مساعدته، إذ أخبرني، دينيس روس، مستشار الشرق الأوسط السابق لأوباما، أن أوباما “اعتقد أن الأسد سيرحل مثلما ذهب مبارك”، بإشارة إلى التنحي السريع للرئيس المصري باراك أوباما بداية ٢٠١١، في اللحظة التي مثلت ذروة الربيع العربي. إلا أن تمسك الأسد بالسلطة لم تزد إلا رفض أوباما للتدخل المباشر. بعد عدة شهور من التشاور، أعطى أوباما المخابرات الأمريكية الصلاحيات لتدريب وتمويل الثوار السوريين، لكنه تشارك مع توقعات وزير دفاع حكومته السابق روبرت جيتس، الذي كان يسأل بشكل دوري بالاجتماعات: “أليس علينا أن ننهي الحربين اللتان نخوضهما قبل أن نبحث عن أخرى؟”.
سفيرة الولايات المتحدة الحالية للأمم المتحدة، سامنثا باور، التي تعتبر الأكثر ميلا للتدخل من بين مستشاري أوباما الكبار، طالبت مبكرا بتسليح الثوار السوريين، والتي كتبت أثناء عملها ضمن “فريق استشارات الأمن القومي” كتابا يقسو على الرؤساء الأمريكيين لفشلهم بالتدخل لمنع المذبحة، بعنوان “مشكلة من الجحيم”، وأصدر عام ٢٠٠٢، وأوصل الرئيس أوباما للسلطة عندما كان في مجلس الشيوخ الأمريكي، رغم عدم التوافق الأيديولوجي الكبير بينه وبين باور، وهي معروفة بأنها مؤمنة بالعقيدة المعروفة بـ “مسؤولية الحماية”، التي تعتبر أن السيادة لا يجب أن تعد منتهكة عندما يذبح بلد ما شعبه، وضغطت على أوباما ليؤيد هذه العقيدة في الخطاب الذي ألقاه عندما استلم جائزة نوبل للسلام في ٢٠٠٩، لكنه أنكر ذلك. أوباما، بشكل عام، لا يعتقد أن الرئيس يجب أن يعرض الجنود الأمريكيين للخطر لمنع الكوارث الإنسانية، ما لم تكن هذه الكوارث تشكل خطرا مباشرا على الولايات المتحدة.
باور، وفي بعض الأحيان، جادلت أوباما أمام مسؤولي “مجلس الأمن القومي” إلى مرحلة لم يعد يستطيع إخفاء غضبه بها، قائلا في إحدى المرات: “سامنثا، يكفي. لقد قرأت كتابك”.
أوباما، بعكس التدخليين الليبراليين، أحد المحتفين بواقعية السياسة الخارجية للرئيس جورج بوش الأب، وتحديدا مستشاره للأمن القومي برينت سكوكروفت (أوباما قال لي مرة: “أنا أحب هذا الرجل”). بوش وسكوكروفت أخرجا جيش صدام حسين من الكويت عام ١٩٩١، واستطاعا تفكيك الاتحاد السوفييتي، كما هاجم سكوكروفت، نيابة عن بوش، زعماء الصين بعد مجزرة ميدان تيانانمين. وبينما كان أوباما يكتب بيان حملته الانتخابية “جرأة الأمل” عام ٢٠٠٦، شعرت سوزان رايس، المستشارة غير الرسمية حينها، أنه من الضروري تذكيره بتضمين سطر واحد على الأقل احتفاء بالسياسة الخارجية للرئيس بيل كلينتون، لموازنة الاحتفاء الذي أظهره لبوش وسكوكروفت.
عند اندلاع الانتفاضة السورية، بداية ٢٠١١، جادلت باور أن الثوار، الذين خرجوا من صفوف الشعب السوري، يستحقون الدعم الأمريكي الواضح، بينما أشار آخرون إلى أن الثوار كانوا مزارعين وأطباء ونجارين، مقارنين هؤلاء الثوار بالرجال الذين انتصروا بحرب استقلال أمريكا.
أوباما قلب الفكرة برأسه، وقال لي مرة: “عندما يكون لك جيش محترف، مسلح جيدا ومدعوم من دولتين كبيرتين – إيران وروسيا – ولديهما رهانات كبيرة على ذلك، ويقاتلون ضد مزارع ونجار ومهندس بدؤوا كمتظاهرين، ثم رأوا أنفسهم في معمعة صراع أهلي”، مضيفا بعد صمت قليل: “فإن المفهوم الذي سنحصل عليه – بطريقة نظيفة لا تلزم القوات المسلحة الأمريكية – غيرت المعادلة على الأرض، لم تكن صحيحة إطلاقا”. الرسالة التي أوصلها أوباما في خطاباته ومقابلاته كانت واضحة: لن ينتهي مثل الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، الذي توسع بشكل مأساوي ومبالغ به في الشرق الأوسط، وملأت قراراته عنابر مستشفى “والتر ريد” العسكري بالجنود المصابين، وكان عاجزا عن إيقاف طمس سمعته، حتى عندما أعاد مواززنة قراراته في فترة حكمه الثاني. أوباما سيقول بشكل خاص أن المهمة الأولى لأي رئيس أمريكي في المجال الدولي بعد فترة بوش: “لا تكن أحمقا”.
تحفظ أوباما أغضب باور والآخرين في فريق الأمن القومي خاصته، الذي كان يرجو التدخل. هيلاري كلينتون، عندما كانت وزيرة خارجية أوباما، طالبت برد مبكر وحازم لعنف الأسد. في ٢٠١٤، بعد أن تركت الحكومة، أخبرتني كلينتون أن “الفشل ببناء قوة مقاتلة موثوقة من الشعب الذين كانوا من أطلق المظاهرات ضد الأسد، ترك فراغا كبيرا ملأه الجهاديون الآن”. عندما نشرت “أتلانتك” هذا التصريح، وتقييم كلينتون بأن “الأمم العظمة تحتاج مبادئ ناظمة، ليس من بينها (لا تقم بأشياء غبية)”، غضب أوباما بشكل جنوني، بحسب أحد مستشاريه الكبار. لم يفهم الرئيس كيف يمكن أن تكون قاعدة “لا تكن أحمقا” شعارا جدليا. بين رودز يستذكر أن “الأسئلة التي كنا نسألها في البيت الأبيض كانت: من يقف تحديدا في جوقة الحمق؟ من الداعم للحمق؟”. احتلال العراق، بحسب ما يعتقد أوباما، كان يجب أن يعلم التدخليين الديمقراطيين مثل كلينتون، الذين صوتوا بإجازة العملية، مخاطر الحمق. (كلينتون اعتذرت سريعا لأوباما عن تعليقاتها، وأعلن الناطق الرسمي باسم كلينتون أن كليهما تجاوزا الموضوع على شارع مارثا عندما تقاطعا هناك).
مثلت سوريا، بالنسبة لأوباما، منحدرا خطيرا مثل منحدر العراق. في فترته الأولى، وصل لقناعة أن عددا محدودا من التهديدات في الشرق الأوسط تتطلب تدخلا عسكريا أمريكيا مباشرا، بما في ذلك تنظيم القاعدة، تهديدات وجود إسرائيل (أخبرني مرة “سيكون سقوطا أخلاقيا بالنسبة لي كرئيس للولايات المتحدة أن لا أحمي إسرائيل”)، وغير بعيد عن أمن إسرائيل: تهديد إيران المسلحة نوويا. خطر نظام الأسد على الولايات المتحدة لم يرق إلى هذه الدرجة.
بالنظر لرفض أوباما للتدخل، فإن الخط الأحمر الواضح الذي رسمه للأسد في صيف ٢٠١٢ كان صادما، حتى لمستشاريه، إذ قال لي وزير دفاعه، حينها، ليون بنيتا: “لم أكن أعلم أن هذا سيحصل”، كما تم إبلاغي أن نائب أوباما جو بايدن حذره مرارا من رسم خط أحمر على الاسلحة الكيماوية، خشية أن يأتي يوم يضطر به فرضه بالقوة.
كيري، في خطابه، في ٣٠ آب/ أغسطس ٢٠١٣، اقترح أن الأسد يجب أن يعاقب جزئيا لأن “مصداقية ومستقبل مصالح الولايات المتحدة وحلفائها كانت على المحك”، مضيفا أن “هذا مرتبط مباشرة بمصداقيتنا وتصديق الدول الأخرى للولايات المتحدة عندما تقول شيئا. هم يشاهدون ما إذا كانت سوريا ستنسحب من هذا، لأنهم ربما يستطيعون كذلك وضع العالم بخطر أكبر”.
بعد تسعين دقيقة من الخطاب، في البيت الأبيض، عزز أوباما رسالة كيري في بيان عام: “من المهم الاعتراف بأنه عندما يقتل ١٠٠٠ شخص، من بينهم مئات الأطفال البريئين، عبر استخدام السلاح الذي يقول ٩٨ أو ٩٩ بالمئة من العالم أنه لا يجب استخدامه في الحرب، ولا يكون هناك رد، فنحن نرسل رسالة بأن التطبيع العالمي لا يعني شيئا، وهذا يمثل خطرا لأمننا القومي”.
بدا أن أوباما وصل لخلاصة مفادها أن تشوه مصداقية أمريكا في منطقة ما من العالم سينحدر لغيرها، وأن مصداقية الولايات المتحدة المتماسكة كانت فعلا على المحك في سوريا. أما الأسد، فيبدو أنه نجح بدفع الرئيس إلى مساحة لم يعتقد أنه سيذهب لها. أوباما يعتقد بشكل عام أن مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن، التي يزدريها بشكل سري، تعبد “المصداقية”، وتحديدا المصداقية التي ترافقها القوة، وهذا ما أدى لفيتنام عبر حماية المصداقية، بحسب قوله. داخل البيت الأبيض، أوباما يناقش أن “إسقاط القنابل على شخص ما لأنك تريد إثبات أنك تريد إسقاط القنابل على شخص ما، هو أسوأ سبب لاستخدام القوة”.
مصداقية الأمن القومي الأمريكية، كما تفهم في البنتاغون، ووزارة الخارجية، ومراكز الأبحاث الواقعة على مرمى حجر من البيت الأبيض، سلاح معنوي قوي، عندما يستخدم بشكل صحيح، يحافظ على شعور أصدقاء أمريكا بالأمن، ويبقي النظام العالمي متماسكا.
في اجتماعات الأبيض في ذلك الأسبوع المفصلي، بايدن، الذي يشارك أوباما بشكل كبير بقلقه من التوسع الأمريكي، ناقش بشدة أن “الدول الكبرى لا تخادع”. أقرب حلفاء أمريكا في أوروبا وعبر الشرق الأوسط اعتقدت أن أوباما كان يهدد بالعمل العسكري، وحتى مستشاروه اعتقدوا ذلك. في مؤتمر مشترك مع أوباما في البيت الأبيض، في أيار/ مايو، الذي سبق ذلك الاجتماع، قال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إن “تاريخ سوريا يكتب بدماء شعبها، وهذا يحصل على مرأى منا”، في تصريح كان يهدف لتشجيع أوباما لأخذ إجراء أكثر حزما، بحسب أحد مستشاري كاميرون، الذي قال لي إن “رئيس الوزراء كان يشعر أن الرئيس أوباما يجب أن يفرض الخط الأحمر”. سفير السعودية في واشنطن، في ذلك الحين، عادل الجبير، قال لأصدقائه ومسؤوليه في الرياض أن الرئيس كان مستعدا أخيرا ليضرب، قائلا إن “أوباما شعر أهمية ذلك”، كما أكد الجبير، الذي أصبح الآن وزير خارجية السعودية، أن “أوباما سيضرب بلا شك”.
وبالفعل، أمر أوباما البنتاغون بإعداد قائمة أهداف، وكانت خمسة مدمرات أمريكا من نوع “أرلي بورك” في البحر المتوسط مستعدة لإطلاق صواريخ عابرة للقارات على مواقع النظام، كما كان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، أكثر المتحمسين للتدخل من بين زعماء أوروبا، يستعد للضرب كذلك. وطوال الأسبوع، أظهر مسؤولو البيت الأبيض بشكل علني أن الأسد ارتكب جريمة ضد الإنسانية، ليمثل خطاب كيري ذروة هذه الحملة.
لكن الرئيس بدأ يشعر بالتوجس، فبعد الأيام التي تبعت قصف الغوطة بالكيماوي، سيقول لي أوباما لاحقا، إنه وجد نفسه يتراجع عن فكرة هجوم غير مدعوم بقرار دولي أو من الكونجرس. الشعب الأمريكي بدى غير متعاطف مع التدخل في روسيا، وكذلك واحد من الزعماء القلة الذين يحترمهم أوباما، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي أخبرته أن بلده لن تشارك في حملة سوريا. وبتطور مذهل، الخميس، ٢٩ آب/ أغسطس، نفى البرلمان البريطاني مباركته لأي هجوم، وأخبرني كيري عندما سمع ذلك: “بيني وبين نفسي، لقد أخطأنا”.
أوباما تشوش كذلك من زيارة مفاجئة في وقت مبكر ذلك الأسبوع، قام بها جيمس كلابر، مدير المخابرات الوطنية، الذي قاطع الملخص اليومي للرئيس، تقرير التهديدات اليومي الذي يستقبله أوباما كل صباح من محللي كلابر، ليوضح تماما أن المعلومات الاستخبارية حول استخدام سوريا لغاز السارين، مع كونها متماسكة، إلا أنها لم تكن “سلام دانك (أي مؤكدة بشكل جازم)”. كلابر، رئيس مجتمع المخابرات المسكون بالفشل الذي سبق حرب العراق، لم يكن سيعطي وعودا، على شاكلة رئيس جهاز الاستخبارات المركزي جورج تينيت، الذي ضمن لجورج بوش “سلام دانك” في العراق.
وبينما كان البينتاغون وأجهزة الأمن القومية في البيت الأبيض تتحرك نحو الحرب (جون كيري أخبرني أنه كان يتوقع ضربة في اليوم الذي سبق الخطاب)، وصل الرئيس لقناعة أنه كان يسير نحو فخ، أعده له حلفائه وخصومه، وبالتوقعات التقليدية لما يجب على أي رئيس أمريكي القيام به.
العديد من مستشاري الرئيس لم يدركوا عمق شكوكه، وحكومته وحلفائه لم يكونوا على علم بها، لكنها كانت تتنامى. مساء الجامعة، أعلن أوباما أنه ببساطة غير مستعد لتفويض ضربة، وطلب من مكدونوج، رئيس عمال البيت الأبيض، أن يسير معه على الجانب الجنوبي للبيت الأبيض. لم يختر أوباما مكدونوج عبثا، فهو أكثر مساعدي أوباما عداء للتدخل العسكري الأمريكي، وشخص، بكلمات أحد زملائه، “يفكر بطريقة الفخوخ”. أوباما، الواثق بنفسه بشكل غير طبيعي عادة، كان يبحث عن تأكيد، ويحاول إيجاد طرق يفسر بها تغير رأيه، سواء لمساعدين أو للرأي العام. ظل مكدونوج وأوباما خارجا لمدة ساعة، وأخبره أوباما أنه كان قلقا من أن يستخدم الأسد المدنيين كـ “دروع بشرية” حول الأهداف الواضحة، كما أشار إلى فجوة كامنة في الضربات المقترحة: الصواريخ الأمريكية لن تطلق على المواقع الكيميائية، خشية أن تبعث غازات سامة في الجو، لكنها ستستهدف المواقع العسكرية التي استلمت هذه الأسلحة، لا الأسلحة نفسها.
أوباما شارك مع مكدوج استياء قديما لديه: لقد تعب من مشاهدة واشنطن تنجرف بشكل غير محسوب نحو البلدان المسلمة. قبل أربع سنوات، اعتقد الرئيس أن البنتاجون “جره” نحو تعزيز الجنود في أفغانستان، وهو يشعر أنه يجر مجددا.
عندما عاد الرجلان للمكتب البيضاوي، أخبر الرئيس مساعديه أنه يخطط للتراجع، ولن يكون هناك هجوم في اليوم التالي، لأنه يريد الرجوع للكونجرس لإجراء تصويت. المساعدون في الغرفة كانوا مصدومين. سوزان رايس، مستشارة أوباما لشؤون الأمن القومي الآن، ناقشت أن الدمار الذي سيصيب مصداقية أمريكا سيكون كبيراً وطويلاً، فيما فهم الآخرون بصعوبة شديدة كيف يمكن أن يراجع الرئيس نفسه في اليوم الذي يسبق ضربة مخططة. أوباما كان هادئا تماما، إذ أخبرني رودز “إذا كنت قريبا منه، يمكن أن تعرف كيف يكون متردداً حول شيء ما، عندما تتقارب نسب الدعم له، لكنه كان مرتاحا تماما”.
