باسل حفار
منذ فترة طويلة قررت تركيا أنها ليس طرفاً في حرب أي أحد، هذا القرار ليس وليد السنوات العشر الأخيرة ولا التي قبلها ولا التي قبلها، تركيا قررت أن الحرب الوحيدة التي يمكن أن تخوضها هي حربها هي -إن وجدت- وأن هذه الحرب لا يجب أن تكون حرباً من النوع الذي يحتمل الخسارة بل يجب أن تكون حرباً لا خسارة فيها، قررت هذا في فترة ما بين الحربين قبل حوالي 100 عام، بعد أن درست مخرجات الحرب العالمية الأولى وتبعاتها عليها وقررت أن الخطأ الذي ارتكبته كان انحيازها لأحد الأطراف في عالم لا يعرف إلا لغة القوة والمصالح.
وخلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها وصولاً إلى الحرب الأوكرانية اليوم، طورت تركيا كثيراً من قدرتها على اللعب وفق هذه الاستراتيجية (الانحياز الفاعل) واستطاعت مراراً أن تتخطى تحديات عالمية كبيرة بخسائر معقولة -أو هكذا اعتبرتها-، حتى أصبحت هذه الاستراتيجية جزءاً أصيلاً من طريقة التفكير والتموضع التركي وليس مجرد تكتيك عابر تستخدمه تركيا عند اللزوم.
مع بداية الربيع العربي وصولاً إلى الحالة السورية وجدت تركيا نفسها عدة مرات مطالبة باتخاذ موقف والانحياز لطرف معين غالباً كان الطرف الغربي باعتبارها من معسكره، ولكنها حرصت على أن لا تفعل ذلك، كان أوضح اختبار لهذا الفعل هو ليبيا القذافي عندما استجمعت القوى الغربية أدواتها وقررت الاطاحة بالقذافي بطريقة معينة ولكن تركيا فاجأت العالم عندما قررت أنها لا ترى أن ذلك من مصلحة ليبيا وأعلنت عدم مشاركتها في العمليات، لاحقاً حاول الغرب -كما العادة- معاقبة تركيا على موقفها عبر حرمانها من تركة ليبيا أو ما اعتبر تركة وكنزاً ثميناً في ذلك الوقت، ليتبين لاحقاً أن لعنة التدخل الأوروبي لم تكن لتمر دون أن تحول ليبيا إلى مسرح للإرهاب والحرب الداخلية وتصفية الحسابات الدولية ما أفسح المجال من جديد أمام دور تركي استعد لهذه اللحظة جيداً وصولاً إلى الوضع الذي عليه ليبيا اليوم.
الأمر نفسه تكرر في سوريا عندما وجدت تركيا نفسها مطالبة في عدة مناسبات بأن تكون رأس الحربة في الصراع مع روسيا ولكنها آثرت البحث عن مقاربة تهرب فيها من خوض حرب مع دولة عظمى بالنيابة عن أوروبا أو عن دولة عظمى أخرى، وبدلاً من ذلك عززت من تموضعها ورفعت من مستوى علاقاتها وروابطها مع كل الأطراف وخصوصاً روسيا حتى أصبحت فاتورة تجاوز تركيا أكبر بكثير من أن يتم تجاهلها، وهذا تطلب الكثير من الهروب إلى الأمام، إلى سوريا وليبيا وأفريقيا والمتوسط والعراق وغيرها، وما زال.
اليوم ومع تجاوز فكرة الحرب ضد روسيا إلى حد كبير، هناك تهديد آخر يلوح في الأفق ولكن ليس من بوابة الحرب هذه المرة بل من بوابة الاستقرار والسلام..
إذ يبدو أن كلفة السلام مع روسيا ليست أقل كثيراً من كلفة الحرب، فروسيا التي تعتبر ظهور قيصرها إلى جانب رئيس آخر بحد ذاته تواضعاً من طرفها، لا تنظر إلى المواقف المتزنة التي تحاول إمساك العصا من الوسط على أنها مواقف إيجابية وكافية، ففي حربها مع الآخر تعتبر كل تأخر عن مناصرتها تخاذل، وكل تردد في الوقوف إلى جانبها غدر.
لكنها في خضم ذلك لم تتمكن -بعد- من فرض معاييرها الخاصة للولاء والبراء على العالم، ولا تملك في هذه المرحلة إلا أن تعاير الأمور بطريقة نسبية، فبغض النظر عن تقييمها للموقف التركي فهي لا تملك معايرته إلا بمقارنته مع مواقف الدول الأخرى وبالتالي تجده أكثر اتزاناً وفاعلية، ويفرض عليها المنطق أن تتعامل معه وتستثمر فيه لأنه الأكثر تفهماً وعقلانية -من وجهة نظرها-.
ولطالما أفسح هذا التموضع المجال لتركيا لحصد مكاسب هامة على هامش أزمات العالم، وكان اتفاق تحويل تركيا إلى مركز عالمي لتوزيع الحبوب أبرز هذه المكاسب الاستراتيجية التي استُبشر بها خيراً ولكنه ما لبث أن تعثر على وقع المماطلة الروسية التي لا تعتبر وسطية الموقف التركي ثمناً كافياً للمضي بهذا المشروع وغيره من القضايا العالقة على مستوى أوكرانيا أو سوريا وغيرها من الملفات.
