أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم الاثنين الماضي عن فشل الاتحاد الاوروبي في إنجاز الوعود التي قطعها في صفقة الهجرة التي أبرمت مع أنقرة. وجاء البيان وسط شائعات بأن المفوضية الأوروبية لم تتمكن من الاتفاق على طريقة مناسبة للتعامل مع تركيا، وهو ما قد يحدد شكل تدفقات المهاجرين إلى القارة عبر السنوات القادمة. وكانت بعض الجهات الأوروبية قد اقترحت تقليص التعاون مع الحكومة التركية سيما بعد الاجراءات التي اتخذتها انقرة منذ ١٥ يوليو بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في البلاد، فيما أشار أخرون إلى أن الحفاظ على الاتفاق الذي جاء للحد من تدفقات المهاجرين إلى أوروبا، لا بد أن يمر عبر عدم السماح بتصاعد أزمة الهجرة نفسها. هذه النقاشات وغيرها بدأت تأخذ مكاناً داخل الدول الأعضاء الأساسيين في الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسهم ألمانيا، خاصة وأن رؤية بدأت تتشكل عن قدرة النزاع وطبيعته على تحديد طلبات اللجوء المقدمة إلى أوروبا في المستقبل.
أزمة المهاجرين التي بلغت ذروتها في النصف الثاني من عام ٢٠١٥، شكلت تهديداً حقيقياً للاتحاد الاوروبي عبر عدة مجالات، فهي وضعت دول الاتحاد الأوروبي في مأزق في كيفية التعامل مع مئات الآلاف من الناس الذين كانوا يعبرون أراضيهم ويطلبون اللجوء. اتجهت بعض الدول الأوروبية إلى إغلاق حدودها وبناء الأسوار وهو ما عرض اتفاق “شنغن” للخطر. كما تفاقمت الأزمة والتوترات بين أعضاء الاتحاد الأوروبي حيث اتهمت بلدان شمال أوروبا البلدان الجنوبية بالفشل في تسجيل المهاجرين، فيما اتهم الجنوبيون الشماليون بعدم التضامن. فيما تجاهلت دول أوروبا الشرقية خطط توزيع المهاجرين على دول الاتحاد بكل بساطة، ولعل أخطر تلك الأزمات كان ما عصف بالسياسة الأوروبية بعد أن تمكنت أحزاب مناوئة للهجرة من الصعود في القارة لتزيد حالة عدم اليقين السياسي في جميع أنحاء أوروبا.
موقع تركيا الواقع بين دول أوروبا ومناطق الصراع في الشرق الأوسط، ولا سيما سوريا، جعل منها شريكاً طبيعياً لا غنى عنه للقارة التي كانت تحاول يائسة مواجهة موجات تدفق المهاجرين. أنقرة، في المقابل، رأت في التعاون بشأن الهجرة فرصة لتحقيق تقدم لمطالبها من أوروبا. وبالفعل، وعد الاتحاد الاوروبي في أواخر العام ٢٠١٥ تركيا بإعطائها المال، واستئناف المفاوضات المخصصة بشأن انضمامها للاتحاد الأوروبي ورفع القيود على تأشيرات دخول المواطنين الأتراك إلى أوروبا – كل هذا في مقابل الحصول على مساعدة تركية لمنع وصول المهاجرين إلى دول الاتحاد الأوروبي. وبطبيعة الحال، فإن كثيراً من أعضاء الاتحاد الأوروبي يعتقدون أن إحياء محادثات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي وتنفيذ اعفاء التأشيرة عن المواطنين الأتراك – قرابة ٧٥ مليون نسمة معظمهم مسلمون- سيؤدي لشكل أو بآخر إلى زيادة نسبة الهجرة من تركيا نفسها إلى أوروبا. ولكن، بالنظر إلى المشاكل الكبيرة التي تولدت بسبب الهجرة بدت تلك الوعود ذات سعر معقول للدول الأوروبية.
نجح الاتفاق إلى حد ما من وجهة نظر الأوروبيين على الأقل منذ دخوله حيز التنفيذ في شهر مارس الماضي، فقد انخفضت أعداد اللاجئين الواصلين إلى اليونان بشكل حاد، بعد ان كانت أعدادهم تتجاوز ٢١٢ ألف شخص في أكتوبر ٢٠١٥، لتصل إلى ما يقارب ١٥٠٠ شخص في يونيو حزيران الماضي. وبكل تأكيد فإن هناك أسباب أخرى عززت هذا الانخفاض، مثل إغلاق الحدود على طول طريق الهجرة غرب البلقان وصرامة قوانين اللجوء بشكل أكبر في دول المقصد.