قبل مدة ليست بالطويلة، طلبت من أوباما أن يصف شعوره في ذلك اليوم، فسرد لي المخاوف العملية التي انتابته:
“كان هناك محققون من الأمم المتحدة على الأرض يكملون عملهم، ولم نستطع المخاطرة بإجراء ضربة وهم هناك.
العامل الثاني الكبير هو فشل كاميرون بالحصول على موافقة برلمانه”.
العامل الثالث، والأكثر أهمية، بحسب ما أخبرني هو أن “تقييمنا كان أننا بينما نستطيع تحقيق بعض الدمار للأسد، فإننا لن نتمكن عبر هجوم صاروخي، من إنهاء الأسلحة الكيميائية نفسها، وما سأواجهه حينها هو ظهور هرب الأسد من الضربة، وادعاءه أنه هزم أمريكا، وأن الولايات المتحدة تحركت بشكل غير قانوني بغياب تفويض أممي، وهذا سيقويه بدل أن يضعفه”.
أما العامل الرابع، كان ذا أهمية فلسفية أعمق: “هذا يأتي في سياق شيء كان يؤرقني من فترة، وهو أنني استلمت السلطة باعتقاد قوي أن مدى القوة التنفيذية في قضايا الأمن القومي كبير جدا، لكنه ليس بلا حد”.
أوباما كان يعلم أن قراره بعدم قصف سوريا سيغضب حلفاء أمريكا، وقد فعل، إذ أخبرني رئيس وزراء فرنسا مانويل فالس أن حكومته كانت قلقة من تبعات عدم التدخل المبكر في سوريا عندما ظهرت كلمة “التنحي”، فقد أخبرني فالس: “عندما لم نتدخل مبكرا، خلقنا وحشا”، مضيفا: “كنا متأكدين أن إدارة الولايات المتحدة ستوافق، وقد وضعنا قائمة بالأهداف مع الأمريكيين، وكانت هذه مفاجئة كبيرة. إذا قصفنا كما كان مخططا، فإن الأمور ستكون مختلفة اليوم”. ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد آل نهيان، كانت غاضبا من أوباما لـ “تخليه” عن حسني مبارك، الرئيس المصري المخلوع، وأظهر لزواره الأمريكيين أن أمريكا يقودها رئيس “غير جدير بالثقة”. العاهل الأردني عبد الله الثاني، الذي يشعر بالفزع مما رآه من رغبة أوباما غير المنطقية بإبعاد أمريكا عن حلفائها التقليديين السنة العرب في المنطقة، وإنشاء تحالف جديد مع إيران، داعمة الأسد الشيعية، اعترض بشكل خاص، قائلا: “أظن أنني أؤمن بالقوة الأمريكية أكثر من أوباما نفسه”. السعوديون كانوا غاضبين كذلك، فهم لم يثقوا يوما بأوباما، فهو وصفهم قبل أن يصبح رئيسا بكثير بأنهم “المدعوون بحلفاء الولايات المتحدة”، إذ أبلغ الجبير زعماؤه في الرياض بأن “إيران هي القوة العظمى الجديدة في الشرق الأوسط، والولايات المتحدة هي القديمة”.
قرار أوباما أحدث هزات في واشنطن كذلك. جون ماكين، وليندسي جراهام، أكبر الصقور في مجلس الشيوخ، التقيا أوباما في البيت الأبيض بوقت مبكر ذلك الأسبوع وتلقيا وعدا بالهجوم، وأغضبهما هذا التحول المفاجئ. وصل الضرر حتى داخل الإدارة نفسها، فكل من وزير الدفاع حينها تشاك هيجل، أو وزير الخارجية جون كيري، كانا في المكتب البيضاوي عندما أبلغ الرئيس فريقه بما يفكر، ولن يعرف كيري حتى وقت متأخر ذلك المساء، ليقول لصديق له ذلك المساء: “لقد تلقيت صفعة”. (عندما سألت كيري مؤخرا عن تلك الليلة العصيبة، قال لي: “لم أكف عن التفكير، ووصلت إلى أن الرئيس كان لديه سبب للقيام بذلك، وصدقا، تفهمت ذلك”).
الأيام القليلة التالية كانت فوضوية. طلب الرئيس من الكونجرس تفويضا باستخدام القوة – عمل كيري الذي لا يمكن ضغطه لحشد الأصوات – وأصبح واضحا في البيت الأبيض سريعا أن الكونجرس له مصلحة قليلة في ضربة. عندما تحدثت مع بايدن مؤخرا عن قرار الخط الأحمر، أشار لملاحظة خاصة: “يهم أن تملك الكونجرس إلى جانبك، بخصوص قدرتك على تحقيق ما تريد، وأوباما لم يذهب للكونجرس ليخرج نفسه من المسؤولية، فقد كان لديه شكوكه في تلك المرحلة، لكنه علم إن اراد فعل أي شيء، فإن الأفضل أن يكون الشعب إلى جانبه، أو أن هذا لن يكون قرارا طويل الأمد”. تناقض الكونجرس الواضح أقنع بايدن أن أوباما كان صادقا بخشيته من المنزلق، متسائلا: “ما الذي يحصل إذا أسقطت طائرة؟ ألن ندخل ونقوم بعمليات إنقاذ؟”، مؤكدا أن “أوباما كان بحاجة لدعم الشعب الأمريكي”.
وسط هذه المعمعة، أتى منقذ لم يكن بالحسبان، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. في قمة العشرين، التي عقدت في سان بطرسبيرج، في الأسبوع الذي تبع التراجع عن القرار بشأن سوريا، سحب أوباما بوتين جانبا، بحسب ما قال لي، وقال له إنه “إذا استطاع إجبار الأسد على التخلص من السلاح الكيميائي، فإن هذا سيلغي الحاجة للقيام بعمل عسكري”. خلال أسابيع، كيري، بالعمل مع نظيره الروسي سيرجي لافروف، سيهندس إزالة معظم ترسانة السلاح الكيميائي السوري، الذي لم يكن الأسد يقبل الاعتراف به حتى.
هذا الترتيب سيحصل على احتفاء خاص من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كان لديه علاقة طويلة مستمرة مع أوباما، إذ مثلت إزالة السلاح الكيميائي للنظام السوري “شعاع ضوء في منطقة مظلمة جدا”، بحسب ما أخبرني نتنياهو، بعد إعلان الاتفاق بقليل.
لم يعد جون كيري اليوم يظهر تسامحا مع أولئك الذين يناقشون، كما فعل هو شخصيا، أن أوباما كان يجب أن يقصف نظام الأسد لتعزيز قدرات أمريكا المتماسكة، قائلا: “ستكون قد أبقيت الأسلحة هناك، وستكون تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وهذا غير منطقي، لكنني لا أستطيع إنكار أن فكرة تجاوز الخط الأحمر وعدم فعل أوباما لأي شيء مخطئة بالكامل”.
أوباما يفهم أن القرار الذي اتخذه بالتراجع عن الضربات الجوية، والسماح بانتهاك الخط الأحمر ستعامل بلا رحمة من المؤرخين، لكن هذه القرار يمثل لحظة رضا كبيرة بالنسبة له.
أخبرني أوباما: “أنا فخور جدا بهذه اللحظة، فالثقل الكبير للحكمة التقليدية وآلية جهاز أمننا القومي شطحت قليلا. إدراك أن مصداقيتي ومصداقية الولايات المتحدة كانت على المحك. وبالنسبة لي، فقد علمت أن ضغط زر التوقف المؤقت في تلك اللحظة سيكلفني سياسيا. وحقيقة أنني كنت قادرا على الانسحاب من الضغوط المباشرة والتفكير بعقلي أنا بما هو بمصلحة أمريكا، ليس فقط بمنظور سوريا، بل منظور ديمقراطيتنا، كان قرارا صعبا اتخذته، وأعتقد في النهاية أنه كان قرارا صحيحا”.
كانت هذه اللحظة التي يعتقد الرئيس أنه كسر بها أخيرا بحزم ما يسميه “كتاب إرشادات واشنطن”.
قال أوباما: “أين كنت مثيرا للجدل؟ عندما يتعلق الأمر باستخدام القوة، وهذا هو مصدر إثارة الجدل. هناك كتاب إرشادات في واشنطن يجب على الرؤساء اتباعه، ويأتي من مؤسسة السياسة الخارجية، ويحدد كيفية الاستجابة للأحداث المختلفة، وعادة ما تكون عسكرية. عندما تهدد أمريكا بشكل مباشر، يفعل هذا الكتاب، لكنه قد يكون فخا يقود لقرارات خاطئة. وسط تحد دولي مثل سوريا، سيحكم عليه بشدة إذا لم تتبع كتاب الإرشادات، وحتى لو كان هناك أسباب جيدة لعدم تطبيقه”.
وصلت إلى قناعة، بأن الـ ٣٠ من آب/ أغسطس ٢٠١٣، برأي أوباما، كان يوم تحرره، الذي لم يواجه به مؤسسة السياسة الخارجية وكتاب إرشاداتها ذو الصواريخ البالستية وحسب، بل حلفاءها الغاضبين ذوي المطالب العالية في الشرق الأوسط، أي البلدان، التي يشتكي منها بشكل خاص للأصدقاء والمستشارين، التي تسعى لاستغلال “العضلات” الأمريكية لأهدافها الضيقة والطائفية. في ٢٠١٣، استاء أوباما كثيرا، خصوصا من القادة العسكريين الذين اعتقدوا أنهم يمكن أن يصلحوا أي مشكلة إذا أعطاهم القائد المسؤول ما يريدون، واستاء من مجمع مراكز أبحاث السياسة الخارجية، وسط اعتقاد كبير داخل البيت الأبيض أن كثيرا من هذه المراكز البارزة في واشنطن تعمل لصالح مموليها العرب والداعمين لإسرائيل. سمعت مرة مسؤولا في الإدارة يشير لشارع ماساشوستيس، الذي يضم العديد من هذه المراكز بأنه “أرض محتلة عربيا”.
للكثير من خبراء السياسة الخارجية، حتى داخل إدارة أوباما نافسها، تراجع أوباما عن فرض الخط الأحمر كان لحظة محبطة أظهر بها ترددا وسذاجة، وأحدث ضررا كبيرا لسمعة أمريكا في العالم، إذ قال لي ليون بنيتا، الذي عمل كمدير لجهاز الاستخبارات المركزية أمريكيا ووزيرا للدفاع في إدارة أوباما الأولى، إنه “عندما يعطي الزعيم المسؤول خطا أحمر، فإنني أعتقد أن مصداقيته ومصداقية بلده تأتي على المحك إذا لم يحمه”، كما قالت هيلاري كلينتون بعد تراجع أوباما مباشرة “إذا كنت تقول إنك ستضرب، فإن عليك أن تضرب. ليس هناك خيار”.
في تلك الفترة، كتب شادي حميد، الباحث في معهد بروكنجز، مقالا لـ “أتلانتك”، قال به إن “الأسد حصل على جائزة كبيرة لاستخدامه السلاح الكيميائي، بدل أن يعاقب كما كان مخططا، فقد استطاع إزالة التهديد الأمريكي مقابل شيء قليل جدا”.
حتى المعلقون الذين كانوا متعاطفين مع سياسات أوباما رأوا أن تلك المرحلة فاجعة. جايدن روز، محرر مجلة “فورين أفيرز”، كتب مؤخرا أن معالجة أوباما لهذه الأزمة “أولا بإعلان التزام كبير علنا، ثم التردد بإمكانية القيام به، ثم إلقاء الكرة لملعب الكونجرس لحلها، يمثل دراسة حالة في كيفية الارتجال الهاوي والمسبب للإحراج”.
المدافعون عن أوباما يقولون إنه لم يسبب ضررا لمصداقية الأمم المتحدة، مستشهدين بموافقة الأسد التالية على إزالة السلاح الكيماوي، إذ قال لي تيم كاين، السيناتور الديمقراطي عن فرجينيا، إن “تهديد القوة كان كافيا بالنسبة للأسد لتسليم سلاحه الكيماوي، فنحن هددنا بالعمل العسكري، وهم استجابوا، وهذه مصداقية كافية”.
نعم، قد يكتب التاريخ ٣٠ آب/ أغسطس ٢٠١٣، بأنه اليوم الذي حمى الولايات المتحدة من دخول حرب أهلية كارثية في بلد مسلم، والبلد الذي أزال تهديد السلاح الكيماوي عن إسرائيل وتركيا والأردن، أو أنه سيذكر بأنه اليوم الذي ترك الشرق الأوسط ينزلق من قبضة أمريكا نحو أيدي روسيا وإيران وتنظيم الدولة.
—————
أول مرة تحدثت بها مع أوباما عن السياسة الخارجية كانت عام ٢٠٠٦، عندما كان في مجلس الشيوخ. في ذلك الحين، لم يكن نص الخطاب الذي ألقاه قبل ذلك بأربعة أعوام، في مظاهرة مضادة للحرب في شيكاجو، جديدا علي. كان خطابا غير اعتيادي لمظاهرة مضادة للحرب، إذ أنه لم يكن كذلك، فأوباما الذي كان حينها في مجلس الشيوخ عن ولاية إلينوي، جادل ضد حرب محددة، ونظرية، في ذلك الوقت، قائلا: “أنا ليس لدي أي أوهام حول صدام حسين، فأنا أعلم أنه رجل قاس وبلا رحمة، لكنني أعلم في الوقت نفسه أنه لا يشكل تهديدا مباشرا وحتميا للولايات المتحدة أو جيرانها”، مضيفا بقوله: “أعلم أن احتلال العراق بدون دعم دولي قوي ومنطق واضح سيشعل نيران الشرق الأوسط، ويشجع ما هو أسوأ من ذلك، بدل الأفضل، ويعزز خطاب التجنيد لتنظيم القاعدة”.
هذا الخطاب جعلني فضوليا حول كاتبه. أردت أن أعرف كيف استطاع سيناتور لإلينوي، ويعمل بروفيسورا للقانون بدوام جزئي، ويقضي أيامه مسافرا بين شيكاجو وسبربينجفيلد، الوصول لفهم محدد للفوضى القادمة، أكثر من من أكثر مفكري السياسة الخارجية خبرة في حزبه، بما في ذلك هيلاري كلينتون، وجو بايدن، وجون كيري، ناهيك، بالطبع، عن معظم الجمهوريين ومحللي وكاتبي السياسة الخارجية، ومن ضمنهم كاتب هذه السطور.
منذ ذلك اللقاء عام ٢٠٠٦، قابلت أوباما مرارا، خصوصا حول قضايا مرتبطة بالشرق الأوسط، لكن خلال الشهور الماضية، قضيت ساعات أحدثه عن أبرز سمات سياسة “اللعبة الطويلة” الخارجية خاصته، بما في ذلك أكثر السمات التي يتحمس لنقاشها، وتحديدا، غير المرتبطة إطلاقا بالشرق الأوسط.
قال لي أوباما مرة في إحدى هذه المحادثات: “تنظيم الدولة ليس تهديدا وجوديا على الشرق الأوسط، لكن التغير المناخي تهديد وجودي متحمل للعالم بأكمله إذا لم نقم بشيء تجاهه”، موضحا أن التغير المناخي يقلقه تحديدا لأنه “مشكلة سياسة مصممة بشكل كامل لصد التدخل الحكومي، كما أنه يتضمن كل دولة، وهو حالة طارئة تتحرك ببطء نسبي، ولذلك لا يبدو دائما أن هناك شيئا أكثر عجلة على الأجندة”.
في هذه اللحظة، بالطبع، فإن معظم القضايا “التي تبدو أنها عاجلة” هي سوريا، لكن بأي لحظة، فإن رئاسة أوباما يمكن أن تتعرض لهجوم كوري شمالي، أو هجوم من روسيا على دولة في الناتو، أو هجوم مخطط من تنظيم الدولة على التراب الأمريكي. قليل من الرؤساء واجهوا اختبارات متنوعة على الساحة الدولية مثلما واجهها أوباما، والتحديات التي يملكها، من بين كل الرؤساء، كان يجب بها تمييز العاجل فقط من الأكثر أهمية، والتركيز على المهم.
