نشر مركز ويلسون مقالاً للدبلوماسي الأمريكي جيمس جيفري (سفير سابق في العراق وتركيا، ومبعوث خاص للتحالف الدولي لهزيمة داعش) تحدث فيه عن استراتيجيات موسكو في التعامل مع الملف السوري ويقارن ذلك بما يجري اليوم في أوكرانيا، أهم ما جاء فيه:
تدعم الولايات المتحدة تمرد أوكرانيا ضد روسيا حيث تحضر الأخيرة لاجتياحها، لكن الدعم الأمريكي يحتاج مزيداً من التفاصيل وإعادة تفكير لأنه ليس من الواضح حتى الآن ما إذا كانت هناك خطط جدية لدعم الموقف الأوكراني، ويبدو للمحللين أن الخطاب الصادر من واشنطن مجرد قعقعة لردع موسكو عن إشعال حرب في شرق أوروبا على نمط ما فعله أوباما في 2015 عندما قال أن تدخل روسيا في سوريا سيكون سيجعلها تعلق في مستنقع وهذا لم يتحقق، وأيضاً ما قاله نائب الرئيس ديك تشيني في عام 2003 حين تنبأ بأن العراقيين سيرحبون بالقوات الأمريكية كمحررين وهو ما لم يحصل. وقد يكون دعم التمرد في أوكرانيا مثالًا آخر على هذا النوع من التفكير الخيالي.
مع ذلك لو أردنا مناقشة افتراض الدعم الأمريكي لأوكرانيا يجب أن نعلم أن الدعم الأمريكي للتمرد في أوكرانيا يتطلب أن يكون هذا التمرد موجوداً من الأساس، إذ تشير بعض التغيرات السياسية والديموغرافية في أوكرانيا إلى أن البلاد قد تنحى باتجاه حراك ضد التوغل الروسي، فأوكرانيا بلد ضخم فيه عدد كبير من السكان وأصبح الآن أكثر معاداة لروسيا، كما تتمتع البلاد بتاريخ من حروب الجماعات والعصابات خلال الحرب العالمية الثانية ولها حدود طويلة مع دول الناتو التي قد تكون على استعداد لنقل الأسلحة وتوفير الملاذ. لكن من الصعب تمييز شرارة أي تمرد مقدمًا. إنها ظاهرة سياسية نفسية تتولد بعفوية وتتطلب وجود قائد مناسب، وإيديولوجية متبناة من المعارضة، ودعم خارجي، يصعب على المحللين، بمن فيهم الخبراء العسكريون الأمريكيون والقيادة الأوكرانية، أن يكونوا متأكدين مسبقًا ما إذا كان السكان الأوكرانيون سيثورون أم لا.
وفي هذه الحالة الشيء الوحيد الذي يمكن تحليله هو موقف موسكو وردها المحتمل على هذا الدعم. ففي الحالة السورية استطاعت روسيا القضاء على المعارضة المدعومة من أمريكا وجهات أخرى، ولكنه لم يتمكن من القضاء على داعش، وتضمن النهج الروسي المرونة السياسية والدبلوماسية الذكية لكن في جوهره تضمن الوحشية من خلال القصف للمناطق المدنية.
كانت قوات الأسد منهارة ضد قوات عربية سنية متحمسة للغاية لإسقاطه لكن التدخل الروسي أكسب قوات الأسد اليد العليا من خلال حملات قصف ممنهجة ضد ملاجئهم والبنية التحتية مثل المستشفيات والطرق ومصادر رزقهم، لم تنخرط روسيا بالتكتيكات التي اتبعها الأسد والإيرانيين مثل استخدام الأسلحة الكيمائية واعتقال مئات الآلاف، والإعدامات الجماعية، والتعذيب على نطاق واسع، لكنها غضت الطرف عنها ووفرت الغطاء السياسي للأسد
اعتمدت روسيا استراتيجية الأسد للتطهير العرقي حيث طرد أكثر من نصف السكان السوريين من منازلهم وأصبحوا مشردين ولاجئين إلى دول الجوار، استراتيجية روسيا وحليفها هذه المتضمنة التهجير القسري كلفت دول الجوار والمجتمع الدولي أكثر من قرابة 100 مليار دولار منذ عام 2011، وهو ما يفوق بكثير تكلفة التدخل الروسي في سوريا.