لقد حرصت روسيا على خوض محادثات خاصة مع تركيا خلال الأسبوع الماضي تضمنت مفاوضات حول فتح عدد من الشركات الروسية الكبيرة فروع لها في تركيا وتحويل أعمالها لتديرها من تركيا أو لتتلقى التمويل والمعاملات المالية من تركيا، وفي مقدمة هذه الشركات شركة غازبروم الروسية التي تتحكم بتصدير الغاز الروسي إلى معظم دول أوروبا.
في الحقيقة هذا تطور هام ويجعل من علاقة تركيا بروسيا علاقة وثيقة ويعزز فكرة تحول تركيا إلى مركز عالمي لإدارة النزاعات ومرور الأموال وخطوط الطاقة والمؤن العالمية،
ولكن هذا أيضاً ينطوي على مخاطرة كبيرة، فهذه الشركات التي يريد الروس فتح أبوابها في تركيا هي شركات موضوعة على قائمة العقوبات الدولية والأمريكية تحديداً وهي ذاتها عصب الاقتصاد الروسي ووسيلة أو بوابة تفاعل روسيا مع الكثير من دول العالم، وبالتالي فسيكون على تركيا مراعاة روسيا أكثر والاندماج مع مصالحها أكثر.
لقد استطاعت تركيا في المرحلة الحالية تجاوز فكرة أن تكون طرفاً في حرب دولية، ورسخت أقدامها في مسار الدبلوماسية الدولية ولأول مرة من زمن بعيد، بدأت بتحويل هذا المكسب إلى قيمة ملموسة عبر ترسيخ دورها كمركز لتزويد العالم بالمؤن وإدارة الاقتصادات العظمى، وألحقت ذلك باستعدادها لخوض عمليات عسكرية خاصة جديدة في سوريا لاستكمال مشروعها القاضي بتأمين مستقبل دولتها لمئة سنة أخرى عبر التحييد الكامل للخطر القادم من الشرق أو الجنوب وليس فقط إضعافه، و كتحصيل حاصل لتموضعها هذا لم تجد حرجاً في مواجهة الإرادة الامريكية ورفضت ضم دول جديدة إلى الناتو مثلاً، ولكنها وسط هذا كله تجد نفسها يوماً بعد يوم محتاجة لدفع ثمن هذه الأوراق التي تلعبها على طاولة الكبار، وإلا فإن بدائل خطيرة تنتظرها،
يرتفع في الولايات المتحدة والغرب صوت ليس بالهين ينادي بطرح عضوية تركيا في الناتو على طاولة التصويت، وهناك صوت آخر أكثر تطرفاً يدعو إلى اعتبار تركيا في خانة الأعداء وشملها بخطط المواجهة.
وفي روسيا أيضاً تتعالى الأصوات أحياناً بتحجيم الدور التركي والتقليل من شأنه مثل التصريحات التي أطلقها ممثل روسيا في لقاء أستانا الأخير واللهجة التي استُخدمت في الحديث عن العملية التركية المرتقبة وموقف روسيا منها، وكيف أن روسيا لا تعتبر موقف تركيا من فنلندا والسويد مبرراً لكي تغض الطرف عن تحركات تركيا،
وعلى صعيد جبهة أخرى فقد نجحت اليونان بالفعل حتى الآن بتسليح معظم جزر إيجة ووضعت تركيا أمام خيار السكوت على هذا الواقع وهو ما سيبلور معادلة ردع تميل لصالح اليونان بشكل كبير أو الاستعداد لخوض مواجهة لا تحمد عقباها ستشكل مصدر استنزاف جديد لتركيا إن لم يكن الأسوء.
بينما تصعد إسرائيل وإيران شيئاً فشيئاً من مساحة المواجهة بينهما لتصل إلى داخل تركيا بطريقة لم تشهدها تركيا من قبل.
تبدو مكاسب تركيا كبيرة واستراتيجية، ولكنها خطرة أيضاً، ويبدو أن تركيا التي اتقنت خلال العقود الماضية لعبة “الانحياز الفاعل” واقعة اليوم تحت اختبار “حصد المكاسب” وليس فقط الاكتفاء بتجاوز المخاطر، الخبر الجيد أن تركيا تمارس الكثير من ضبط نفس، وتتحرك على أرضية صلبة ولا تبدو مستعجلة للحصاد بقدر حرصها على ما بعده، كل هذا يبشر بخير بشأن ما ستؤول إليه الأمور، ولكن تركيا تواجه ضغطاً ليس بالهين على الصعيد الداخلي بسبب الاقتصاد والفوضى السياسية وملف الأمن واللاجئين والمشاريع والاستثمارات الكبيرة التي لا يجب أن تتعطل أو تتوقف وإلا فستتأخر عن اللحاق بركب الحضارة الذي تريد ريادته، وهو ما يضعها أمام تحدي الموازنة بين استعجال الحصاد أو انتظار نضوجه.