كان هدفي في محادثاتنا الأخيرة هو رؤية العالم من خلال عيون أوباما، وفهم كيفية اعتقاده أن دور أمريكا يجب أن يكون في العالم. هذه المقالة مبنية على محادثاتنا الأخيرة، والتي جرت في المكتب البيضاوي، على الغداء في غرفة الأكل، عبر الطيران الرئاسي “إير فورس ون”، وفي كوالالمبور خلال زيارته الآسيوية الأخيرة في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، كما أنها مبنية على مقابلات سابقة معه، وعبر خطاباته وكلماته العامة، بالإضافة لمحادثات مع أعلى مستشاريه في مجالات السياسة الخارجية والأمن القومي، والزعماء الأجانب، وسفرائهم في واشنطن، أصدقاء الرئيس وأولئك الذين تحدثوا معه عن سياساته ونقاشاته، بالإضافة لخصومه ومنتقديه.
عبر محادثاتنا، استطعت رؤية أوباما ثبتت له تدريجيا، رغما عنه، حدود قدرة أمريكا على التحكم في الأحداث العالمية، رغم أنه، في نهاية رئاسته، حقق عددا من الإنجازات التاريخية في السياسة الخارجية، وإن كانت جدلية ومؤقتة أحيانا لكنها تظل إنجازات، مثل: الانفتاح على كوبا، وثيقة باريس للتغير المناخي، اتفاقية التجارة العابرة للمحيط الهادي، والصفقة النووية مع إيران بالطبع. هذه الإنجازات تمت بالرغم من شعوره المتزايد بأن القوى الأكبر – الموجات المضادة للشعور القبلي في عالم يجب أن يكون تجاوز رجعيته، مرونة رجال صغار يحكمون بلدانا كبيرة بطرق تعاكس مصالحهم نفسها، وجود الخوف كشعور حاكم لدى العاطفة الإنسانية – تتآمر دائما ضد أفضل مصالح أمريكا. لكنه استطاع أن يكتشف، كما أخبرني، أن القليل جدا تم إنجازه في الشؤون الدولية بدون قيادة أمريكا.
أوباما تحدث لي مرة عن هذا التناقض الظاهري، قائلا: “أريد رئيسا يدرك أنك لا تستطيع إصلاح كل شيء، لكن من الناحية الأخرى، فإذا لم تخطط لشيء، فإنه لن يحصل”، موضحا لي: “الحقيقة أنه لم توجد قمة حضرتها منذ كنت رئيسا، ولم نكن نحن الذين وضعنا الأجندة، أو لم نكن مسؤولين عن النتائج الرئيسية، سواء كنا نتحدث عن الأمن النووي، أو إنقاذ النظام المالي العالمي، أو حتى لو كنا نتحدث عن المناخ”.
يوما ما، على غداء في المكتب البيضاوي، سألت الرئيس: كيف تعتقد أن المؤرخين سيفهمون سياستك الخارجية؟، فبدأ إجابته بشبكة ذات أربعة مربعات تمثل المدارس الأربعة للسياسة الخارجية الأمريكية. أحد الصناديق أسماه: الانعزالية، وهو ما استثناه، لأن “العالم يضيق بطريقة غير مسبوقة، والانسحاب غير ممكن”، أما المربعات الثلاث الباقية فسماها: الواقعية، التدخلية الليبرالية، والعالمية، وقال لي: “أظن أنك يمكن أن تسميني واقعيا لاعتقادي أننا أحيانا لا نستطيع إنهاء كل البؤس في العالم”، مضيفا: “علينا أن نختار أين نستطيع تحقيق تأثير حقيقي”، كما أشار إلى أنه كان من المدرسة العالمية بشكل واضح، لأنه يسعى لتعزيز المنظمات متعددة الأطراف والتطبيع الدولي.
أخبرته أن انطباعي كان أن الصدمات المتنوعة للسنوات السبعة التي سبقته عززت لديه التزامه بمسعى أكثر توجها نحو الواقعية، وسألته: هل أجبرته فترتا حكم في البيت الأبيض على التدخلية؟
أجابني: “رغم كل شيء، الولايات المتحدة كانت قوة لصالح الخير في العالم، وإذا قارنتنا بالقوى العظمى السابقة، فإننا نتحرك بشكل أقل وفق المصالح الذاتية المحضة، وكنا مهتمين بتطبيع علاقات تفيد الجميع، فإذا كان من الممكن فعل الخير بثمن معقول، لحفظ الأرواح، فنحن سنفعله”.
إذا حصلت أزمة أو كارثة إنسانية لا توافق مبدأه الصارم الذي يقتضي بأنها تمثل تهديدا قوميا مباشرا، فإن أوباما يعتقد مع ذلك أنه لا يجب أن يلتزم الصمت، وهو ليس الواقعي الذي لن يمرر أحكاما على الزعماء الآخرين. فمع أن الولايات المتحدة استبعدت استخدام القوة الأمريكية المباشرة لإجبار الأسد على الرحيل، إلا أنه لم يخطئ بمطالبته إياه بذلك، قائلا: “عندما ينتقدك البعض سياسة سوريا خاصتك، فإن أحد الأشياء التي يشيرون إليها: (أنت طالبت الأسد بالرحيل، لكنك لم تجبره على ذلك، ولم تتتدخل)، وفكرة أنك إذا لم تكن ستسقط النظام، فليس عليك أن تقول أي شيء، هي فكرة غريبة لي، الفكرة التي تقتضي أننا إذا استخدمنا سلطتنا الأخلاقية لنقول: (هذا نظام وحشي، وليست هذه الطريقة التي يحاكم بها شعبه)، فإن نصبح ملزمين باحتلال بلاد ووضع حكومة نفضلها”.
وتابع أوباما: “أنا عالميا جدا، وأنا مثالي كذلك حينها إذ أنني أعتقد أننا يجب أن ننشر قيما، مثل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتطبيق، لا لأنها تخدم مصالحنا كلما تبناها المزيد – وكذلك من الجانب الاقتصادي، كلما تبنى الناس حكم القانون وقوانين الملكية وسواها، كان ذلك في صالحنا -، بل لأنها تجعل العالم مكانا أفضل، وأنا أريد قول ذلك بطريقة مباشرة، بطريقة لن يقولها برينت سكوكروفت”.
وأكمل أوباما قوله: “وبناء على ذلك، فأنا أؤمن أن العالم مكان قاس ومعقد وفوضوي ولئيم، ومليء بالصعوبة والمأساة”، ولكي نؤمن كلا من مصالحنا الأمنية وقيمنا وأفكارنا المثالية التي نؤمن بها، يجب أن نكون عنيدين أحيانا، وبنفس الوقت واسعي اقلب، وتحديد واختيار مساحاتنا، وإدراك أن هناك أوقاتا يكون بها كل ما نستطيع فعله هو إلقاء الضوء على شيء فظيع، دون الاعتقاد التلقائي بأننا يمكننا حله. سيكون هناك أوقات تتعارض بها مصالحنا الأمنية مع مخاوفنا حول حقوق الإنسان، وسيكون هناك أوقات نستطيع بها فعل شيء تجاه الناس الذين يقتلون، لكن سيكون هناك أوقات لا نستطيع بها”.
إذا سألت أوباما ما إذا كانت أمريكا هي الأمة الأولى التي لا غنى للعالم عنها، فهو لم يعتقد بذلك، لكنه الرئيس النادر الذي يبدو في بعض الأحيان منتقدا لاحتياج العالم للولايات المتحدة، بدل الاحتفاء بها، إذ أخبرني مرة: “الراكبون المجانيون يغضبونني”، كما حذر أوباما مؤخرا من أن بريطانيا لن تكون قادرة على ادعاء “علاقة خاصة” مع الولايات المتحدة إذا لم تلتزم بدفع اثنين بالمئة على الأقل من دخلها القومي على الدفاع، قائلا: “عليك أن تدفع حصتك”، لرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الذي التزم بعد ذلك.
ويرى أوباما أن جزءا من مهمته كرئيس هو حذ الدول الأخرى على أخذ خطوات بنفسها، بدل انتظار الولايات المتحدة للقيادة. الدفاع عن النظام العالمي الليبرالي ضد الإرهاب الجهادي، الاندفاع الروسي، والتسلط الروسي تعتمد جزئيا، بحسب رأيه، على رغبة الدول الأخرى بمشاركة الولايات المتحدة لهذا العبء. وهذا هو السبب الذي جعل الجدل الدائر حول التصريح – الذي قام به مسؤول في الإدارة، لم يكشف عن اسمه، لمجلة النيويوركر الأمريكية خلال الأزمة الليبية عام ٢٠١١ – بأن السياسة الأمريكية قائمة على “القيادة من الخلف”، تربكه، قائلا: “ليس علينا دائما أن نكون الموجودين في الواجهة، وأحيانا سنحصل على ما نريد بالضبط لأننا نتشارك في الأجندات. السخرية أن هذا كان لمنع الأوروبيين والدول العربية من الإمساك بمعاطفنا بينما كنا نقوم بالقتال الذي أصررنا على أن يقودوه خلال حملة خلع معمر القذافي من السلطة، وهذه مشكلة راكب مجاني”.
يبدو كذلك أن الرئيس يعتقد أن مشاركة القيادة مع الدول الأخرى هي طريقة لضبط جمح أمريكا، قائلا: “أحد الأسباب التي تجعلني أركز على أخذ القرار من أطراف متعددة في المناطق التي لا نضع بها مصالحنا المباشرة على الرهان هو أن التعددية تنظم الغطرسة”، فهو يستحضر دائما ما يعتبره فشل أمريكا السابق خارجها كطرق للتحقق من استقامة أمريكا الذاتية، قائلا: “لدينا تاريخ في إيران، ولدينا تاريخ في أندونيسيا، ولدينا تاريخ في أمريكا الوسطى، ولذلك يجب أن نكون مدركين لتاريخنا عندما نتحدث عن التدخل، وأن نفهم مصدر شكوك الآخرين”.
ضمن جهوده لتخفيف بعض مؤسووليات أمريكا في السياسة الخارجية لصالح حلفاءه، يبدو أوباما رئيسا متخندقا كلاسيكيا في الطريقة التي كان بها دوايت آيزنهاور وريتشارد نيكسون. الخندقة، في هذا السياق، هي “الانسحاب، الإنفاق الأقل، تقليل المخاطر، وتحويل الأعباء للحلفاء”، بحسب ما أوضح ستيفن سيستانوفيتش، الباحث في السياسة الخارجية الرئاسية في “معهد العلاقات الخارجية”، مضيفا بقوله: “إذا كان جون ماكين هو الذي انتخب عام ٢٠٠٨، فإنك كنت سترى درجة ما من الخندقة، وهذا ما تحتاجه البلاد. إذا أصبحت رئيسا في منتصف حرب، فهذا ليس أمرا جيدا، وستكون مقتنعا أن الشعب الأمريكي اختارك لتقلل التبعات”. أحد الفروقات بين أوباما من ناحية، وآيزنهاور ونيكسون من ناحية أخرى، بحسب سيستانوفيتش، هو أن أوباما “يبدو وكأنه ملتزم بشكل شخصي وأيديولوجي بفكرة أن السياسة الخارجية استهلكت الكثير من انتباه الدولة ومواردها”.
سألت أوباما عن الخندقة، فقال: “تقريبا كل القوى العظمى انجرفت للتوسع، وما أظنه ليس ذكيا هو فكرة أنه في كل وقت يكون بمشكلة، نقوم بإرسال جيشنا لفرض النظام. نحن ببسطاة لا نستطيع فعل ذلك”.
لكن في اللحظة التي يقرر بها أن تحديا معينة يمثل تهديدا أمنيا قوميا مباشرا فهو يظهر رغبة بالتحرك بشكل منفرد، وهذه واحدة من أكبر التناقضات في رئاسة أوباما: تسائل كثيرا عن جدوى القوى، لكنه أصبح أكثر صياد إرهابيين ناجح في تاريخ الرئاسة، رئيسا سيسلم لخلفه مجموعة من الأدوات سيحسده عليها أي قاتل بارع. قال بين رودز: “أوباما يملك مقاييس مختلفة للتهديدات المباشرة على الولايات المتحدة، فعلى سبيل المثال، بالرغم من شكوكه حول سوريا، لكنه لم يفكر ولو لثانية حول استخدام الطائرات بدون طيار”. يناقش بعض الناقدين أنه كان يجب عليه أن يفكر قليلا حول ما يعتبرونه الاستخدام المفرط للطائرات بدون طيار. إلى أن جون برينان، مدير وكالة الاستخبارات المركزية لأوباما، أخبرني أنه والرئيس “يتشاركان في وجهات النظر، وأحدها أنه في بعض الأحيان يجب أن تقتل شخصا لتحمي الكثيرين سواه. نحن نتشارك بوجهات النظر حول نظرية الحرب العادلة. يطلب الرئيس شبه تأكد من عدم وجود لأضراب جانبية، لكنه حين يعتقد أنه من الضروري أن يتصرف، فهو لا يتردد”.
أولئك الذين تحدثوا مع أوباما حول التفكير الجهادي قالوا إنه ليس لديه شكوك حول القوى التي تدفع المسلمين المتطرفين للعنف الشامل، لكنه كان حذرا لنشرها على الملأ، خشية من أن أنها قد تولد رهابا مضادا للمسلمين. أوباما لديه فهم الشخص الواقعي المأساوي للخطيئة والجبن والفساد، وتقدير “هوبزي” لكيفية تشكيل الخوف لتصرفات الإنسان، كما أنه، وبإخلاص ظاهر، يصرح بتفاؤله بأن العالم يسير نحو العدالة. إنه، بطريقة ما، متفائل هوبزي.
التناقضات لا تنتهي هنا، فبالرغم من أن أوباما لديه سمعة بأنه حكيم، إلا أنه كان متحمسا للتشكيك ببعض الافتراضات الثابتة التي تسند التفكير الأمريكي التقليدي في السياسة الخارجية. ولدرجة مميزة، يريد أوباما أن يساءل لماذا أعداء أوباما هم أعداءها، ولماذا بعض أصدقاءها هم كذلك. تجاهل أوباما نصف عقد من الإجماع الحزبي لإعادة تأسيس العلاقات مع كوبا. شكك أوباما بسبب تجنب أمريكا إرسال قواتها إلى باكستان لقتل زعماء القاعدة، كما شكك، بجلسات خاصة، لماذا باكستان، التي يعتقد أنها دولة مختلة وظيفيا بشكل كارثي، يجب أن تعتبر حليفة لأمريكا من الأساس. بحسب ليون بانيتا، أوباما تساءل لماذا يجب أن تحافظ الولايات المتحدة على ما يسمى التقدم العسكري الإسرائيلي الذي يضمن لها الوصول لأسلحة متقدمة أكثر من حلفاء أمريكا العرب، لكنه شكك كذلك، وبشكل أكثر قسوة، بالدور الذي يلعبه حلفاء أمريكا العرب بتحفيز الإرهاب المضاد لأمريكا.
أبدى أوباما انزعاجه بوضوح من أن أرثذوكسية السياسة الخارجية تجبره على اعتبار السعودية حليفا. وبالطبع، فقد قرر مسبقا، بوجه الانتقاد الأكبر، أنه أراد الوصول لأشد أعداء أمريكا في الشرق الأوسط: إيران. الصفقة النووية التقي عقدها مع إيران تثبت أن أوباما ليس حريصا على تجنب المخاطر، فقد راهن على الأمن القومي وسجله الخاص كرئيس على أن واحدة من أكبر داعمي الإرهاب في العالم ستلتزم باتفاقية لوقف برنامجها النووي.
من المفترض، على الأقل بين نقاده، أن أوباما سعى للصفقة مع إيران لأنه يملك رؤية لتقارب أمريكي فارسي تاريخي، لكن رغبته للاتفاقية النووية ولدت من التشاؤم أكثر مما ولدت من التفاؤل، إذ قالت لي سوزان رايس: “الصفقة النووية كانت لمحاولة فتح عهد جديد من العلاقات بين أمريكا وإيران، وكانت براغماتية جدا وبحدها الأدنى. الهدف كان ببساطة جعل بلد خطير أقل خطورة مما هو عليه بشكل جوهري، ولا أحد يملك أي توقعات من أن إيران ستكون دولة أكثر لطفا”.
—————
اقتبست مرة لأوباما مقطعا من الجزء الثالث من فيلم “العراب The Godfather”، حيث يشتكي مايكل كورليوني بغضب من فشله بالهروب من قبضة الجريمة المنظمة. أخبرت أوباما أن الشرق الأوسط بالنسبة له هو مثل “العصبة” بالنسبة لكورليوني، ثم بدأت الاقتباس الذي يقول به آل باتشينو: “فقط عندما تظن أنك خرجت..”، وأتمه أوباما: “فإنها تسحبك مجددا”.
قصة مواجهة أوباما مع الشرق الأوسط تتبع قوسا من “نزع السحر”، ففي فترة شهرته الممتدة كمرشح رئاسي عام ٢٠٠٨، تحدث أوباما عادة بنوع من الأمل حول المنطقة. في برلين، صيف ذلك العام، وفي خطاب لـ ٢٠٠ ألف ألماني معجب، قال: “هذه هي اللحظة التي يجب أن نساعد بها لفجر جديد في الشرق الأوسط”.