لم ينجح الاتفاق في وضع حد للخلاف السياسي بين دول الاتحاد الأوروبي، كما أنه لم ينجح في تخفيف الخطر المحدق باتفاق “شنغن”. وكذلك لم يمنع المهاجرين من استخدام خطوط تحرك جديدة، كتلك الطرق التي تربط شمال افريقيا بأوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط. وبعيداً عن هذه الحقائق، نجح الاتفاق في تهدئة الاضطراب السياسي في القارة خاصة داخل ألمانيا، حيث تحسنت شعبية الحكومة بعد أشهر من الانتقادات الشعبية للطريقة التي جرت فيها إدارة أزمة اللاجئين.
لكن موجة من الأحداث الأخيرة وضعت الصفقة في خطر، ففي غضون ١٠ أيام، تعرضت فرنسا لهجوم إرهابي كبير، وشهدت ألمانيا عدداً أقل من الهجمات، فيما عاشت تركيا محاولة انقلاب فاشلة. وعلى الرغم من أن جميع الجناة في هذه الحالات يملكون دوافع وأهداف مختلفة، إلا أنهم جميعاً يشتركون بسمة واحدة ألا وهي أنهم جميعاً كانوا إما مهاجرين أو من أنباء المهاجرين. هذه الحقيقة لن تساهم أبداً في وقف المد المتصاعد للمشاعر المعادية للمهاجرين في أوروبا. فالهجمات على ركاب قطار “فورتسبورغ” والمتفرجين في مهرجان الموسيقى في “أنسباخ” الألمانية، تشكل تولد قلقاً من نوع خاص، خاصة وأنها نفدت على يد لاجئين أو طالبي لجوء وفي ألمانيا التي فتحت حدودها لطالبي اللجوء في أغسطس ٢٠١٥، وهو ما يشعر الجميع بالقلق تجاه التداعيات السياسية لهذه الهجمات.
الانقلاب في تركيا يمثل زعزعة لبرلين بالتساوي مع انقرة. فحملة أردوغان على خصومه السياسيين في المجتمع التركي ووسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية والجيش سيجعل من الصعب على مؤسسات ودول الاتحاد الاوروبي دعم الصفقة حتى النهاية. وحتى الآن، استملت تركيا فقط ما يتراوح بين مليون ومليوني يورو من إجمالي ٣.٣ مليار يورو وعدت تركيا سابقاً بها. هذا عدا عن أن الشروط الأخرى ستكون أكثر صعوبة أمام التطبيق. فمثلاً كان الوعد باستئناف محادثات الانضمام وعداً زائفاً، ولم يستطع من وعد به ضمان استمراره. علاوة على ذلك، لا تزال قضية تحرير التأشيرات للأتراك قضية معلقة حتى اللحظة. وفي أعقاب الانقلاب الفاشل، طلب حكومات الاتحاد الأوربي والتكنوقراط من أنقرة التخلي عن تعدها بإعادة العمل بعقوبة الإعدام، بالإضافة إلى مجموعة من الطلبات السابقة لإصلاح قوانين مكافحة الإرهاب التركية.
وهكذا تجد ألمانيا نفسها في موقف حرج مخافة تدهور اتفاق بروكسل مع أنقرة، وتدهور الموقف في تركيا. وبكل تأكيد فإن الهجمات الأخيرة جعلت برلين أكثر حرصاً من أي وقت مضى على وقف طالبي اللجوء الجدد من الوصول إلى الاتحاد الأوروبي. وتواجه ألمانيا حالياً صعوبة كبيرة في إقناع البرلمان الاوروبي الذي يوجه انتقادات شديدة للحكومة التركية.
وحتى الآن لم يتم تحديد موعد لمناقشة برنامج التأشيرة، كلن من المحتمل أن تناقش هذه المسألة عندما يستأنف البرلمان الأوروبي جلساته في أوائل سبتمبر القادم. وفي جميع الاحتمالات، فإن السلطة التشريعية ستؤخر قرارها إلى حين تنفيذ أعضاء الاتحاد الأوروبي لتدابير إضافية للحد من الظروف التي يسمح بها في السفر دون تأشيرة وتعليقها في أوقات الحاجة. لكن في نهاية المطاف، لا يبدو ان الأوروبيين على استعداد للتعامل مع أزمة الهجرة مجدداً خاصة في ظل نتائج الاستفتاء البريطاني.
هذا كله يعطي أردوغان نافذة جيدة لتشديد قبضته على السياسة التركية قبل النظر في التقارب مع الاتحاد الأوروبي. فالرئيس يعرف أن لديه القدرة على التأثير في أوروبا، ولكنه يريد أيضاً الحفاظ على التجارة والاستثمار والعلاقات السياسية معها. وتحقيقاً لهذه الغاية، فمن المحتمل أن يستمر الجانب التركي في تنفيذ اتفاق الهجرة، حتى في الوقت الذي ينتقد فيه الإغلاق. التوتر بين تركيا وأوروبا سيستمر، وفي حال ما استمر العداء في الارتفاع بينهما، ستواجه أوروبا خطر انفجار ازمة قد يظن الاوروبيون أنهم قد تركوها وراءهم.