في الوقت نفسه تعاملت روسيا مع المعارضة بمرونة سياسية ساخرة من خلال التعامل مع المعارضة المهزومة والجهات الراعية لها، حيث خرقت روسيا عدة اتفاقات موقعة مع تركيا في أربع مناطق وسمحت للأسد بالسيطرة عليهم باستثناء اتفاقية إدلب والتي اجبرت أنقرة على إدخال آلاف الجنود لحمايتها من روسيا، بل إن القوات الروسية قامت أحيانًا بحماية عناصر المعارضة من جيش النظام السوري والميليشيات الإيرانية، وكانت النتيجة انتصارات سهلة وسريعة وغير دامية.
كانت روسيا تنسق دبلوماسيتها مع التقدم العسكري على الأرض حيث سعت إلى إضعاف معنويات المعارضة المسلحة وداعميهم من خلال تصوير موسكو على أنها عاصمة الحل للقضية السورية وكانت تلعب أيضاً على حبل المخاوف الأمنية لدول الجوار لسوريا مثل حزب العمال الكردستاني ومخاوف إسرائيل من الميليشيات الإيرانية وقلق الجميع من تدفق اللاجئين، نتيجة لذلك واجه المجتمع الدولي المعارض لسياسة روسيا تجاه سوريا صعوبة في التوحد حول خطة عمل مشتركة، وقد عززت روسيا هذا الأمر في مجلس الأمن، عندما وافقت على عملية سلام للأمم المتحدة في سوريا بموجب القرار 2254 بينما ضمنت عمليًا حصر تحركات الأمم المتحدة ضد الأسد بمواقف الإدانة دون إجراءات عملية، ومارست الضغط على مجلس الأمن بشأن ملف تسليم المساعدات الإنسانية.
باختصار، كان نهج روسيا في مكافحة التمرد عكس نهج الولايات المتحدة في أفغانستان: أثر صغير وليس كبيراً، ارتكاب فظائع متعمدة بدلاً من القلق بشأن الخسائر في صفوف المدنيين، تخيير العالم للتسامح مع نقاط ضعف الأسد أو القبول بدولة مشوهة فاشلة، استمالة المعارضة الداخلية والدولية من خلال الرشاوى والابتزاز أو التعامل وفق ثنائية “نحن في مواجهة هم”، والنتيجة النهائية لهذا كله: إما أن تعتبر نفسك منتصراً على الطريقة الروسية أو الإقرار بالهزيمة والفشل.
وبالقياس على الحالة السورية فإنّ أيّ تمرد أوكراني سيكون الرد الروسي عليه شرساً وذكياً على المستوى العسكري والسياسي، ومع ذلك فهناك جانب إيجابي -وإن كان مصحوباً بالمخاطر-، فعندما واجهت روسيا قوات عسكرية قوية تابعة لدول مثل الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا راغبة الدفاع عن أمنها، سعت موسكو لإمساك العصا من المنتصف، وتم الوصول إلى نتائج معقولة عبر مراعاة نقطتين أساسيتين: الوضوح حول المصالح الأساسية لجميع اللاعبين الرئيسيين، واستعداد كل جانب لاحترام مصالح الآخرين.
لقد صاغ مخططو وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الاستراتيجيون ما أصبح يعرف بـ “قواعد موسكو” للعمليات السرية خلال الحرب الباردة لاحتواء تطلعات الإمبراطورية السوفيتية للهيمنة. اليوم يجب على صانعي السياسة والمسؤولين الحكوميين الحذر من نشر روسيا “لقواعدها السورية” مرة أخرى في أوكرانيا.