في العام التالي، كرئيس، أعطى خطابا في القاهرة بهدف استعادة علاقات الشرق الأوسط مع مسلمي العالم. تحدث مع المسلمين من عائلته، وعن طفولته في أندونيسيا، واعترف بخطايا أمريكا، مع انتقاده أولئك الذين يشيطنون الولايات المتحدة في العالم الإسلامي، إلا أن ما جذب الاهتمام كان وعده بحل القضية الفلسطينية، والتي كانت مركز اهتمام العرب والمسلمين، فتعاطفه مع الفلسطينيين جذب اهتمام الجمهور، لكنه عقد علاقاته مع رئيس الوزراء الفلسطيني بنيامين نتنياهو، خصوصا لأن أوباما قرر كذلك المرور على القدس في رحلته الرئاسية الأولى للشرق الأوسط.
عندما سألت أوباما مؤخرا عما كان يأمل إنجازه من خطاب القاهرة، قال إنه كان يحاول – ولم ينجح، باعترافه – بإقناع المسلمين بالبحث بشكل أعمق بجذور عدم سعادتهم، قائلا: “كانت نظريتي هي التالي: لنتوقف جميعا بادعاء أن قضية الشرق الأوسط هي إسرائيل”، مضيفا: “نريد أن نعمل على تحقيق دولة وكرامة للفلسطينيين، لكنني كنت آمل أن خطابي قد يولد نقاشا يمكن أن يخلق فضاء للمسلمين لتحديد مشاكلهم الحقيقية التي يواجهونها؛ مشاكل الحوكمة، وحقيقة أن بعض تيارات الإسلام لم تمر بإصلاح قد يساعد الناس على تكييف عقائدهم الدينية مع الحداثة. كانت فكرتي أنني يمكن أن أوصل أن الولايات المتحدة لا تقف بوجه هذه العملية، وأننا نريد المساعدة، بأي شكل ممكن، لتحقيق أهداف أجندة عربية عملية ناجحة يمكن أن توفر حياة أفضل للأشخاص العاديين”.
خلال الموجة الأولى من الربيع العربي في ٢٠١١، واصل أوباما حديثه بتفاؤل حول مستقبل الشرق الأوسط، مقتربا بشكل كبير من الاحتفاء بما يدعى “أجندة الحرية” التي تبناها جورج دبليو بوش، والتي كانت تقوم على اعتقاد أن القيم الديمقراطية يمكن زرعها في الشرق الأوسط، إذ ساوى أوباما المتظاهرين في تونس وميدان التحرير بروزا باركس، و”مناضلي بوسطن”.
قال أوباما بخطاب في ذلك الوقت: “بعد عقود من قبول العالم كما هو في المنطقة، نحن نملك فرصة للسعي للعالم كما ينبغي أن يكون. الولايات المتحدة تدعم مجموعة من الحقوق العالمية، وهي تتضمن: حرية التعبير، حرية التجمع السلمي، حرية التدين، المساواة بين الرجل والنساء تحت حكم القانون، وحق اختيار الزعماء.. دعمنا لهذه المبادئ ليس مصلحة ثانوية”.
ولكن خلال الأعوام الثلاثة التالية، عندما ابتعد الربيع العربي عما خرج لأجله، وعمت القسوة والضعف الشرق الأوسط، اتجه الرئيس نحو “التحرر من وهمه”.
أحد أكبر خيباته في الشرق الأوسط متعلقة بزعمائه أنفسهم، فبنيامين نتنياهو بتصنيف لوحده: كان أوباما يعتقد أن نتنياهو قد يطبق حل الدولتين الذي قد يحمي إسرائيل كدولة ذات غالبية يهودية، لكنه خائف جدا وغارق في السياسية لأن يقوم بذلك. أوباما لم يعد يحتمل نتنياهو وقادة الشرق الأوسط الذين يشككون بفهمهه للمنطقة. في واحدة من جلسات أوباما مع الرئيس، بدأ نتنياهو بشيء أشبه بالمحاضرة عن مخاطر المنطقة القاسية التي يعيش بها، وشعر أوباما أن نتنياهو كان يتصرف بطريقة متزلفة، وكان يتجنب الموضوع: محادثات السلام. أخيرا، قطعه أوباما، وقال له: “بيبي، يجب أن تفهم شيئا. أنا الأفريقي الأمريكي ابن الأم العزباء وأنا أعيش هنا، في هذا المنزل. أنا أعيش في البيت الأبيض. واستطعت النجاح بأن أصبح رئيسا للولايات المتحدة. أنت تعتقد أنني لا أفهم عمّ تتحدث، لكنني أفهم”.
قادة آخرون أغضبوه كذلك. في وقت سابق، كان أوباما يرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على أنه الزعيم المسلم المعتدل الذي سيردم الهوة بين الشرق والغرب، لكن أوباما يعتبره الآن فاشلا واستبداديا، يرفض استخدام جيشه الضخم لجلب الاستقرار لسوريا. وعلى جانب قمة الناتو التي عقدت في ويلز عام ٢٠١٤، أوباما سحب العاهل الأردني عبد الله الثاني جانبا، وقال إنه سمع أن عبد الله اشتكى لأصدقائه في الكونجرس الأمريكي عن قيادة أوباما، وأخبر الملك أنه إن كان لديه شكوك فعليه رفعها مباشرة، وهو ما أنكره الملك.
في الأيام الأخيرة، أصبح أوباما يقول نكتة بشكل كبير: “كل ما أحتاجه في الشرق الأوسط بعض الاستبداديين الأذكياء”، أوباما كان لديه دائما إعجاب بالتكنوقراطيين البراجماتيين الذين يحفظون عواطفهم، قائلا: “لو كان الجميع مثل الإسكندنافيين، لكن الأمر أسهل”.
فشل الربيع العربي أحبط نظرة الرئيس لما يمكن أن تحققه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وجعلته يدرك كم تلهيه هذه الفوضى عن أولويات أخرى، إذ قال جون برينان، الذي عمل في فترة أوباما الأولى كمستشار لمكافحة الإرهاب: “الرئيس أدرك عبر مسار الربيع العربي أن الشرق الأوسط كان يستنزفنا”.
لكن ما ختم نظرة أوباما المتشائمة حول الشرق الأوسط كانت فشل التدخل في ليبيا، عام ٢٠١١، الذي كان يجب أن يمنع الدكتاتور معمر القذافي من ذبح شعب بنغازي، مثلما كان يهدد. أوباما لم يكن يريد الانضمام للقتال، بحسب ما أشار عليه جو بيدن، ووزير دفاعه في الدورة الأولى روبرت جيتس، وآخرون، إلا أن تكتلا قويا داخل فريق الأمن القومي – مكونا من وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون وسوزان رايس، التي كانت سفيرة أمريكا للأمم المتحدة، وسامنثا باور، وبين رودز، وأنطوني بلينكن، الذي كان مستشار بايدن للأمن القومي – ضغط بشدة لحماية بنغازي، ونجح بذلك. (بايدن، الذي تستفزه سياسة كلينتون للسياسة الخارجية، قال مرة بشكل خاص: “إنها فقط تريد أن تكون جولدا ماير”). سقطت القنابل الأمريكية، وتم حماية بنغازي من مجزرة كانت قد تحصل أو لا تحصل، واعتقل القذافي وأعدم.
لكن أوباما يقول اليوم عن التدخل “إنه لم يكن ناجحا”، كما يعتقد أن أمريكا خططت العملية بحذر، لكن البلاد لا زالت تعاني من كارثة.
لماذا وافق الرئيس على تزكية أنشط مستشاريه للتدخل، مع أن لديه تحفظا طبيعيا تجاه التدخل العسكري المباشر في الحالات التي لا يتهدد بها الأمن الأمريكي القومي مباشرة؟
يفسر أوباما تفكيره بذلك الوقت بالقول إن “النظام الاجتماعي في ليبيا تفكك، وأنت تواجه مظاهرات كبيرة ضد القذافي، وهناك انقسامات قبلية داخل ليبيا، وكانت بنغازي هي عين مواجهة النظام، والتي وجه القذافي قواته نحوها متوعدا سكانها بالقول: سنقتلهم مثل الجرذان”.
وتابع: “أما الآن، فإن الخيار الأول هو عدم فعل شيء، وسيكون هناك أشخاص بإدارة قالوا إنها ليست مشكلتنا. الطريقة التي نظرت بها كانت تقول إنها ستكون مشكلتنا، فقد اندلعت الفوضى العارمة والحرب الأهلية في ليبيا. لكن هذه ليست مشكلة مصالح أمريكا التي تجعل من المنطقي المشاركة الأمريكية المنفردة بالضربات ضد القذافي. في تلك النقطة، كان هناك أوروبا وأعضاء من الخليج يحتقرون القذافي، أو معنيون من الناحية الإنسانية ويطالبون بالتدخل. لكن ما تم الاعتياد عليه خلال العقود الأخيرة في هذه الحالات هو ناس يدفعوننا للتدخل ثم يظهرون رفضا لإبداء أي مشاركة لاحقا”.
قاطعته: “راكبون مجانيون؟”، فأجابني: “راكبون مجانيون”.
ثم واصل حديثه: “لذلك كان ما قلته في تلك المرحلة هو أننا يجب أن نتحرك كجزء من التحالف الدولي، لكن لأن هذا لا يقع بصميم مصالحنا، فإن علينا الحصول على تفويض أممي، ونحن نحتاج الأوروبيين والخليجيين للمشاركة بفعالية في التحالف، وسنطبق القدرات العسكرية الخاصة بنا، مع توقعنا بأن يقوم الآخرين بما عليهم. وعملنا حينها مع فرقنا الدفاعية لضمان القيام بإستراتيجية لا تتضمن مشاركة برية، وبدون التزام عسكري طويل الأمد في ليبيا”.
وأكمل أوباما: “قمنا بهذه الخطة كما توقعت: لدينا تفويض أممي، بنينا تحالفا يكلفنا مليار دولار – وهو رخيص بالنسبة للعمليات العسكرية، وتجنبنا الخسائر الإنسانية الكبيرة، وتجنبنا ما كان يمكن أن يكون صراعا طويلا ودمويا، وبرغم كل ذلك، فإن ليبيا غارقة في الفوضى”.
“الفوضى” هي المصطلح الدبلوماسي للرئيس، لكنه يدعو ليبيا بأنها “عرض فوضوي” جزئيا لأنها أصبحت لاحقا مرتعا لتنظيم الدولة، التي قصفها بالضربات الجوية، وأصبحت كذلك، لأسباب غير مرتبطة بعدم كفاءة أمريكا أكثر من كونها مرتبطة بغياب حلفاء أمريكا وهيمنة القبلية في ليبيا.
قال أوباما: “عندما أرجع وأسأل نفسي ما الذي جرى؟ فهناك مساحة للانتقاد، لأنني كنت مؤمنا بأن الأوروبيين سيشاركون أكثر، بالنظر لقربهم من ليبيا”، مشيرا إلى أن الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي خسر عمله في تلك السنة، وإلى أن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون توقف عن الاهتمام، وأصبح “مشتتا بمجموعة من الأشياء الأخرى”، وبالنسبة لفرنسا، قال الرئيس: “أراد ساركوزي استنفار الطائرات المشاركة في الحملة الجوية، بالرغم من أنه صفى كل الطيران الدفاعي وأعاد تشكيل البنية كاملا لأجل هذا التدخل”، بتبجح جيد، بحسب أوباما، لأنه سمح للولايات المتحدة من “استثمار تدخل فرنسا بطريقة جعلتها أقل تكلفة وخطورة علينا”.
بمعنى آخر، إعطاء فرنسا مزيدا من المديح مقابل خطورة وتكلفة أقل للولايات المتحدة كان صفقة مفيدة، باستثناء أن “هذا كارثي بنظر كثير من الزملاء في مؤسسة السياسة الخارجية، فإذا كنا سنفعل شيئا فعلينا أن نكون في المقدمة، ويجب أن لا يشاركنا أحد بتلقي الأضواء”.
أوباما ألقى باللوم كذلك على الديناميات الليبية الداخلية، فـ “درجة الانقسام القبلي في ليبيا كانت أكبر مما توقعه محللونا، وقدرتنا على وجود أي نوع من البنية هناك يمكن التعامل معه وبدء التدريب وبدء تأمين المصادر انهارت بسرعة”.
ليبيا أثبتت لأوباما أنه من الأفضل تجنب الشرق الأوسط، فـ “ليس هناك طريقة يجب أن نلتزم بها بحكم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهذا سيكون خطأ أساسيا وجوهريا”، بحسب ما أخبر زميلا سابقا له مجلس الشيوخ.
—————
لم يأت أوباما للبيت الأبيض مسكونا بالشرق الأوسط، فهو الابن الأول للمحيط الهادي الذي يصبح رئيسا – ولد في هاواي وتربى هناك وعاش أربعة أعوام في أندونيسيا – وهو مهتم بتحويل انتباه أمريكا إلى آسيا.
بالنسبة لأوباما، آسيا تمثل المستقبل، وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، برأيه، تستحق المزيد من اهتمام أمريكا، أما أوروبا، التي لا يحبها كثيرا، فهي مصدر للاستقرار العالمي وتحتاج إمساك يد أمريكي. أما الشرق الأوسط، فهي منطقة يجب تجنبها، وستكون مهملة للاقتصاد الأمريكي، بفضل ثورة الطاقة الأمريكية.
ليس النفط الذي يشكل فهم أوباما لمسؤولياته في الشرق الأوسط، ولكن صادرة أخرى هي التي تفعل: الإرهاب. بداية ٢٠١٤، أخبر مستشارو أوباما الاستخباراتيون بأن تنظيم الدولة كان ذا أهمية هامشية. بحسب مسؤولين في الإدارة، أخبر الجنرال لويد أوستين، قائد غرفة العمليات المركزية حينها، أن تنظيم الدولة كان “حادثا عرضيا”، مما دفع أوباما لوصف التنظيمات الجهادية في العراق وسوريا، بمقابلة له مع مجلة “نيويوركر”، بأنها “فريق من الصغار” للإرهابيين. (قال ناطق باسم أوستن لاحقا: “لم يصف الجنرال أوستن مطلقا داعش بأنها حادث عرضي).
نهاية ربيع عام ٢٠١٤، بعد أن سيطر تنظيم الدولة على مدينة الموصل شمال العراق، تأكد أوباما أن المخابرات الأمريكية فشلت بتقدير شدة الخطر وقصور الجيش العراقي، وتغيرت نظرته. بعد أن قطع تنظيم الدولة رأس ثلاثة مدينيين أمريكيين في سوريا، أصبح واضحا لأوباما أن هزيمة التنظيم كانت حالة عاجلة للولايات المتحدة أكثر من إسقاط بشار الأسد.
يستذكر المستشارون أن أوباما يستشهد بلحظة محورية في فيلم “فارس الظلام The Dark Knight” للمساعدة لا لتفسير فهمه لدور تنظيم الدولة وحسب، ولكن لفهم النظام البيئي الذي نمت به، إذ قال الرئيس: “هناك مشهد في البداية حيث يجتمع رؤساء عصابات جوثام، وهم الرجال الذين قسموا المدينة. كان هؤلاء رجال عصابات، لكن كان هناك حالة من النظام، والجميع كان يحصل على حصته، إلا أن أتى الجوكر ويشعل المدينة كلها. تنظيم الدولة هو الجوكر، فهو لديه القدرة على حرق المنطقة كلها، ولهذا يجب أن نواجهها”.
صعود تنظيم الدولة عمق قناعة أوباما أن الشرق الأوسط لا يمكن إصلاحه؛ لا في فترة حكمه ولا لجيل قادم.
—————
في أربعاء ماطر منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، تحدث الرئيس أوباما في منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي في مانيلا، مع جاك ما، مؤسسة شركة التجارة الالكترونية “علي بابا”، والمستثمرة الشابة الفلبينية آسيا مجينو. كانت الصالة مزدحمة بالمدراء الآسيويين، وكبار رجال الأعمال الأمريكيين، ومسؤولين حكوميين من حول العالم. أوباما، الذي رحب به باحتفاء، أوصل رسائل غير رسمية من وراء المنصة، خصوصا حول تغير المناخ.
أوباما لم يذكر الموضوع الذي كان يهيمن على بقية دول العالم: هجمات تنظيم الدولة على باريس قبل القمة بخمسة أيام، والتي أدت لمقتل ١٣٠ شخصا. أوباما وصل إلى مانيلا في اليوم الذي سبق قمة العشرين في أنطاليا التركية، حيث كانت هجمات باريس الموضوع الرئيسي في أنطاليا، حيث أجرى أوباما قمة مثيرة للجدل حول ذلك الموضوع.
الصحفيون الذين سافروا مع البيت الأبيض كانوا صارمين: “ألم يحن وقت تغيير الاستراتيجية؟”، ثم تبعها: “هل تستطيع تحديد النقاد الذين يقولون إن ممانعتك لدخول حرب أخرى في الشرق الأوسط، وتفضيل الدبلوماسية على الحرب، يجعل الولايات المتحدة أضعف ويعزز الجنود؟”، ثم جاء السؤال الأصعب من مراسل “سي إن إن”: “من بعد إذنك، لماذا لا نستطيع القضاء على هؤلاء الأوغاد؟”، والتي تبعها: “هل تعتقد أنك تفهم العدو جيدا بما يكفي لهزيمته وحماية أرضنا؟”.
ثم انجرفت الأسئلة، وازداد أوباما انزعاجا. وصف أوباما استراتيجيته حول تنظيم الدولة مطولا، لكن المرة الوحيدة التي أبدى بها انفعالا أكثر من الازدراء كانت عندما حدد الجدل المتزايد عن سياسة أمريكا للاجئين. الحكام الجمهوريون والمرشحون الرئاسيون طالبوا فجأة بمنع الولايات المتحدة لقدوم اللاجئين، إذ عرض تيد كروز قبول اللاجئين السوريين المسيحيين وحسب، وقال كريس كريستي إن كل اللاجئين، “بما فيهم الأيتام تحت الخمس سنوات”، يجب أن يمنعوا من دخول البلاد حتى يتم فحصهم جيدا.
هذه الدعاية أغضبت أوباما بشدة، قائلا: “عندما أسمع أشخاصا يقولون: حسنا، علينا قبول المسيحيين فقط لا المسلمين، عندما أسمع قادة سياسيين يقولون إن هناك اختبارا دينيا يجب إجراؤه لاختبار أولئك الهاربين من البلاد التي تداهمها الحرب، فهذا ليس أمريكيا. هذا ليس نحن. نحن لا نملك اختبارات دينية مقابل تعاطفنا”.
غادرت الرحلة الرئاسية أنطاليا ووصلت بعد ذلك بعشر ساعات إلى مانيلا، وحينها فهم مستشارو الرئيس، بكلمات أحد المسؤولين، إن “جميع من في البلاد فقدوا عقولهم”. سوزان رايس، كمحاولة لفهم القلق المتزايد، بحثت في تلفاز فندقها بيأس على قناة “سي إن إن” لتجد فقط “بي بي سي” و”فوكس نيوز”، وقلبت القناتين، باحثة عن اللئيم، بحسب ما أخبرت من كان معها بالرحلة.
لاحقا، سيقول الرئيس إنه فشل بتقدير الخوف الذي يعيشه الأمريكيون تجاه هجمات شبيهة بباريس في أمريكا، إذ كان البعد والتوقيت المسعور وفارق الضباب الذي تراكم في رحلة أوباما الرئاسية متواطئة ضده، لكنه لم يعتقد أبدا أن الإرهاب قد يشكل تهديدا لأمريكا بنفس قدر الخوف الذي يسببه. حتى خلال فترة عام ٢٠١٤، عندما أعدمت داعش رهائن أمريكيين في سوريا، كانت مشاعره مضبوطة. فاليري جاريت، أقرب مستشاري أوباما، أخبرته أن الناس كانوا قلقين أن التنظيم قد يستمر بحملة قطع الرؤوس في الولايات المتحدة، إلا أنه أخبرها: “لن يأتوا إلى هنا ليقطعوا رؤوس الناس”، كما كان يذكر فريقه دائما أن الإرهاب يقتل أناسا أقل في أمريكا من أولئك المقتولين بالمسدسات، أو حوادث السير، أو السقوط في الحمامات. قبل عدة سنوات، عبر لي أوباما بإعجابه بـ “مرونة” الإسرائيليين بوجه الإرهاب الدائم، ومن الواضح أنه يود أن يرى المرونة تحل محل الهلع في المجتمع الأمريكي.
ومع ذلك، يقاتل مستشاروه بتحرك دائم لمنع أوباما من وضع الإرهاب حيث يعتبره “مناسبا”، حيث سيبدو غير مبال بمخاوف الأمريكيين.
الخوف الذي كان منتشرا بين مستشاري أوباما انتقل نحو البنتاغون ووزارة الخارجية، إذ يبدو أن جون كيري، بدوره، أكثر قلقا من تنظيم الدولة أكثر من الرئيس، فعندما سألته مؤخرا لسؤالا عاما: هل الشرق الأوسط لا زال مهما للولايات المتحدة؟، أجابني تحديدا حول تنظيم الدولة، قائلا: “هذا تهديد لجميع من في العالم، فالتنظيم الساعي لتدمير العالم في الغرب وفي الشرق الأوسط. تخيل ما الذي يمكن أن يحدث إذا لم نقف ونهزمهم، إذا لم نقد تحالفا، كما نقوم الآن. إذا لم نقم بذلك، فإن حلفائنا وأصدقاءنا سينهارون. سيكون هناك هجرات جماعية إلى أوروبا، وهذا سيدمر أوروبا، ويؤدي للدمار المطلق لأوروبا، وينهي المشروع الأوروبي، والجميع سيبحث عن مهرب، وسنكرر ثلاثينات القرن العشرين مجددا، بانتشار القومية والفاشية وكل هذه الأمور. بالطبع لدينا مصلحة في ذلك، مصلحة كبيرة بذلك”.
عندما ذكرت لكيري أن خطاب الرئيس لا يتسق تماما مع ذلك، قال: “الرئيس أوباما يرى كل هذا، لكنه لا ينجرف إليه، فهو يعتقد أننا نقوم بدورنا، كما أنه عزز جهوده، مع محاولته عدم خلق هستيريا بالوقت نفسه. أظن أن الرئيس ملتزم بمحاولته إبقاء الأمور باتزان مناسب. أحترم هذا”.
أوباما يعدل نقاشه حول الإرهاب لعدة أسباب، فهو، بطبيعته، “سبوكي” – نسبة لشخصية سبوك في فيلم ستار تريك -، ويؤمن أن كلمة بغير مكانها، أو نظرة مرتعبة، أو ادعاء مغرقا، قد يجرف البلاد نحو الفوضى. نوع الفوضى الذي يقلق منه الرئيس هو الذي يأخذ شكل المعاداة للمسلمين، أو تحدي الانفتاح الأمريكي والترتيب الدستوري.
الرئيس متضايق كذلك من أن الإرهاب يظل يأخذ معظم أجنداته، خصوصا عندما يرتبط الأمر بإعادة ترتيب الأولويات الأمريكية في العالم. لسنوات، كان “الاتجاه نحو آسيا” أولوية كبيرة بالنسبة إليه، فهو يعتقد أن مستقبل اقتصاد أمريكا يكمن في آسيا، والتحدي الذي يفرضه الصعود الصيني يتطلب الانتباه. منذ أول أيامه بالرئاسة، ركز أوباما على إعادة بناء العلاقات التي كانت فاترة في بعض الأحيان بين الولايات المتحدة وشركائه الآسيوين في المعاهدة، وهو ساع لاصطياد الفرص بسحب الدول الآسيوية الأخرى لمحور أمريكا. انفتاح أوباما الدراماتيكي على بورما كان فرصة كهذه، بينما مثل خوف فيتنام ودول جنوب شرق آسيا الأخرى من الهيمنة الصينية فرصا أخرى.
في مانيلا، في قمة “آيبك”، بدا أوباما مصرا على إبقاء المحادثة مركزة على هذه الأجندة، وليس على ما يعتبره تحدي تنظيم الدولة القابل للاحتواء. وزير أوباما للدفاع، آشتون كارتر، أخبرني قبل مدة ليست طويلة أن أوباما حافظ على تركيزه على آسيا، حتى في الوقت الذي كانت به سوريا وصراعات الشرق الأوسط الأخرى مستمرة بالاندفاع. يعتقد أوباما، بحسب كارتر، أن آسيا “هي الجزء من العالم الذي يمثل الأهمية الكبرى للمستقبل الأمريكي، ولا يوجد رئيس يمكن أن يزيح عينيه عن هذا”، مضيفا أن أوباما “يسأل مرارا، حتى وسط أشياء أخرى تحدث: أين نحن من التوازن الآسيوي ودول المحيط الهادي؟ أين نحن من شروط الموارد؟ كان متمسكا بشدة بذلك، حتى في وقت توترات الشرق الأوسط”.
بعد أن أنهى أوباما تقديمه حول التغير المناخي، انضم لسيدة الأعمال الصينية ما ومجينو، الذين جلسوا على مقاعد متقاربة، حيث كان يستعد أوباما لمقابلتهم على شكل برنامج محادثات في النهار، بمحاولة سعت لإحداث لحظة لعكس الحالة، بجمهور غير مصمم لتحركات كهذه مع زعمائهم. بدأ أوباما بسؤال لسيدة الأعمال ما سؤالا حول تغير المناخ، إلا أنه توافق معه بأنها قضية مهمة، ثم التفت أوباما لمجينيو، المهندسة الشابة المتوافقة مع حماسة أوباما، والتي صممت مع شقيقتها مصباحا يعمل بالماء المالح.
سألها أوباما: “فقط لتتضح لي الأمور، آيسا، ببعض الماء المالح يمكن أن يعطي جهازك ضوءا لمدة ثمان ساعات، ما لم أكن مخطئا؟”.
فأجابته: “ثمان ساعات”.
أوباما: “وهو بعشرين دولارا؟”.
مجينو: “حول العشرين دولارا”.
فقال أوباما: “أظن أن آسيا مثال ممتاز لما نراه في البلدان الأخرى؛ رواد أعمال شباب يأتون بتقنيات جديدة، بنفس الطرق التي تحصل في مناطق كبيرة من آسيا وأفريقيا، حيث لم تعد الهواتف الأرضية مستخدمة”، حيث أصبحت الهواتف المحمولة مستخدمة بشكل كبير. شجع أوباما جاك ما لتمويل عملها قائلا: “على فكرة، لقد فازت بالكثير من الجوائز، وحصلت على الكثير من الاهتمام، لذلك فهذا ليس أحد البرامج الدعائية”، ثم ضحك.
في اليوم التالي، على متن الطائرة الرئاسية المتوجهة لكوالالمبور، ذكرت لأوباما أنه يبدو سعيدا بحديثا مع ما ومجينو، ثم ابتعدت عن آسيا، سائلا إياه إذا كان هناك أي شيء في الشرق الأوسط يسعده، فأجاب: “في الوقت الراهن، لا أظن أن هناك أي أحد يمكن أن يشعر جيدا تجاه الحالة في الشرق الأوسط، فهناك بلدان تفشل بتأمين الازدهار والفرصة لشعوبها، وهناك أيديولوجيا متطرفة عنيفة، أو أيديولوجيات، مشحونة بشدة عبر الإعلام الاجتماعي. هناك بلدان لديها القليل جدا من التقاليد المدنية، ولذلك فبينما تبدأ الأنظمة المستبدة بالانهيار، لا تظهر مبادئ ناظمة سوى الطائفية”.
وتابع: “بعكس ما يحصل في جنوب شرق آسيا، حيث لا زال هناك مشاكل ضخمة – الفقر الشديد والفساد – لكنها مليئة بأشخاص طموحين ومكافحين ومشحونين ويسعون كل يوم لبناء أعمال والحصول على تعليم ووظائف وبناء بنية تحتية. الفرق شاسع جدا”.
بآسيا، كما هو الحال في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، بحسب أوباما، فهو يرى أشخاصا شباب يسعون للتطور الذاتي، والحداثة، والتعليم، والثروة المادية.
ثم قال أوباما ملاحظة أدركت أنها تمثل أقتم وأعمق فهم لأوباما حول الشرق الأوسط، ليست ذلك النوع من الفهم الذي لا زال البيت الأبيض متمحورا حول سمات الأمل والتغيير الذي يريد إظهارها، قائلا: “إذا لم نكن نتحدث إليهم – إلى الشباب الآسيويين والأفريقيين والأمريكيين اللاتينيين، فلأن الشيء الوحيد الذي نقوم به هو تحديد كيفية تدمير أو تطويق أو التحكم بالأجزاء العدمية والعنيفة والخبيثة من الإنسانية، ولذلك فنحن نفقد البوصلة”.
نقاد أوباما يقولون إنه غير فعال بتطويق العدميين العنيفين من الإسلام الراديكالي لأنه لا يفهم التهديد، فهو يقاوم تصنيف الإسلام الراديكالي ضمن “صراع الحضارات” الذي نشره العالم السياسي صمويل هنتنجتون، لكن هذا، كما يقول هو ومستشاروه، لأنه لا يريد أن يضخم صفوف العدو، إذ قال جون برينان، مدير المخابرات الأمريكية المركزية: “الهدف هو عدم فرض نموذج هنتنجتون في هذا الصراع”.
كل من فرانسوا هولاند وديفيد كاميرون تحدثا عن تهديد الإسلام الراديكالي بمصطلحات هنتنجتون، وسمعت أن كلا الرجلين يتمنيان أن يتحدث أوباما بصيغة أكثر وضوحا عند نقاش المشكلة. عندما ذكرت ذلك لأوباما قال لي: “هولاند وكاميرون استخدما مصطلحات مثل الإسلام المتطرف، والتي لا نستخدمها كثيرا ضمن طريقتنا لمكافحة الإرهاب. لكنني لم أسمع منهما يوما كلمات مثل: يا رجل، كيف لا تستخدم هذه العبارة بنفس الطريقة التي تسمعها من الجمهوريين؟”، مضيفا أنه طالب من زعماء المسلمين القيام أكثر لإنهاء تهديد التطرف العنيف، بقوله: “من الواضح ما أعنيه، وهو أن هناك تأويلا عنيفا وراديكاليا ومتعصبا وعدميا للإسلام عبر فصيل ما – وهو صغير – داخل المجتمع المسلم يمثل عدونا، ويجب هزيمته”.
ثم قدم انتقادا بدا لي متسقا مع خطاب كاميرون وهولاند: “هناك حاجة للإسلام ككل لتحدي ذلك التأويل للإسلام، وعزله، ولخوض نقاش طويل داخل المجتمع عن كيفية عمل الإسلام كجزء من مجتمع حديث ومسالم”، مضيفا بقوله: “أنا لا أقنع المسلمين المتسامحيين السلميين بالمشاركة بهذا النقاش لو لم أكن حسسا لقلقهم من كونهم محددين بفرشاة عريضة”.
بمقابلات خاصة مع زعماء آخرين، ناقش أوباما أنه لا يوجد حل شامل للإرهاب الإسلامي، حتى يتصالح الإسلام نفسه مع الحداثة، ويتسق مع بعض الإصلاحات الشبيهة التي غيرت المسيحية.
ومع ذلك فهو يناقش، جدليا، بأن صراعات الشرق الأوسط “ترجع لألفية في الزمان”، كما يعتقد أن الخوف المسلم المكثف من السنوات الأخيرة حفزته دول صديقة للولايات المتحدة. في اجتماع خلال قمة “آيبك” مع مالكولم ترنبول، رئيس وزراء أستراليا الجديد، وصف أوباما كيف شاهد إندونيسيا تنتقل تدريجيا من الإسلام المرتاح التوفيقي إلى تأويل أكثر تطرفا وأقل تسامحا، حيث تبنت الكثير من الأندونيسيات الحجاب.
سأل ترنبول: “لما يحدث هذا؟”، فأجاب أوباما لأن السعوديين والدول الأخرى دفعت بالأموال، وأعداد كثيرة من الأئمة والأساتذة، نحو البلاد، ففي التسعينات، مول السعوديون بشدة المدارس الوهابية، التي تعلم النسخة الهوياتية من الإسلام والتي تفضلها العائلة الحاكمة السعودية، واليوم فإن الإسلام في أندونيسيا أكثر توجها نحو العربية عما كان عليه عندما عاش أوباما هناك، بحسب قوله.
سأله ترنبول: “أليس السعوديون أصدقائك؟”.
فابتسم أوباما، وقال: “الأمر مقعد”.
صبر أوباما من السعودية كان محدودا دائما. في تعليقه الأول الملاحظ على السياسة الخارجية، أثناء خطاب عام ٢٠٠٢ في مظاهرة ضد الحرب في شيكاجو، قال أوباما: “أنت تريد قتالا أيها الرئيس بوش؟ تعال نتقاتل لنتأكد أن من يدعون حلفاءنا في الشرق الأوسط – السعوديين والمصريين – يتوقفون عن قمع شعوبهم واضطهاد معارضيهم والسماح بالفساد وعدم المساواة”. في البيت الأبيض هذه الأيام، يسمع الشخص مسؤولي أوباما في مجلس الأمن القومي، وهم يذكرون مرارا بأن غالبية من قاموا بهجمات ١١ أيلول/ سبتمبر ليسوا إيرانيين، بل سعوديين، ويحشد أوباما نفسه ضد كراهية النساء التي تسمح بها الدولة، مناقشا بشكل خاص أن “دولة لا تستطيع العمل في العالم الحديث إذا كانت تقمع نصف شعبها”، وفي لقاءات مع قادة أجانب، قال أوباما: “أنت تحكم على نجاح مجتمع ما عبر كيفية معاملته للنساء”.
غضبه من السعوديين يظهر تحليله لسياسات القوى في الشرق الأوسط. في نقطة ما، ذكرت له أنه أقل شبها بالرؤساء السابقين من حيث الانحياز الكبير للسعودية في نزاعها مع عدوتها: إيران. ولم يعترض.
قال أوباما: “إيران منذ عام ١٩٧٩ كانت عدوا للولايات المتحدة وشاركت في رعاية الإرهاب، وهي تهديد حقيقي لإسرائيل والكثير من حلفائنا، وتشارك في كل أنواع النشاطات المدمرة، ونظرتي لها لم تكن يوما أننا يجب أن نتخلى عن حلفائنا التقليديين – السعوديين – لأجل إيران”.
لكنه استمر كذلك بأن السعوديين يجب أن “يتشاركوا” الشرق الأوسط مع أعدائهم الإيرانيين، “فالتنافس بين السعوديين والإيرانيين، الذي ساعد على تغذية الحروب بالوكالة والفوضى في العراق وسوريا واليمن، يتطلب منا أن نقول لأصدقائنا وللإيرانيين أنهم يجب أن يجدوا طريقة لمشاركة الجيرة ومأسسة بعض السلام البارد، فقد قلنا لأصدقائنا في أحد المساعي: أنتم على حق، إيران هي سبب كل المشاكل، وسندعمكم بالتعامل مع إيران، يعني جوهريا أنه بينما تستمر هذه الصراعات الطائفية بالاستعار، ولا يملك شركاؤنا في الخليج، أصدقاؤنا التقليديون، القدرة على إطفائها بأنفسهم، أو الانتصار بشكل حازم بأنفسهم، ويعني أننا سنبدأ باستخدام قوتنا العسكرية للتهدئة، وهذا لن يكون بصالح الولايات المتحدة ولا الشرق الأوسط”.
أحد أكثر القوات تدميرا في الشرق الأوسط، بحسب ما يعتقد أوباما، هو القبلية، التي لا يستطيع أي رئيس التطبيع معها، والتي أصبحت جلية في الطائفة أو الجماعة أو القرية من المدنيين اليائسيين في الدول الفاشلة، ومصدر الكثير من مشاكل الشرق الأوسط، ومصدرا آخرا لتخليه. أوباما لديه احترام كبير للتدمير الكبير للقبلية – جزء من كتابه: أحلام من أبي، تقلق من الطريقة التي هيمنت على كينيا بعد الاستعمار وساعدت بتدمير حياة أبيه – والتي تفسر سبب حساسيته الشديدة من تجنبه المشاركة في الصراعات القبلية.
أخبرني قائلا: “الريبة من القبلية في دمي حرفيا، فأنا أفهم الدافع القبلي، وأعترف بالانقسام القبلي، وقد كنت أوجه الانقسامات القبلية طيلة حياتي، وفي النهاية، فهي المصدر للكثير من التصرفات المدمرة”.
—————
أثناء السفر إلى كوالالمبور مع الرئيس، تذكرت إشارة عابرة قالها لي عن النقاش الهوبزي للحكومة القوية بكونها ترياقا لحالة الطبيعة القاسية. عندما ينظر أوباما للشرق الأوسط، فهو يستذكر “حرب الجميع ضد الجميع” التي تحدث عنها هوبز، قائلا: “لدي إدراك أننا نمثل دور مخالب وحش الليفاثيان ونحاول ترويض بعض هذه الاندفاعات”. لذلك حاولت فتح الموضوع بسؤال طويل، من بين أمور أخرى، حول “الإدراك الهوبزي لتنظيم الناس ضمن جماعات لتجنب خوفهم الأكبر وهو الموت”.
بين رودز وجوشوا إيرنست، الناطقان باسم البيت الأبيض، واللذان كانا جالسين على كرسي جانب مكتب أوباما في الطائرة الرئاسية، بالكاد استطاعا إخفاء استمتاعهما من استطرادي، فتوقفت وقلت: “أراهن لو أنني سألت هذا السؤال في مؤتمر صحفي فإن زملائي سيطردونني من الغرفة”.
فقال أوباما: “سأستمتع بهذا، لكن الجميع سيحرك رأسه حائرا”.
قاطعنا رودز: “لماذا لا نستطيع القضاء على الأوغاد؟”، في السؤال الذي سأله مراسل “سي إن إن” بالمؤتمر الصحفي في تركيا وأصبح موضوعا لمحادثات تهكمية خلال الرحلة.
فقلت له: “صحيح، ولماذا لا نستطيع القضاء على الأوغاد؟”.
اختار السؤال الأول، وأجاب قائلا: “انظر، أنا لا أتبنى وجهة النظر التي تقول أن الإنسان يولد شريرا، وأظن أن هناك خيرا أكثر من الشر في الإنسانية، وإذا نظرت إلى التاريخ فأنا متفائل”.
وتابع: “أعتقد بشكل عام أن الإنسانية أصبحت أقل عنفا وأكثر تسامحا وصحة وأفضل تغذية وأكثر عطفا وأقدر على إدارة الاختلاف، لكن هذا متفاوت بشكل كبير. والذي أصبح واضحا خلال القرنين الأخيرين هو أن التقدم الذي نقوم به في النظام الاجتماعي وترويض أشد صراعاتنا لؤما وتجاوز مخاوفا يمكن أن يتم التراجع عنه بسرعة. النظام الاجتماعي يبدأ بالانهيار إذا كان الناس تحت ضغط كبير، ثم ترجع للحالة التقليدية العشائرية ونحن مقابل هم، والعداوة تجاه غير المعروف أو الآخر”.
وواصل حديثه: “الآن، عبر الكرة الأرضية، أنت ترى أماكن تمر بتوترات شديدة بسبب العولمة، بسبب تصادم الثقافات التي جلبها الإنترنت والإعلام الاجتماعي، بسبب نقص الموارد – والتي ستصبح سمة عامة خلال العقود المقبلة مع التغير المناخي – بسبب النمو السكاني. وفي هذه الأماكن يأتي الشرق الأوسط في النوع الأول، حيث يكون المكان الطبيعي للكثير من الناس هو التنظيم بدقة في القبيلة، ودفع أو ضرب الآخر والمختلف”.
وأكمل أوباما: “تنظيم مثل تنظيم الدولة هو تقطير لأسوأ الصراعات على كل هذه الخطوط. فكرة بأننا تنظيم صغير يحدد نفسه بشكل رئيسي بالدرجة التي نستطيع بها قتل الناس الذين لا يشبهوننا ومحاولة فرض أرثذوكسية صلدة لا تنتج شيئا، وتحتفي بلا شيء، وتناقض كل جزئية في التقدم الإنساني، محور للدرجة التي يمكن أن تتجذر بها عقلية كهذه وتكتسب أتباعا في القرن الحادي والعشرين”.
سألته: “إذا فإن تقديرك لقوة القبيلة يجعلك تريد الابتعاد؟ بمعنى آخر، عندما يقال الناس: لماذا لا تقضي على الأوغاد؟ فأنت تتراجع؟”.
فقال: “علينا تحديد الأدوات الأفضل لدفع هذا النوع من التوجهات، وسيكون هناك أوقات لا يوجد بها أي أدوات لأنها لا تمثل تهديدا مباشرا علينا، أو لأننا لا نملك الأدوات التي تؤثر كثيرا، مما يمنعنا لأن نقفز بكلا قدمينا”.
سألت أوباما ما إذا كان سيرسل المارينز إلى رواندا عام ١٩٩٤ لإيقاف المجزرة التي كانت تحصل، لو كان رئيسا في ذلك الوقت، فقال: “بالنظر لسرعة القتل التي حصلت حينها، وكم استغرق الأمر لتفعيل الحكومة الأمريكية، فأنا أفهم لماذا لم نتحرك بسرعة”، أما الآن فيجب أن نتعلم من ذلك، وأظن أن رودانا حالة مثيرة للاهتمام لأنه من المحتمل – غير المضمون، ولكن المحتمل – أنها كانت حالة كان تطبيق القوة السريع بها كافيا”.
وربط ذلك بسوريا قائلا: “من الساخر أنه من الأسهل نقاش أن قوة صغيرة أدخلت بسرعة بدعم دولي جنبت مجزرة متزايدة (بنجاح أكبر في رواندا) مما هو في سوريا الآن، حيث أن درجة تسليح التنظيمات المختلفة ودرجة شدة المقاتلين ودرجة دعمهم من عوامل خارجية مختلفة بالعديد من المصادر تتطلب التزاما أكبر من القوات”.
—————
مسؤولو إدارة أوباما يناقشون أنه يملك خطة كاملة لمكافحة الإرهاب: قوة من الطائرات بدون طيار، غارات من القوات الخاصة، جيشا سريا من ١٠ آلاف مقاتل مدعومين من “السي آي إيه” في سوريا. إذا، لماذا يتعثر أوباما عند توضيحه للشعب الأمريكي أنه يهتم كذلك بالإرهاب؟
مؤتمر تركيا الصحفي، بحسب ما أخبرته، “كان لحظة لك كسياسي لتقول: نعم، أنا أكره الأوغاد كذلك، وعلى فكرة، فأنا أقضي عليهم”. الأمر الأسهل كان إعادة ضمان للأمريكيين بمصطلحات عميقة أنه سيقتل أولئك الأشخاص وأنه يريد قتلهم. هل يخاف من ردة فعل غير محسوبة باتجاه غزو للشرق الأوسط؟ أم أنه سياسي سبوكي – نسبة لشخصية سبوك في فيلم ستار تريك – غير قابلة للتغيير؟
أجابني: “كل رئيس له نقاط قوة ونقاض ضعف، وليس هناك شك أن هناك أوقاتا لم أنتبه بها بما يكفي للمشاعر والعواطف والسياسة بإيصال ما الذي نقوم به وكيف نقوم به”.
لكن لتنجح أمريكا بقيادة العالم، بسحب رأيه، “فأنا أعتقد أننا يجب أن نتجنب السطحية. أظن أن علينا بناء المرونة والتأكد من أن نقاشاتنا السياسية مبنية على الواقع. ليس الأمر أنني لا أقدر قيمة المسرح في الإعلام السياسي، لكن العادات التي دخلنا بها – كإعلام وسياسيين -، وكيف نتحدث عن هذه القضايا، منفصلة جدا عادة عما يجب أن نقوم به، بطريقة، تبدو برأيي، لإرضاء قنوات الأخبار وتدفعنا لاتخاذ قرارات أسوأ وأسوأ مع الوقت”.
عندما بدأت الطائرة الرئاسية بالهبوط في كوالالمبور، ذكر الرئيس الجهد الناجح الذي قادته أمريكا لإيقاف وباء إيبولا غرف أفريقيا كمثال إيجابي لإدارة ثابتة وغير هستيرية لأزمة مرعبة، قائلا: “خلال الشهرين اللذين كان الجميع متأكدا بهما أن إيبولا كان سيدمر الأرض وكان هناك تغطية دائمة للوباء؛ لو أنني غذيت الهلع أو ضللت الطريق نحو: هذه هي الحقائق، وهذا ما نحتاجه وكيف سنتعامل معه، احتمالية إصابتكم بالإيبولا كبيرة، وهذا ما يجب أن نقوم به محليا وعالميا لمواجهة الوباء، فإن الجميع سيقول إن أوباما يأخذ الموضوع بجدية كما ينبغي، لكن تغذية الهلع بالتحركات المبالغ بها قد يوقف الرحلات من وإلى البلدان الأفريقية التي تعاني من الفقر المطقع، بطرق قد تدمر اقتصادها، مما يعني، ضمن أشياء أخرى، استمرار المرض”.
وأضاف: “هذا يعني أننا ضيعنا موارد كثيرة في أنظمة الصحة العامة لدينا واكن يجب توجيهها نحو لقاحات الإنفلونزا والأشياء الأخرى التي تقتل الناس بكثرة في أمريكا”.
هبطت الطائرة، وبدا أن الرئيس الجالس باسترخاء على كرسيه ويخلع معطفه ويفك ربطة عنقه، لم يلاحظ، بينما استطعت رؤية ما بدا أنه عدد كبير من القوات الماليزية المسلحة المجتمعة لاستقباله. بينما واصل حديثه بدأت بالقلق من أن الجنود المنتظرين وكبار الشخصيات سيتضايقون، فقت له: “أظننا أصبحنا في ماليزيا”.
قال لي إنه محق، لكنه لم يبد مستعجلا، لذلك ضغطته حول ردة فعله العامة عن الإرهاب: إذا أظهر المزيد من التعاطف، ألن يهدئ ذلك الناس بدل أن يغضبهم؟”.
قال لي: “لدي أصدقاء لديهم أبناء في باريس الآن، وأنت وأنا والكثير ممن يكتبون عما جرى في باريس تجولوا في نفس الشوارع التي قتل بها الناس، ومن الصحيح أن تشعر بالخوف، ومن المهم لدينا ألا نصبح لا مبالين. هناك فرق بين المرونة واللامبالاة”، متابعا لوصف فرق آخر بين اتخاذ قرارات محددة وأخرى عاطفية متعجلة، بقوله إن “ما يعني هو أنك تهتم كثيرا بأنك تريد أن تصحح الأمور ولن تنجرف بردود متهورة وأحيانا متصنعة تنتج شكلا جيدا لكن بدون نتائج. الرهان كبير جدا للعب هذه الألعاب”.
ومع هذه الكلمة، وقف أوباما وقال: “حسنا، علي الذهاب”، وتوجه خارج مكتبه وعلى الدرج إلى السجادة الحمراء والحرس الرئاسي والمسؤولين الماليزيين الذين ينتظرونه لاستقباله، ومنها إلى سيارته الليموزين المصفحة، التي سبقته إلى كوالالمبور. (في بداية رئاسته الأولى، حين لم يكن معتادا على العملية العسكرية الضخمة التي يتطلبها انتقال رئيس من مكان لآخر، قال بأسف لمساعديه: “أنا لدي أكبر آثار أقدام في العالم”).
المحطة الأولى للرئيس كانت حدثا مصمما لإظهار العودة إلى آسيا، وهذه المرة بلقاء مع طلاب ورواد أعمال في إدارة “مبادرة قادة الشباب الجنوب شرق آسيويين”، حيث دخل أوباما صالة المحاضرات في جامعة تايلور لحشد كبير، وقام ببعض الملاحظات الافتتاحية، ثم أعطى الجمهور جلسة طويلة من الأسئلة والأجوبة.
لكننا نحن الجالسين في قسم الصحافة بدونا مشتتين من الأخبار القادمة عبر الهواتف عن هجوم جهادي جديد، هذه المرة في مالي. أوباما، الذي كان يرد على أسئلة رواد الأعمال الآسيويين، لم يكن يعلم، وعندما عاد إلى سيارته مع سوزان رايس تلقى الأخبار.
لاحقا في ذلك المساء، زرت الرئيس في جناحه في فندق ريتز كارلتون في كوالالمبور، حيث كانت الشوارع حول الفندق مغلقة، وأحاطت العربات المصفحة بالفندق، وكانت الردهة مليئة بفرق التدخل السريع. أخذت المصعد إلى الطابق المليء بعناصر الخدمة السرية، الذين أشاروا لي إلى درج، لأن المصعد المتوجه إلى غرفة أوباما كان معطلا لأسباب أمنية. وبعد طابقا، وإلى ردهة مليئة بالمزيد من العناصر، وانتظار لمدة لحظة، فتح أوباما الباب. جناحه المكون من طابقين كان غريبا. ستائر شبيهة بتارا، وكنبات محشوة. لقد كان ضخما ووحيدا وخانقا في الوقت نفسه.
قلت له: “إنه شبيه بقلعة هارست”، فقال لي: “حسنا، إنه مختف جدا عن الهامبستون إن في ديس موينس”، بينما كانت قناة “ESPN” تعمل في الخلفية.
عندما جلسنا، أشرت للرئيس عن التحدي المركزي بالانتقال إلى آسيا. سابقا في ذلك اليوم، في اللحظة التي كان يحاول بها إلهام مجموعة من رائدات الأعمال المحجبات والموهوبات والمبادرين البورميات، كان الانتباه موجها لآخر هجوم إسلامي إرهابي.
أحد الكتاب اقترح علي: “هذه طريقة سهلة لتبدأ قصتك”، في إشارة لهذه المقالة، فقلت له إنها خدعة رخيصة نوعا ما.
قال لي أوباما: “رخيصة لكنها تعمل. نحن نتحدث لهؤلاء الشباب، ثم يحصل هذا الهجوم فجأة”.
ذلك اليوم حفز محادثة عن لقائين قام بهما، أحدهما ولد جدلا دوليا كبيرا، والآخر لم يحفز شيئا، إذ كان الذي حفز الانتباه، هو القمة مع قادة الخليج في كامب ديفيد في أيار/ مايو ٢٠١٥، والتي كانت تسعى لتهدئة مخاوف حشد من الشيوخ والأمراء الزائرين من الصفقة الإيرانية. أما الثانية، فكانت التي حصلت بعد ذلك بشهرين في المكتب البيضاوي بين أوباما والأمين العام للحزب الاشتراكي الفيتنامي نجوين فو ترونج، والذي حصل لأن جون كيري فقط دفع البيت الأبيض لانتهاك بروتوكول، إذ أن الأمين العام لم يكن رئيسا.
لكن الأهداف تحققت: أوباما أراد حشد الفيتناميين ضمن الشراكة العابرة للمحيط الهادي، إذ حصل مفاوضوه على وعود من الفيتناميين بالسماح باتحادات العمال المستقلة، وأراد تعميق التعاون في قضايا إستراتيجية. المسؤولون الرسميون ألمحوا مرارا لي أن فيتنام يوما ما ستكون محلا لتواجد أمريكي عسكري دائم، لمواجهة طموحات الدولة الأكثر إخافة الآن: الصين. عودة البحرية الأمريكية إلى خليج “كام رانه” الآن سيعتبر واحدة من أكثر التطورات غير المتوقعة في التاريخ الأمريكي الحديث.
قال لي أوباما: “نحن حركنا الحزب الاشتراكي الفيتنامي ليعترف بحقوق العمال بطريقة لا يمكن أن نقوم بها إطلاقا بإخافتهم أو التنمر عليهم”، معتبرا ذلك انتصارا أساسيا بحملته القائمة على استبدال التلويح بالعصا بالإقناع الدبلوماسي.
أشرت إلى أن ما يقارب ٢٠٠ طالب من جنوب شرق آسيا أو أكثر ذلك اليوم – بما فيهم مواطنون من بلدان محكومة بالشيوعية – بدوا يحبون أمريكا، فقال لي أوباما: “هم كذلك. في فيتنام الآن، أمريكا تحصل على ٨٠ بالمئة”.
وقال أوباما إن “الانتشار الكبير لأمريكا في جنوب شرق آسيا يعني أننا نستطيع القيام بأمور كبيرة ومهمة حقا، والتي تترك تأثيرات كبيرة عالميا، فعندما تنضمن ماليزيا للحملة المضادة لتنظيم الدولة، فهذا يساعدنا بتقليل الموارد ويعزز مصداقيتنا بحربنا ضد الإرهاب. عندما نملك علاقات قوية مع أندونيسيا فهذا يساعدنا عندما نذهب لباريس ونناقش اتفاقية للمناخ، حيث يكون غضب روسيا أو بلدان أخرى يحرف الصفقة بطريقة غير مجدية”.
ثم استشهد أوباما بتأثير أمريكا المتزايد في أمريكا اللاتينية، والذي يزداد جزئيا بسبب حظر كبير بحجم منطقة كاملة عندما أعاد العلاقات ع كوبا، في دليل أن مسعاه المتأني وغير المهدد والمرتكز على الدبلوماسية في العلاقات الخارجية يعمل.
حركة “ألبا”، وهي مجموعة من حكومات دول أمريكا اللاتينية المتمحورة حول معاداة أمريكا، ضعفت جدا خلال رئاسته، إذ قال أوباما: “عندما أتيت للرئاسة، وفي القمة الأولى للأمريكيتيين، كان هوجو تشافيز، الديكتاتور الفنزويلي المعادي لأمريكا، الشخصية المهيمنة في المحادثات، إلا أننا قمنا بقرار إستراتيجي ومبكر حينها، والتي كانت بدل إزالته، لهذا العملاق الضخم ذي رجل العشرة أقدام، قلنا: نحن لا يعجبنا ما يجري في فينزويلا، لكنه لا يهدد الولايات المتحدة”.
أوباما قال إنه لتحقيق هذا التوازن، كان على الولايات المتحدة أن تمتص المساجلات والإهانات لكاسترو، قائلا: “عندما رأيت تشافيز، صافحته، وأعطاني بالمقابل نقدا ماركسيا لعلاقة أمريكا بأمريكا اللاتينية، وكان علي أن أجلس وأستمع لدانيال أورتيجا، رئيس نيكارجوا اليساري الراديكالي، لهجومه الذي استمر ساعة ضد الولايات المتحدة، لكن وجودنا هناك، وعدم أخذ كل هذا على محمل الجد، لأنه لم يكن تهديدا لنا، ساعد بتطبيق المنطقة ضد المعادة لأمريكا.
عدم رغبة الرئيس بمواجهة الهجوم من خصوم أمريكا يمكن أن يكون غير مرض عاطفيا، بحسب ما قلت له، وأخبرته أنني أود في كثير من الأحيان أن أرى أوباما يعطي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الإصبع، مع أنه رجعي.
وأجابني: “نعم، هذا ما يبحثون عنه”، كما وصف العلاقة مع بوتين بأنها لا تتسق مع التوجهات العامة، فقد كنت لا زلت تحت انطباع وصف أوباما لبوتين بأنه نذل وأحمق وقصير، إلا أنه استدرك وقال لي إنه ليس نذلا تماما، موضحا بقوله: “الحقيقة أن بوتين كان في كل لقاءاتنا مؤدبا وصريحا، لأن لقاءاتنا أشبه بإنجاز الأعمال، فهو لا يبقيني منتظرا لساعتين كما يفعل مع بقية الرؤساء”.
قابل أوباما إن بوتين يعتقد أن علاقته مع أمريكا مهمة أكثر مما يعتقد الأمريكيون، “فهو مهتم دائما برؤية مبعوثنا والعمل معنا، لأنه ليس غبيا بالكلية، فهو يفهم أن دور روسيا بالعالم كله تراجع، والحقيقة أن احتلاله للقرم أو دعمه للأسد لا يجعله لاعبا دوليا. أنت لا تراه في أي اجتماع وهو يساعد بوضع الأجندة، ولذلك فليس هناك اجتماع لقمة العشرين يشارك الروس بوضع الأجندة به حول أي قضية مهمة”.
—————
احتلال روسيا للقرم بداية عام ٢٠١٤، وقرارها باستخدام القوة لدعم وكيلها بشار الأسد، اقتباسه ناقدو أوباما كدليل على أن عالم ما بعد الخط الأحمر لم يعد يخيف أمريكا.
عندما تحدثت مع الرئيس في المكتب البيضاوي نهاية كانون الثاني/ يناير، رفعت سؤال المصداقية المتدهورة مجددا، بقولي إن “الحوار الجاري أن فلاديمير بوتين رآك في سوريا وفكر: إنه منطقي جدا، وعقلاني جدا، ومنجرف جدا في إيقاف النفقات. سأدفعه قليلا في أوكرانيا”.
أوباما لم يعجبه خطي من الاستجواب، قائلا: “انظر، هذه النظرية تنتهي بعدم قدرتي على فهم هذه النظرية. أنا لا أظن أن أي شخص فكر أن جورج بوش كان منطقيا زيادة أو فضوليا حول استخدام القوة العسكرية، وكما أذكر، لأنه لا يبدو أن أحدا يذكر ذلك، بوتين دخل جورجيا أثناء فترة حكم بوش، أثناء نشرنا أكثر من ١٠٠ ألف جندي في العراق”.
أوباما كان يشير إلى احتلال بوتين لجورجيا عام ٢٠٠٨، الجمهورية السوفييتية السابقة، والتي أخذها لنفس الأسباب التي احتل لأجلها أوكرانيا لاحقا، لإبقاء جمهورية سوفيتية سابقة في مجال تأثير روسيا.
وتابع: “أوباما تحرك في أوكرانيا ردا على دولة وكيلة كانت على وشك أن تخرج من قبضته، وارتجل بطريقة تسمح له بالحفاظ على سيطرته هناك، وقام بالأمر نفسه في سوريا، بثمن باهظ في بلده نفسها، وفكرة أن روسيا، بشكل ما، في موقف أقوى الآن، في سوريا أو أوكرانيا، أكثر مما كانت عليه قبل احتلال أوكرانيا أو قبل نشر قواته في سوريا فهو يسيء فهم طبيعة القوى في السياسة الخارجية أو في العالم بشكل جوهري. القوة الحقيقية تعني أنك تستطيع الحصول على ما تريد بدون اللجوء لعنف مطلق، إذ كانت روسيا تبدو أقوى بشكل أكبر عندما بدت أوكرانيا كدولة مستقلة، لكنها كانت كحالة (حكم لصوص) تسمح له بسحب الخيوط”.
نظرية أوباما هنا بسيطة: أوكرانيا تدخل في صميم المصالح الروسية، لكنها ليست كذلك بالنسبة لأمريكا، لذلك تستطيع روسيا أن تحافظ على هيمنة تزايدة هناك.
قال أوباما: “الحقيقة أن أوكرانيا، الدولة التي لا تدخل في الناتو، ستكون هشة أمام أي هيمنة عسكرية مهما حاولنا”.
سألت أوباما ما إذا كان موقفه من أوكرانيا واقعا أم حالما، فأجاب: “إنه واقعي، لكنه مثال يوضح لنا كيف يجب أن نكون واضحين جدا حول ماهية مصالحنا الجوهرية وعن ماهية ما سنخوض حروبها لأجله؛ ففي النهاية هناك دائما بعض الالتباس”. ثم عرض انتقادا سمعه موجها له، بغرض تفنيده، قائلا: “أظن أن أفضل نقاش يمكن القيام به لجانب أولئك المنتقدين لسياسة الخارجية هي أن الرئيس لا يكشف الغموض كما ينبغي، ولا يقوم بردات فعل بطرق تسمح للأشخاص بالتفكير: واو، هذا الشخص مجنون قليلا”.
قلت له: “مسعى (نيكسون المجنون) يربك ويخيف أعدائك بجعلهم يعتقدون أنك قادر على ارتكاب تصرفات غير منطقية”، فأجابني: “لكن دعنا نحلل نظرية نيكسون، إذا نحن أسقطنا المزيد من العتاد على كمبوديا ولاوس أكثر مما أسقطناه على أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك، انسحب نيكسون، وذهب كيسنجر إلى باريس، وكل ما تركناه كان الفوضى والمذابح والحكومات الاستبدادية التي ظهرت من الجحيم في النهاية. عندما أذهب لزيارة هذه البلدان، سأحاول توضيح كيفية مساعدتهم بإزالة القنابل التي لا زالت تقطع أقدام أطفالهم. كيف ساهمت هذه الطريقة بتعزيز مصالحنا بأي شكل؟”.
لكن ماذا سيحصل إذا حاول أوباما بالتحرك ضد ملدوفا مثلا، دولة هشة من حقبة ما بعد السوفييت؟ ألن يكون من المفيد أن يعتقد بوتين أن أوباما سيغضب ويكون غير منطقي؟
أجاب أوباما: “ليس هناك دليل في السياسة الخارجية الأمريكية أن هذه هي طريقة استجابة الناس. الناس يستجيبون بناء على الضرورات، وإذا كان هذا مهما لشخص ما، فهو مهم لنا، وهم يعلمون ذلك، ونحن نعلم ذلك”، موضحا بقوله: “بالطبع هناك طرق للردع، لكنها تتطلب منك أن تكن واضحا مسبقا بخصوص ما الذي يستحق خوض حرب لأجله، وما الذي لا يستحقه. والآن، إذا كان هناك شخص هنا سيدعي أننا يجب أن نذهب للحرب مع روسيا لأجل القرم وشرق أوكرانيا، فليوضح ذلك تماما. الفكرة أن الحديث الكبير أو المشاركة ببعض التحركات العسكرية التي تمس تلك المنطقة تحديدا هو شيء سيؤثر على صناعة القرار بروسيا والصين هو أمر مناقض لكل ما رأيناه خلال الخمسين عاما الأخيرة”.
أوباما ذهب بقوله إلى أن الاعتقاد بقدرات القوة الممنهجة مرتبط بـ”الأساطير” حول سياسة رونالد ريجان الخارجية، قائلا: “إذا فكرت بأزمة رهائن إيران على سبيل المثال، فهناك خطاب ينشر اليوم من بعض المرشحين الجمهوريين أن ريجان انتخب لأنه بدا قويا، وجعل الإيرانيين يقررون: من الأفضل أن نترك هؤلاء الرهائن، أما الحقيقية فما حصل هو مفاوضات طويلة مع الإيرانيين، ولأنهم لم يحبوا كارتر إطلاقا – حتى مع استكمال المفاوضات – فهم أطلقوا الرهائن في اليوم الذي انتخب فيه ريجان، أما وضعه وخطابه .. الخ، فهي لا علاقة لها بإطلاق سراحهم. عندما تفكر بالإجراءات العسكرية التي اتخذها ريجان، فإن لديك جرينادا – التي من الصعب نقاش دورها بتشكيل دورنا بأحداث العالم، بالرغم من أنها خدمته محليا، ولديك قضية إيران – كونترا، التي دعمنا بها المسلحين اليمينيين ولم يحصل شيء لتعزيز صورتنا في أمريكا الوسطى، ولم تكن ناجحة إطلاقا”، كما ذكرني بأن عدو ريجان الأكبر، دانيال أورتيجا، لا زال اليوم رئيس نيكارجوا غير النادم.
أوباما اقتبس كذلك من قرار ريجان بسحب القوات الأمريكية من لبنان بعد أن قتل ٢٤١ جندي في هجوم حزب الله عام ١٩٨٣، “فيبدو أن كل هذه الأشياء ساعدتنا لاستعادة المصداقية بين الروس والصينيين”، لأنها “السردية المستخدمة”، بحسب قوله ساخرا، ثم أضاف: “أما الآن، فأنا أعتقد أن ريجان نجح بشكل كبير في السياسة الخارجية، عبر استغلال فرصة لتثميل جورباتشوف والمشاركة بعمليات دبلوماسية ممتدة، والتي انتقدت بشكل كبير من بعض الناس الذين يستخدمون رونالد ريجان الآن لنشر فكرة أننا يجب أن نستمر بقصف الناس”.
—————
في محادثة كانت نهاية كانون الثاني/ يناير، طلبت من الرئيس أن يصف لي التهديدات التي تقلقه ويستعد لتسليمها لخلفه خلال الشهور المقبلة.
قال لي: “بحسب ما أنظر للعشرين عاما المقبلة، فإن التغير المناخي هو ما يقلقني جوهريا بسبب تأثيراته على كل المشاكل الأخرى التي نواجهها”، وتابع: “إذا بدأت برؤية المزيد من الجفاف الشديد، والمزيد من المجاعة، المزيد من النزوح من شبه القارة الهندية والمناطق الساحلية في أفريقيا وآسيا، استمرار المشاكل الحاجة واللجوء والفقر والأوبئة، مما يجعل أي مشكلة أخرى أسوأ، هذا بجانب القضايا الوجودية في كوكب يعيد التاريخ بطريقة سيئة”.
واعتبر أوباما أن “الإرهاب مشكلة طويلة الأمد عند اندماجه مع مشكلة الدول الفاشلة”.
أي دولة يعتبرها أكبر التحديات على أمريكا في العقود القادمة؟ “بمصطلحات علاقات الدول الكبرى التقليدية، أظن أن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين ستكون الأكثر خطرا، وإذا كنا نسير بشكل صحيح واستمرت الصين بالصعود السلمي، فنحن لدينا شريك في القدرات ويشاركنا بالأعباء ومسؤوليات الحفاظ على النظام العالمي. إذا فشلت الصين، إذا لم تكن قادرة على الحفاظ على نسق يرضي شعبها وكان عليها أن تعزز القومية كمبادئ ناظمة، إذا شعرت أنها مداهمة بحيث أنها لن تأخذ المسؤوليات على بلد بحجمها للحفاظ على النظام العالمي، إذا نظرت للعالم فقط بمصطلحات مجالات التأثير الإقليمية، لكننا لا نخشى الصراع المحتمل مع الصين، لكننا سنجد أنفسنا نعاني من صعوبة بالتعامل مع التحديات الأخرى القادمة”.
أشرت إليه إلى أن الكثير من الأشخاص يريدون من الرئيس أن يصبح أكثر قوة بمواجهة الصين، خصوصا في بحر جنوب الصين، ومنهم هيلاري كلينتون التي قالت في جلسات خاصة “لا أريد من أحفادي أن يعيشوا في عالم تهيمن عليه الصين”.
قال أوباما: “لقد كنت واضحا جدا بقول إن لدينا المزيد لنخشاه من صين ضعيفة ومهددة من صين ناجحة وصاعدة. أظن ان علينا أن نكون حازمين بالمناطق التي تقوض بها تحركات الصين المصالح الدولية، وإذا نظرت كيف تحركنا في بحر جنوب الصين، سترى أننا كنا قادرين على حشد معظم آسيا لعزل الصين بطرق فاجأت الصين، وبصراحة؛ أظن أننا خدمنا مصالحنا عبر تقوية حلفائنا”.
روسيا ضعيفة ومتأرجحة تمثل تهديدا كذلك، لكنه ليس في قمة التهديدات، إذ قال أوباما: “بعكس الصين، فهم لديهم مشاكل ديموغرافية ومشاكل بنيوية اقتصادية، لا تتطلب رؤية وحسب، ولكن جيلا قادما. الطريق الذي يتبعه بوتين لن يساعده على تجاوز هذه التحديات، لكن في تلك البيئة فإن السعي لإظهار قوة عسكرية قوي وفعال، وهذا ما يريده بوتين. لذلك فأنا لا أقلل من المخاطر هناك”.
أوباما كرر هذه النقطة مرارا علي، بأنه يأمل بأن البلاد، والرئيس القادم، سيحتوي: “مفهوم أن الدبلوماسية والتكنوقراط والبيروقراط سيساعدون بإبقاء أمريكا آمنة ومطمئنة، حيث يعتقد معظم الناس: إيه، هذا هراء. لكن هذا صحيح. وعلى فكرة، فهذا عنصر القوة الأمريكية الذي يحترمه بقية العالم لأجلها. عندما ننشر قوات، فهناك دائما حس لدى الدول الأخرى، حتى عندما يكون الأمر ضروريا، بأننا ننتهك السيادة”.
————
خلال العام الماضي، زار جون كيري البيت الأبيض مرارا ليطلب من أوباما انتهاك سيادة سوريا. وفي مناسبات متكررة، كيري طلب من أوباما إطلاق صواريخ على أهداف محددة لنظام، تحت غطاء الليل، “لإرسال رسالة” للنظام. الهدف، بحسب كيري، كان ليس إسقاط الأسد، ولكن لتشجيعه، مع إيران وروسيا، على التفاوض على السلام. عندما ملك تحالف الأسد اليد العليا في الميدان، كما حصل في الشهور الأخيرة، لم يكن هناك ميل من جانبه بأخذ توسلاته للتفاوض بنية حسنة. بعض صواريخ بالستية، بحسب كيري، قد تركز انتباه الأسد وداعميه، إذ قال مسؤول رسمي لي: “كيري يبدو كأحمق مع الروس، لأنه لا يملك النفوذ”.
أمريكا لم تكن لتدعي مسؤوليتها عن الهجمات، بحسب ما أخبر كيري أوباما، لكن الأسد يعرف من أين أتت الصواريخ بالتأكيد.
أوباما رفض مرارا طلبات كيري، ويبدو أنه لم يعد صابرا على ضغوطاته. مؤخرا، عندما سلم كيري أوباما مسودة مكتوبة ببعض الخطوات للضغط على الأسد، قال أوباما: “أوه، طلب آخر؟”، كما قال لي مسؤولون في الإدارة إن نائب الرئيس بايدن أصبح يتضايق من طلبات كيري باتخاذ خطوات. قال بشكل خاص لوزير الخارجية: “جون، هل تذكر فيتنام؟ هل تذكر كيف بدأت؟”.
في لقاء لمجلس الأمن القومي عقد في البنتاغون في كانون الأول/ ديسمبر، أعلن أوباما أنه لا يوجد أحد باستثناء وزير الدفاع يجب أن يقدم طلبات للتدخل العسكري، وفهم مسؤولو البنتاغون أن هذا الإعلان موجه تماما لكيري.
في أحد أيام كانون الثاني/ يناير، في مكتب كيري في وزارة الخارجية، عبرت له عن التالي بوضوح: كيري لديه انحياز لاتخاذ إجراء ما أكثر مما لدى الرئيس.
اعترف كيري: “نعم، لدي. انظر؛ القول الأخير في هذه الأمور يرجع له. سأقول إن لدينا علاقة تكافلية وتآزرية وما شت أن تسميها، وتعمل بفعالية كبيرة. لأن هذه الانحياز سيأخذ شكل: لنجرب فعل هذا، لنجرب فعل ذلك، لنتمم هذا”.
صبر أوباما في سوريا أغاظ أولئك في الإدارة الذين رؤوا فرصا، في لحظات مختلفة خلال الأربع سنوات الماضية، لقلب الكفة ضد الأسد. اعتقد البعض أن قرار بوتين للقتال لصالح الأسد سيجع أوباما لتكثيف الجهود الأمريكية لمساعدة الثوار، لكن أوباما، على الأقل حتى لحظة هذه الكتابة، لن يتحرك، جزئيا لأنه يعتقد أنه ليس شأنه إيقاف روسيا من القيام مما يعتبره خطأ كارثيا، فقد أخبرني: “هم توسعوا، وهم ينزفون، واقتصادهم تناقص لثلاثة أعوام متتالية جذريا”.
في آخر لقاءات مجلس الأمن القومي، كانت استراتيجية أوباما المعتادة هي ما يسميه “مسعى توم سوير”. نظرة أوباما كانت هي أنها إذا أراد بوتين توسيع قوة النظام بدهن السياج في سوريا، فعلى الولايات المتحدة أن تتركه. في نهاية الشتاء، عندما بدا أن روسيا كانت تقوم بتقدم بحملتها لتثبيت حكم الأسد، بدأ البيض الأبيض بنقاش زيادة الدعم للثوار، رغم أن تردد الرئيس للمزيد من الدعم ظلت كما هي . في المحادثات التي أجريتها مع مسؤولين بمجلس الأمن القومي خلال الشهور الماضية، شعرت بنذير بأن أي حادث – مثل حادثة بيرناندينو على سبيل المثال – سيدفع الولايات المتحدة لاتخاذ إجراء مباشر وجديد في سوريا، مما يشكل كابوسا لأوباما.
إذا لم يكن هناك عراق، أو أفغانستان، أو ليبيا، بحسب ما أخبرني أوباما، فإنه سيكون أكثر استعدادا لخوض مخاطر سوريا، قائلا لي: “الرئيس لا يقوم بقراراته في الفراغ. فهو لا يملك حالة فارغة. أي رئيس كان مفكرا، بحسب ما أظن، سيدرك أنه بعد عقد من الحرب، بالتزامات لا زالت حتى اليوم تتطلب موارد هائلة من الموارد والانتباه في أفغانستان، وتجربة العراق، والقيود التي فرضتها على جيشنا، أي رئيس مفكر سيتردد قبل اتخاذ أي التزام في نفس المنطقة بنفس الديناميات وبنفس احتمالية النتائج غير المرضية”.
سألته: هل أنت حذر جدا؟
قال لي: “لا، هل كنت لأفكر لو أننا لم نحتل العراق حيث نحن مرتبطون بإرسال مليارات الدولارات وعدد من المدربين العسكريين والمستشارين لأفغانستان، هل كنت سأفكر بأخذ المزيد من المخاطر بمحاولة تشكيل الحالة السورية؟ لا أعلم”.
ما صدمني هو أنه، حتى مع تحذيرات وزير خارجيته من الكارثة، والتأثير الكارثي للأزمة السورية على أوروبا، فإن أوباما لم يعترف بأن الحرب الأهلية السورية كانت تهديدا أمنيا خطيرا.
تردد أوباما من المشاركة في الحرب السورية دليل لدى نقاده أنه ساذج جدا، فقراره في ٢٠١٣ بعدم إطلاق صواريخ، بحسب قولهم، أنه مخادع.
هذا الانتقاد يستفز الرئيس. “لا أحد يذكر بن لادن بعد اليوم. لا أحد يتحدث عن إرسال ٣٠ ألف جندي إضافي إلى أفغانستان. أزمة الخط الأحمر هي النقطة التي قلبت الهرم الذي تكمن به كل النظريات”.
بأحد الأمسيات نهاية كانون الثاني/ يناير، بينما كنت أغادر المكتب البيضاوي، ذكرت لأوباما لحظة من مقابلة عام ٢٠١٢ عندما أخبرني أنه من غير المسموح لإيران أن تحصل على سلاح نووي: “لقد قلت: أنا رئيس الولايات المتحدة، وأنا لا أخادع”.
فقال لي: “نعم، أنا لا أخادع”.
قبل أربع سنوات، بعد تلك المقابلة بقليل، سألني إيهود باراك، وزير دفاع إسرائيل حينها، ما إذا كنت أعتقد أن وعد أوباما بعدم الخداع هو خدعة بحد ذاته، فأجبته أنني أظن أنه من الصعب أن أتخيل أن زعيم الولايات المتحدة سيخادع بقضية محورية كهذه. لكن سؤال باراك رافقني، لذلك وقفت في الردهة مع الرئيس، وسألته: “هل كانت خدعة؟”. أخبرته أن بضعة أشخاص الآن يعتقدون إنه كان عليه مهاجمة إيران لمنعها من الحصول على سلاح نووي.
قال لي بهدوء: “هذا مثير للاهتمام”.
بدأت الحديث: “هل أنت ..؟”، فقاطعني قائلا: “لقد كنت لأهاجم المنشآت النووية الإيرانية لو أنني رأيتها تنطلق”.
وأضاف: “الآن، النقاش الذي لا يمكن حله، لأنه ظرفي بالكامل، هو ما الذي كان يشكل الحصول على قنبلة. هذا كان النقاش الذي خضته مع بنيامين نتنياهو”، إذ أراد نتنياهو من أوباما أن يمنع إيران من الحصول على قدرات تصنيع القنبلة، وهذا بعيد عن حيازة قنبلة.
قال الرئيس: “لقد كنت محقا بتصديقه، وهذا كان يدخل بسياق المصالح الأمريكية”.
تذكرت حينها شيئا بشيء أخبرني به ديريك تشوليت، مسؤول مجلس الأمن القومي السابق، قائلا: “أوباما مقامر، وليس مخادعا”.
وضع الرئيس بعض الرهانات الضخمة. في أيار/ مايو الماضي، وبينما كان يحاول نقل الصفقة النووية إلى الكونجرس، أخبرته بأن الاتفاقية كانت تستفزني. كان جوابه لي: “انظر، بعد عشرين سنة من اليوم، سأكون لا زلت في الأرجاء، بإذن الرب. إذا كانت إيران قد حازت قنبلة نووية، فإن اسمي مكتوب على ذلك، وأظن من العادل القول أنه إضافة لمصالحنا الجوهرية بالأمن القومي، فإن لدي مصلحة شخصية بإيقاف هذا”.
بخصوص النظام السوري وداعميه الإيرانيين والروس، راهن أوباما، ويبدو أنه مستعد للمزيد من الرهان، أن ثمن التدخل الأمريكي المباشر أعلى بكثير من عدم المشاركة، وهذا متفائل كفاية بالعيش بالتبعات الكارثية للقرار.
برغم أنه قال في خطابه لجائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٩ إن “دموع عدم التحرك في ضميرنا ويمكن أن تؤدي لمزيد من التدخل لاحقا”، يبدو اليوم أن آراء التدخليين الإنسانيين لا تحركه، وليس بشكل عام على الأقل. يعرف أوباما بلا شك أن سامنثا باور الجيل القادم ستكتب ناقدة لعدم رغبته بفعل المزيد لمنع المذبحة في سوريا. (بخصوص هذا، سامنثا باور ستظل أيضا موضوع انتقاد من سامنثا باور القادمة). عندما يصل لنهاية رئاسته، يعتقد أوباما أن فعل لبلده خدمة كبيرة بإبعادها عن العصفة، ويعتقد، وأشك بذلك، أن المؤرخين سيقولون أنه كان حكيما بفعل ذلك.
داخل الجناح الغربي، يقول المسؤولون إن أوباما، كرئيس ورث أزمة مالية وحربين من خلفه، حريص على المغادرة “بسجل نظيف” لمن سيخلفه. لذلك كان قتاله ضد تنظيم الدولة، التنظيم الذي يعتبره خطرا مباشرا، رغم أنه ليس وجوديا، على الولايات المتحدة هي أولوليته العاجلة لبقية رئاسته، قتل من يسمي نفسه خليفة الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي، هو واحد من أهداف الجهاز الأمريكي الأمني في عام أوباما الأخير.
بالطبع، تنظيم الدولة وجد واقعيا بسبب نظام الأسد، ومع معايير أوباما الصارمة، فإن استمرار الأسد بالحكم حتى اللحظة لا تشكل تهديدا مباشرا لأمن أمريكا القومي.
هذا هو المثير للجدل بمسعى الرئيس، وهذا ما سيبقى جدليا لأعوام قادمة: المعايير التي يتبعها، تماما، لتحديد ما يشكل تهديدا مباشرا.
أوباما وصل لمجموعة من الخلاصات المتلاحمة حول العالم، وحول دور أمريكا به. أولها أن الشرق الأوسط لم يعد مهما بشكل كارثي للمصالح الأمريكية. ثانيها أنه حتى لو كان الشرق الأوسط مهما، فإن هناك احتمالا قليلا أن هناك رئيسا أمريكيا سيجعله مكانا أفضل. ثالثها أن الرغبة الأمريكي بإصلاح أنواع المشاكل التي توجد في الشرق الأوسط ستؤدي حتميا للحرب وموت الجنود الأمريكيين ونزيف مصداقية وسلطة الولايات المتحدة. رابعها أن العالم لا يمكنه العيش مع تضاؤل السلطة الأمريكية. مثلما وجد بعض قادة الدول الحليفة للولايات المتحدة قيادة أوباما غير كفؤة بحجم المهمات التي كانت قبله، وجد هو أن العالم الآن عبارة عن: حلفاء دوليين يفتقدون عادة للرؤية والرغبة لإنفاق رأس المال السياسي لتحقيق الأهداف الكبيرة والتقدمية، وخصوما ليسوا منطقيين مثله، بحسب رأيه. أوباما يعتقد أن التاريخ لديه جوانب، وخصوم أمريكا – وبعض حلفائها الوهميين – وضعوا أنفسهم في الجانب الخاطئ، حيث القبلية والتطرف والطائفية والعسكرتاريا لا زالت تزدهر، لكن ما لا يفهمونه أن التاريخ في صفه هو.
أخبرني بين رودز: “النقاش المركزي هو أنه بإبقاء أمريكا بعيدة عن استنزاف نفسها في أزمات الشرق الأوسط، فإن مؤسسة السياسة الخارجية تعتقد أن الرئيس يعجل بانحدارنا، لكن الرئيس نفسه يأخذ النظرة الأخرى، وهي أن التوسع في الشرق الأوسط سيؤذي في النهاية اقتصادنا وقدرتنا على البحث عن فرص أخرى والتعامل مع تحديات أخرى، أكثر أهمية، وتهدد أرواح الجنود الأمريكيين، لأسباب ليست داخلة في مصلحة الأمن القومي الأمريكي المباشرة”.
إذا كنت داعما للرئيس، فإن استراتيجيته ذات منطق واضح: كثف تواجدك في أجزاء العالم حيث النجاح أكثر احتمالية، وحد تأثيرك في البقية، بينما يعتقد ناقدون أن المشاكل مثل الشبيهة في الشرق الأوسط لن تحل نفسها، وبدون التدخل الأمريكي فإنها ستتضاعف.
حتى اللحظة، تشكل سوريا، حيث يبدو أن التاريخ منحاز نحو المزيد من الفوضى، تمثل التحدي المباشر لنظرة الرئيس للعالم.
جورج دبليو بوش كان مقامرا كذلك، ولم يكن مخادعا، وسيذكره التاريخ بشدة لأشياء فعلها في الشرق الأوسط، بينما يراهن باراك أوباما أن التاريخ سيذكره جيدا لأشياء لم يفعلها.